عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 16-12-2021, 11:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,571
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف(2)


أحمد الشحات










يذكر لنا القرآن في قصة شباب الكهف خبر بضعة نفرٍ من الشباب، لم يتجاوز عددهم السبعة على أصح الأقوال، لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، عاش هؤلاء في زمنٍ الله أعلم به، ولكنَّهم كانوا في مكانٍ يعلوه الكفر والظلم والبطش، فلم يكن لهم ظهرٌ يحميهم أو قوةٌ يحتمون بها، لذلك لم يكن أمامهم بعد إذ أظهروا دعوتهم وأنكروا على قومهم سوى الفرار، فالبقاء وسط هذا الكفر لا يُمكِّنَهُم من إقامة شعائر دينهم؛ فضلًا عن أن يتمكنوا من الإنكار على قومهم، ولن يرضى منهم هؤلاء الظالمون إلا الدخول في دينهم كُرهًا أو تسليمهم للقتل رجمًا.

وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن تفاصيل هذه القصة وكيف فر هؤلاء الفتية إلى الكهف، ثم تحدثنا عن أصول دعوتهم والتشابه بين قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل الكهف، ثم ذكرنا أنَّ التثبيت من عند الله -تعالى-، واليوم نتكلم عن محور مهم ذكره القرآن في القصة، ألا وهو الحركة بالدعوة وتبليغ الحق للخلق، رغم قسوة الظروف وشدة البلاء.

التسرية عن قلب النبي - صلى الله عليه وسلم

فقد كان من حكمة ذكر التجربة الدعوية لشباب الكهف أن تكون القصة تسريةً عن قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن معه مِن الصحابة الذين ظلوا يدعون إلى دين الله رغم التضييق والحصار والأذى طوال ثلاثة عشر عامًا، قبل أن يأذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة، وهكذا يتقوَّى المؤمنون بإخوانهم عبر التاريخ، حتى وإن لم يروهم، فنحن نحب شباب أهل الكهف، ونشهد لهم بالإيمان كما شهد لهم القرآن، ونحب سيرتهم ونهتدي بها رغم تباعد السنين، ونسأل الله أن يجمعنا بهم في جنته إخوانًا على سررٍ متقابلين.

وقفات مع الآيات

وهذ وقفات مع الآيات التي وردت فيها القصة لنأخذ منها العبرة والعظة لعلنا نتحرك بديننا كما تحرك هؤلاء الفتية:

(1) آيات الله الدامغة

قال الله -تعالى-: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}، بدأت الآيات بدايةً قويةً مزلزلةً؛ لأنها جاءت في مقام الرد على تحدي المشركين واليهود؛ حيث طلب المشركون من اليهود أن يدلوهم على ما يحرجوا به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ظنًّا منهم أنهم سوف يُظهرون عجزه، ومن ثم يصيبون الدعوة في مقتل، فسوف تنطلق أبواقهم المشبوهة حينها لتعلن هزيمة الدين الجديد، وأنه ليس من عند الله كما يدَّعي صاحب الرسالة، وقد تمالأ اليهود مع المشركين من أجل الوصول إلى هذا الهدف، فاختاروا لهم نماذج من القصص الأول مما جرى لأهل الكتاب في الأزمان البعيدة، وقد حفظت كتبهم بعض هذه القصص، وجعلوا المعرفة بهذه القصص محلًّا للاختبار، فإذا عرفها النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم عدم شيوع العلم بها وانقضاء زمن حدوثها فهو نبيٌّ يوحى إليه.

تأخر الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم

وقد تقدَّم في تفسير الآيات: أنَّ الوحي تأخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - طيلة خمسة عشر يومًا كاملة، وهي مدةٌ طويلةٌ للغاية، ولا سيما وأنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وَعَدهم بالإجابة بعد يومٍ واحدٍ؛ لذلك حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - حزنًا شديدًا، واغتمَّ لذلك غاية الغمِّ، فالمُترَبِّصون به وبدعوته لن يكُفُّوا عن الغَمْز والَّلمْز، ونشر الشائعات، والطعن في الرسالة.

صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقدسية رسالته

وقدَّر الله أن يكون هذا التأخر شاهدًا على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقدسية رسالته؛ لأنه لو كان يعتمد فيما ينقل من أخبار على الأساطير القديمة كما كانوا يدعون: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الفرقان:5)؛ فلماذا لم يعكُف عليها ليستخرج منها الإجابة بدلًا من أن يُطعن في صدقه؟! ولو كان يعتمد فيما يقول على حَبْرٍ من الأحبار هنا أو هناك؛ فلماذا لم يسأله؟! كما قال الله عنهم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل:103)، فلماذا لم يهرع إليه ليعرف منه الخبرُ اليقين؟!

مطلع الآية

لهذه الظروف التي كانت تحيط بالواقعة أراد الله أن يُقْرِع أسماعهم بهذه البداية التي تُسَفِّه مِن سعيهم، وتقلل مِن قيمة حيلتهم، فجاء مطلع الآية بهذا الاستفهام: «أَمْ حَسِبْتَ؟»، والمقصود: أحسبتَ أن أصحاب الكهف كانوا عجبًا من بين آياتنا؟! أي: أعجب من بقية آياتنا، فإنَّ إماتة الأحياء بعد حياتهم أعظم من عجب إنامة أهل الكهف؛ لأن في إنامتهم إبقاءً للحياة في أجسامهم، وليس في إماتة الأحياء إبقاءٌ لشيءٍ من الحياة فيهم على كثرتهم وانتشارهم.

محل التعجب

ومحل التعجب هو قوله: «مِنْ آيَاتِنَا»، أي: مِن بين آياتنا الكثيرة المشاهدة لهم، وهم لا يتعجبون منها، ويقصرون تعجبهم على أمثال هذه الخوارق، فيؤول المعنى: إلى أن أهل الكهف ليسوا هم العجب من بين الآيات الأخرى، بل عجائب صنع الله -تعالى- كثيرة، منها ما هو أعجب من حال أهل الكهف، ومنها ما يساويها، فمعنى «مِنْ» في قوله: «مِنْ آيَاتِنَا»: التبعيض، أي: ليست قصة أهل الكهف منفردة بالعجب مِن بين الآيات الأخرى.

وهذا تعريض بغفلة الذين طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان قصة أهل الكهف لاستعلام ما فيها من العجب، بأنهم سألوا عن عجيب وكفروا بما هو أعجب، وهو انقراض العالم، وفيه نداءٌ على سوء نظرهم؛ إذ يُعلِّقون اهتمامهم بأشياء نادرة وبين يديهم من الأشياء ما هو أجدرُ بالاهتمام.

المراد بقوله «من آياتنا»

والمراد بآياتنا التي ذكرها القرآن في نهاية الآية: آية من آيات الله المسموعة التي تدلنا على مآل الصراع الذي يجري دائمًا بين الحقّ والباطل على ظهر هذه الأرض، ولم يزل هذا الصراع قائمًا، ولابد أن يستوعب أهل الإيمان ذلك، فلا يظن المؤمنون أنهم سيستريحون من مغالبة الباطل وأهله، أو أنهم يتوقفون عن العمل على إظهار الدين والدعوة إليه؛ وذلك لأن هذه المدافعة هي سنة الله -سبحانه وتعالى- الماضية في عباده وخلقه.

وهي من آيات الله التي فيها القدوة الحسنة، والأسوة الطيبة لعباد الله المؤمنين في صبرهم على دينهم، وفيها بشارة لعباد الله المؤمنين بما يؤول إليه أمرهم، وبما يحفظهم الله -سبحانه وتعالى- بآياته العجيبة التي إذا تأملها المتأمل علم عظيم سلطان الله -سبحانه وتعالى- وقدرته.

أمر في غاية الأهمية

ويبقى هنا أن نشير إلى أمرٍ في غاية الأهمية، وهو: أن الكفار الذين أرادوا اختبار صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يؤمنوا به بعد ما أيقنوا أن ما ينزل عليه وحيٌ من عند الله، وقد كان الأجدر بهم أن يقبلوا نتيجة التحدي، ولا سيما وأنهم الذين سعوا في هذا التحدي وكانت البداية من عندهم، ومع ذلك استمروا في التكذيب والعناد! وصدق الله؛ إذ يقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج:46).

(2) الشباب اليقظ

قال الله -تعالى-: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ}، كونهم أوَوْا إلى الكهف يدل على أنَّهم هربوا بدينهم، وهاجروا في سبيل الله -عز وجل-، وتركوا وطنهم لله -سبحانه وتعالى-، كما أمر الله -عز وجل- عباده المؤمنين بأن يُقدموا حبه، وطاعته على كل شيء، قال -تعالى-: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24).

سبب فرارهم

وقد فرَّ الفتية إلى الكهف؛ لأنهم عجزوا عن إقامة الدِّين في أرضهم، ومَن عجز عن إقامة الدين في أرضٍ ما، وجب عليه أن يهاجر إلى أرض غيرها يتمكن فيها من إقامة شعائر دينه، وهذا الأمر باقٍ في كل زمان ومكان طالَما وُجد بهذه الصفة، فالهجرة لا تنقطع حتى يزول الكفر من الأرض.

تعزية لعباد الله المؤمنين

وكونُهم أوَوْا إلى الكهف يدل على أنهم كانوا يريدون مكانًا يؤويهم في بلدهم، وذلك فيه من التعزية لعباد الله المؤمنين إذا شعروا بالتضييق على دعوتهم، وهذا نظير ما أنعم الله به على صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله -تعالى-: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} (الأنفال:26).

أهمية مرحلة الشباب

وقد ذكر الله -عز وجل- أن فتية الكهف كانوا شبابًا، وهذا يدلنا على أهمية مرحلة الشباب في نصرة الدين، وحمل أعباء الرسالة، وقد ذكر القرآن المرحلة العمرية لهؤلاء الرجال ليكونوا أسوة حسنة للشباب في الثبات على دين الله، والقيام بالدعوة إلى الله، كما قال الله -عز وجل- عن موسى -عليه السلام-: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} (يونس:83)، فما آمن مِن المسلمين في زمن موسى إلا قلةٌ من الشباب من أهل مصر، فآمنوا بموسى -عليه السلام- رغم الخوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم. وهكذا كان صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كذَّبَه عامة الشيوخ في الوقت الذي تبعه فيه أغلب الشباب، وهذا فيه مؤازرةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن معه مِن الصحابة، فالقرآن يقص عليهم قصة تمثِّلهم وتشرح حالهم، وهذا من دواعي السكينة وانشراح الصدر.


معايير السعادة ليست مادية

وتأمل الراحة والسكينة التي تنبعث من لفظ الإيواء؛ لتعلم أن معايير السعادة ليست مادية، فكثيرٌ من الأغنياء يعانون مِن الأمراض النفسية المدمِّرة، وقد يلجؤون إلى الانتحار سنويًّا، في المقابل ربما تجد فقيرًا يسكن في كوخ صغير يشعر فيه بالسكينة والهدوء، ويعيش حياته راضيًا مسرورًا، وهذه حقيقة لا يختلف عليها أحد، ولكن القيم المادية للحياة المعاصرة تُعمي كثيرًا من الناس عن التدبر في حقائق الوجود.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.14 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.53%)]