عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 08-08-2022, 04:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,571
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صراع الأصهار بين الجاهلية والإسلام


وإذا كانت هذه الأبيات الثلاثة تصويرًا لواقعها المؤلم ومستقبلها المظلم، فيبدو أنها كانت محبة لزوجها مكبرة له رغم ما بدا من صلفه وغروره، فهي تقول في طريق ذهابها إلى أهلها بعد طردها من المأتم [بسيط] [9]:
يَا عَيْنُ فَابْكِي فَإِنَّ الشَّرَّ قَدْ لاحَا
هَذَا كُلَيْبٌ عَلَى الرَّمْضَاءِ مُنْجَدِلٌ

وَالتَّغْلِبِيُّونَ قَدْ قَامُوا بِنُصْرَتِهِ
قَدْ كَانَ تَاجًا عَلَيْهِمْ فِي مَحَافِلِهِمْ

وَاسْبِلِي دَمْعَكِ الْمَحْزُونَ سَفَّاحَا
بَيْنَ الْخُزَامَى عَلاَهُ الْيَوْمَ أَرْمَاحَا

وَكُنْتُمُ وَجَلاَلِ اللهِ أَوْقَاحَا
وَكَانَ لَيْثَ وَغًى لِلْقِرْنِ طَرَّاحَا


وعندما توجهت إلى ديار أبيها، لقيها أبوها فسألها: " ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثُكْلُ العدد وحزن الأبد، وفقْدُ حليل، وقتل أخٍ عن قليل، وبين ذيْن غرسُ الأحقاد وتفتت الأكباد، فقال لها: أَوَ يَكْفِ ذلك كرمُ الصفح وإغلاءُ الديات؟ فقالت جليلة: أمنية مخدوع وربّ الكعبة! أبِالبُدْن تدع لك تغلب دم ربِّها؟! " [10] وتستمر الحرب بين بكر وتغلب أربعين سنة قُتل فيها رجال، ويُتِّم فيها أطفال، وترملت منها نساءٌ، وعندما أخذ التعب والهلاك من الطرفين كل مأخذ تصالحوا في غيبة المهلهل أخي كليب، وعندما عاد المهلهل حاول بعث أوار الحرب من جديد لكن أحدًا من قومه لم يُجبه إلى ذلك، وانتحى قومه، ومات بعيدًا عنهم.

لقد كانت المرأة محور هذه الحرب الضروس بين ابنيْ العم من تغلب وبكر، ولم تشفع العمومة ولم تشفع المصاهرة كذلك في وأد هذه الحرب في مهدها، وإنما أشعلتها المرأة وهي البسوس خالة جساس بعدما قتل كليب ناقتها واصطلت وحدها بها جليلة بنت مرة زوجة كليب، وشقيقة قاتله، بل ويقال إن الهجرس ابنها من كليب هو الذي أنهى سلسلة القتل بين الطرفين عندما قيل إنه قتل خاله جساس بن مرة ثأرًا لأبيه أعز العرب كليب بن ربيعة، هي التي اصطلت بها وحدها؛ لأن بيتيها جميعًا قد قُوِّضَا بسبب قتل أخيها لزوجها.

2- بعد الإسلام:
ورغم ما جاء به الإسلام الحنيف من سماحة وتهذيب للنفوس، وتقوية للإيمان وغرس لقيم الصفح والعفو عند المقدرة، ورغم ما دعا إليه من نبذ العصبيات الجاهلية، إلا أنه يبدو أن حداثة عهد بعض العرب بالإسلام، أو إطلالة العصبيات الجاهلية برأسها مرة أخرى خاصة في عهد الدولة الأموية، قد أدى إلى ظهور الصراعات والحروب بين الأصهار الذين كانت تربطهم إلى جانب المصاهرة رابطة النسب، وما يكاد القرن الهجري الأول ينتصف حتى وجدنا حربًا ضارية كانت بسبب المرأة بين هُدبة بن الخشرم وزيادة بن زيد العذريين اللذين ينتهي نسبهما عند ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم، كما تربطهما المصاهرة؛ إذ كانت زوجة زيادة بن زيد شقيقة هُدبة بن الخشرم.

وقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني سبب هياج الحرب بينهما، وأرجعه إلى مراهنة حوط بن خشرم أخي هدبة زيادة بن زيد على جملين من إبلهما، وتزود كل منهما بما يعينهما على المراهنة من الزاد، وكانت سلمى بنت خشرم أخت حوط وهدبة تحت زيادة، فمالت مع أخيها على زوجها ووهَّنتْ أوعية زوجها وفنيَ ماؤه قبل ماء صاحبه، وتحققت المراهنة لحوط بن خشرم على زوج شقيقته زيادة الذي قال في ذلك [رجز]:
قَدْ جَعَلْتُ نَفْسِيَ فِي أَدِيمِ
ثُمَّ رَمَتْ بِي عُرُضَ الدَّيْمُومِ

مُحَرِّمِ الدِّبَاغِ ذِى هُزُومِ
فِي بَارِحٍ مِنْ وَهَجِ السَّمُومِ

عِنْدَ اطِّلاَعِ وَعْرَةِ النُّجُوم [11]

ويبدو أن هذه القصة قد كانت البداية الحقيقية للصراع بين هذين الحيين من العرب على ما بينهم من قرابة ومصاهرة، فلم ينس زيادة موقف زوجته منه وميلها مع أخيها عليه، وقد حكي محمد بن حبيب [ت 245هـ] [12] بداية دخول الصراع بينهما إلى لحظة القتل، وذكر أن هدبة وقومه وزيادة وقومه كانوا مقبلين من الشام، ولما طُلب مَنْ يسوق الركب تقدم زيادة وساق بهم ساعة ثم ارتجز فقال وعرّضَ بأخت هدبة:
عُوجِي عَلَيْنَا وَارْبَعِي فَاطِمَا
فَعَوَّجَتْ مُطَّرَدًا عُرَاهِمَا

مَا دُونَ أَنْ يُرَى الْبَعِيرُ قَائِمَا
رَسْلاً يَبُذُّ الْقُلُصَ الرَّوَاسِمَا


في شعر طويل أغضب هدبة، ولما ساق هدبة قال يرد على زيادة زيعرض بأخته في شعر طويل:
بِاللهِ لاَ يَشْفِي الْفُؤَادَ الْهَائِمَا
وَلاَ اللِّمَامُ دُونَ أَنْ تُفَاغِمَا

تَمْسَاكُكَ اللَّبَّاتِ وَالْمَآكِمَا
وَلاَ الْفِغَامُ دُونَ أَنْ تُفَاقِمَا
وَتَعْلُوَ الْقَوَائِمُ الْقَوَائِمَا


وظل الرجلان يتبادلان الملاحاة والتعريض ببعضهما حتى تحول الأمر إلى الاعتداء بالضرب والإهانة عندما ذهب زيادة ورهط من قومه إلى ديار هدبة، وضربوا أباه وشجوه عشرًا كما وقَّفُوا هدبة بأن جعلوا في ذراعه حزًّا في ذلة ومهانة؛ إذ جعلوه كالحمار الموقَّف الذي تمّ كَيُّ ذراعه، كما أخذوا عمه زفر وحبسوه عندهم، وعندما برِئَ هدبة أخذ رجالاً من قومه وذهبوا إلى زيادة فضربوه بسيوفهم، ثم تركوه ظانين به الموت، فذهبوا عنه وفي الطريق تحسس هدبة أنفه فقد وجده قَدْ جُدِعَ من دفاع زيادة عن نفسه، فرجع إليه هدبة وأجهز عليه، وخلّص عمه، وترتب على قتله زيادة أن قُبضَ عليه وأودع في سجن المدينة وواليها يومئذٍ سعيد بن العاص.

وقد طلب أهل زيادة من الوالي سعيد بن العاص القصاص من القاتل، ورفضوا أي بادرة صلح وقبول للدية التي تقدم بها قوم هدبة تارة وسعيد بن العاص تارة أخرى ورجالات من أشراف المسلمين تارة ثالثة، ولما لم يجد الوالي بدًّا من القصاص أرسل إلى الخليفة معاوية بن أبي سفيان الذي أخذ من هدبة اعترافه الصريح بقتل زيادة، وأمر الخليفة أن يسجن هدبة حتى يبلغ ولي دم القتيل وهو ابن زيادة بن زيد.

عند هذا الحد من سرد قصة هدبة بن الخشرم وزيادة بن زيد لا نجد ذكرًا للمرأة اللهمَّ إلا أن تكون سبب النزاع بين القوم، سواء أكانت بميل ابنة الخشرم لأخيها على زوجها زيادة مما تسبب في خسران هذا الأخير الرهان أو أنها كانت موضوع التعريض الشعري الذي بدأه زيادة بن زيد في رواية ابن حبيب، بيد أن المأساة الحقيقية التي عانتها المرأة في قصة هدبة بن الخشرم هي قصة معاناة زوجته التي ضربت مثلاً نادرًا في وفاء المرأة الشابة لزوجها وقد قُتل عنها، ودعك من فجعة الأم بولدها، فقد يكون في أولادها الباقين تسلية وتلهية عن فقد أحدهم، أما أن تصبر الزوجة على فقد زوجها، فذاك من نوادر الأخبار.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.17 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.54 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.83%)]