عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 26-07-2021, 03:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لسعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح

السعادة والفلاح في فهم مقاصد النكاح (2)


د. أمين بن عبدالله الشقاوي




الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن المقصد الثالث من مقاصد النكاح بمعناه الأعم هو أوسع هذه المقاصد وأكثرها نفعًا إذا أُحسن القيام به وأشدها ضررًا إذا أُهمل.

ومن آثاره أنه يخدم المقاصد الأخرى إيجابًا وسلبًا، وهو مطلوب من الزوجين جميعًا، غير أن الزوجة به أولى وعليه أقدر، لما جبلها الله عليه من التراكيب الأنثوية الجذابة، والاشعارات الحلوة الجميلة.

بهذا نفهم قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»[1].

وسنُورد فيما يأتي بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة المشتملة على تطبيق هذا المقصد لتكون عونًا على فهمه.

وليعلم أننا في هذا الفصل لا نريد منه بيان الحقوق والواجبات، وإنما نريد إيضاح مجالات إمتاع كل من الزوجين للآخر، فيما يخص الأخلاق الجميلة والآداب الرفيعة، وأنه شامل لجميع مناحي الحياة، فمن الآيات والأحاديث المشتملة على ذلك:
1 – قول الله تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187]، من وسائل إسعاد كل واحد من الزوجين للآخر أن يكون لباسًا له يستره ويقيه، ويتجمل به، ويأتي مزيد تفصيل لذلك.

2 – قول الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، فمن أعظم المتع التي يحصل عليها الزوج أن تكون زوجته بمثابة السكن الذي يأوي إليه، ويهنأ به، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك.

3 – قول الله تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 34]، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لَما سئل عن المرأة الصالحة قال: «التِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ»[2].

إن القلق والهم الذي يصيب الزوج بسبب الشكوك والوساوس حال غيابه عن زوجته وماله، تزول بالمرأة الصالحة العفيفة الشريفة، ويحل محلها الطمأنينة والراحة.

4 – قول الله تعالى حاكيًا عن نبي الله موسى وهو يخاطب أهله: ﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ [القصص: 29].

من الأمور التي تظهر فيها مكانة الزوجة عند زوجها أن يجعلها تشاركه في بعض أموره العامة، فإنها بذلك تشعر بالتقدير والاحترام، وأنها ليست من سقط المتاع، فهذا موسى عليه السلام يقول لزوجته: سآتيكم منها بخبر، ولم يقل: هذه الأمور تخص الرجال لا شأن لها به، فلينتبه الأزواج إلى ذلك.

5 – من أعظم المتع التي تنالها الزوجة أن تجد من زوجها الشكر والثناء والاعتراف بالجميل لقاء ما تقوم به من تبعل وحسن معشر، وهؤلاء، ولذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهنَّ لما خيرن بين الدنيا والآخرة، فاخترن الله ورسوله، كانت مكافأتهنَّ ما أخبر به الله تعالى بقوله: ﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾ [الأحزاب: 52].

6 – من أفضل وأحسن ما يهنأ به الزوج أن تكون زوجته غاضة لبصرها، فإنها إذا كانت كذلك، فهي لما سواه أحفظ؛ قال الله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور: 31]، فقد وصف الله نساء أهل الجنة، فقال: ﴿ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ﴾ [الرحمن: 56]، كذلك فإن الزوجة تجد السعادة والراحة حين ترى زوجها حافظًا لبصره؛ امتثالًا لقوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30]، لعلمها أنه إذا حفظ بصره فإنه لما سواه أحفظ.

7 – من أعظم ما يتمتع به الزوجان أن يرى كل منهما في الآخر هذا الخلق الجميل الذي هو شعبة من الإيمان وهو خلق الحياء، فإن الحياء إذا وجد لا يرقى معه شيء من الأخلاق الذميمة والصفات السقيمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»[3]، وفي التنزيل المبارك يقص علينا ربنا تعالى قصة البنتين الصالحتين، فقد ذكر أعظم ما تحليا به وهو الحياء الذي منعهما من مخالطة الرجال مع شدة الحاجة إلى سقي غنمهما؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 23، 24].


8 – إن مما يجمل المرأة ويرفع منزلتها في عيون الناس - ولاسيما الزوج - أن يكون الحياء حاكمًا على جميع تصرفاتها وحركاتها وسكناتها حتى في مشيها، وقد ذكر الله ذلك عن المرأة الصالحة بنت الرجل الصالح على سبيل الثناء والمدح، فقال تعالى: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25].

9 - من أعظم النعم على الرجل أن يرزُقه الله زوجة عاقلة حصيفة شديدة الملاحظة لما فيه الخير، عارفة بالفضائل ومحاسن الصفات؛ قال الله تعالى عن المرأة الصالحة بنت الرجل الصالح: ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26].

10 - قال تعالى: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: 32].

من الأمور التي ترفع مكانة المرأة وتعلي منزلتها عند زوجها، بل عند الناس جميعًا - أن تكون تصرفاتها قاطعة لأطماع أصحاب الهوى والفجور، فإذا اضطرت إلى الكلام مع الرجال، كان كلامها غير رقيق ولا ليِّن، وأن تتجنب فيه الألفاظ والعبارات التي لا تنبغي إلا مع الأزواج ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ [الأحزاب: 32].

11 – إن إدخال السرور على النفوس مما يسعى إليه كل أحد وهو من نعيم أهل الجنة، ولذلك ينبغي للزوجين إدخال السرور على بعضهما، وهذه صفة المرأة الصالحة، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ»[4].

12 – روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنه: أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وهي جارية، فقال لأصحابه: «تَقَدَّمُوا»، فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَيْ أُسَابِقْكِ»، فَسَبَقْتُهُ، فَلَبِثْنَا حَتَّى إِذَا رَهِقَنِي اللَّحْمُ سَابَقَنِي فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: «هَذِهِ بِتِيكِ»[5].

13 – روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كُنْتُ أَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَيَأْخُذُهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ فَمَهُ حَيْثُ كَانَ فَمِي، وَأَشْرَبُ مِنَ الْإِنَاءِ، فَيَأْخَذُهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ فَمَهُ حَيْثُ كَانَ فَمِي، وَأَنَا حَائِضٌ[6].

14 – روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَقَالَ: «دَعْهُمَا»، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ، يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النبي صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا قَالَ: «تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ» حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ: «حَسْبُكِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاذْهَبِي»[7].

15 – ضَرَبَتْ خَدِيجَةُ رضي الله عنها أَرَوْعَ الْأَمْثَالِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، وَنُذَكِّرُ بَعْضَ مَوَاقِفِهَا وَمَوَاقِفِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ ذَلِكَ مِثَالًا يُحْتَذَى لِكُل زَوْجَيْنِ يُرِيدَانِ أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُمَا مَعَ بَعْضِهِمَا حَيَاةً سَعِيدَةً طِيبَةً.

روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، وجاء في آخر الحديث: فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍﭫ، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ: «أَيْ خَدِيجَةُ، مَا لِي»، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، قَالَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرًَا تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاء اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا بْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ بْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟»، قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ[8].

فوقوفها مع النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتها له وتبشيرها من أعظم مواقف امرأة مع زوجها، مع الإحاطة والعلم بأن هذا كله وقع قبل إسلامها، وقد كافأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظهار هذه المواقف النبيلة، فكان صلى الله عليه وسلم يردد: «إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ»[9]، و«إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا»[10]، و«مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ»[11].

وكان صلى الله عليه وسلم بعد وفاتها رضي الله عنها يذكر لها هذه الفضائل العظيمة حتى قالت عائشة رضي الله عنها: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة[12].

وقد نالت رضي الله عنها بحُسن عِشرتها ما لم ينله أحد، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ، وَلَا نَصَبَ[13].

والقصب لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف، والصخب اختلاط الأصوات، والنصب: التعب، قال السهيلي: وإنما بشرها ببيت في الجنة من قصب – يعني قصب اللؤلؤ – لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان، لا صخب فيه ولا نصب، لأنها لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تتعبه يومًا من الدهر، فلم تصخب عليه يومًا ولا آذته أبدًا[14].

هذه بعض مواقفها رضي الله عنها وأرضاها ختمنا بها هذه الكلمة والمسك خير ختام.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] صحيح مسلم برقم (1467).

[2] مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرةﮕ (12/ 383 – 384) برقم (7421)، وقال محققوه: إسناده قوي.

[3] صحيح مسلم برقم (37)، وأخرجه البخاري برقم (6117) بمعناه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

[4] مسند الإمام أحمد (12/383 – 384) برقم (7421)، وقال محققوه: إسناده قوي.

[5] (40/145) برقم (24119)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

[6] (41/427) برقم (24954)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[7] صحيح البخاري برقم (949)، وصحيح مسلم برقم (892) واللفظ له.

[8] صحيح البخاري برقم (3)، وصحيح مسلم برقم (160).

[9] صحيح البخاري برقم (3818)، وصحيح مسلم برقم (2434).

[10] صحيح مسلم برقم (2435) من حديث عائشة رضي الله عنها.

[11] مسند الإمام أحمد (41/ 356) برقم (24864)، وقال محققوه: حديث صحيح من حديث عائشة رضي الله عنها.

[12] صحيح البخاري برقم (3818) من حديث عائشة رضي الله عنها.

[13] صحيح البخاري برقم (3820)، وصحيح مسلم برقم (2432).

[14] البداية والنهاية لابن كثير (4/ 317).








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.11 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.48 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.96%)]