الموضوع: خاتم النبيين
عرض مشاركة واحدة
  #33  
قديم 01-03-2023, 09:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,933
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (33)
الشيخ خالد بن علي الجريش





الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الإخوة الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الأفاضل أسلفنا الحديث في الحلقة الماضية عن بداية غزوة خيبر؛ في سببها وزمانها وشيء من التفصيل عن الحصون فيها، وأيضًا ذكرنا كيف كان المسير إليها؟ ومتى بدأ القتال فيها؟ وأيضًا ذكرنا كيف وماذا لاقى المسلمون من الشدة في ذلك? وأيضًا كيف كان النصر للمسلمين؟ وختمناها بالدروس المستفادة منها.

وفي حلقتنا هذه ما زال الكلام عن واقع تلك الغزوة التي هي غزوة خيبر، فقد أصاب المسلمين فيها جوعٌ شديدٌ، فروى البخاري ومسلم عن عبدالله بن أبي أوفى أنه قال: (أصابتنا مجاعةٌ يومَ خيبر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصبنا للقوم حُمُرًا خارجة عن المدينة، فنحَرْناها، وإنَّ قدورنا لتغلي إذ نادى منادي الرسول صلى الله عليه وسلم أنِ اكْفَؤُا القدور ولا تطعموا من لحوم الحُمُر شيئًا)؛ متفق عليه، فاستجابوا لذلك رضي الله عنهم وهم على حالة من الجوع، فأكْفَؤا القُدُور ومع شدة الجوع كانت أرضهم أيضا أرضًا وخمة وشديدة الحَرِّ، فصبروا رضي الله عنهم وأرضاهم، ومع توفيق الله تعالى لهم وإعانته إياهم فتحوها حصنًا حصنًا، وكان عدد القتلى من اليهود ثلاثة وتسعين رجلًا، وعدد القتلى من المسلمين خمسة عشر رجلًا، وقد صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا بأنفسهم ولا يحملوا معهم شيئًا من السلاح ولا من غيره، وعند البخاري ومسلم: (أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يخرج أهل خيبر سألوه أن يعملوا ويزرعوا فيها ولهم شطر ما يخرج منها)؛ متفق عليه، فوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك الشرط، فزرعوا ولهم الشطر وللمسلمين الشطر؛ وقد كان لذلك أثر كبير في حياة المسلمين حتى قالت عائشة رضي الله عنها بعد ذلك لما فتحت خيبر (قلنا: الآن نشبع من التمر)؛ رواه البخاري، وقال ابن عمر رضي الله عنه: (ما شبعنا حتى فُتِحت خيبر)؛ رواه البخاري، وكان مع تلك المجاعة وشدة الحر في زمن غزوة خيبر الشدة في فتح حصون خيبر الثمانية؛ حيث كان اليهود كلما فتح عليهم حِصْن هربوا إلى الحصن الثاني، فلمَّا فُتِح حصن ناعم وهو أكبرُها وأشدُّها ودام ذلك عشرةَ أيَّامٍ اتَّجَه المسلمون إلى حصن الصعب بن معاذ، ففتحوه في ثلاثة أيام، ثم فتح حصن قلعة الزبير وفتحوه أيضًا خلال ثلاثة أيام، ثم تتابع المسلمون على الحصون يفتحونها حصنًا بعد حصن بحمد الله تعالى، فظهر عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وقتلوا مقاتلتهم وسبَوا ذراريهم، وبعد ذلك الفتح والمشارطة في البقاء في خيبر على شطر ثمارها، قال عليه الصلاة والسلام لهم: ((نترككم على ذلك ما شئنا))؛ رواه البخاري، ثم أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر بين أهل الحديبية؛ لأن الله عز وجل وَعَدهم إيَّاها، وفي غزوة خيبر جاء أعرابي وأسلم وخرج مع المسلمين إلى خيبر، وكان مع الجيش يحمي ظهورهم، فلمَّا قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم أرسل إلى هذا الأعرابي نصيبه، فلمَّا أتوا به إليه، قال: ما هذا? قالوا: قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم، ثم أخذه فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، ما على هذا بايعْتُك؛ ولكني بايعْتُك على أن أُجاهِدَ فيرميني سَهْمٌ من ها هنا وأشار إلى حلقه، فأموت وأدخل الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ))، ثم لبثوا وقتًا حتى نهضوا للقتال، فقاتل هذا الرجل حتى قُتِل رضي الله عنه، وأتوا به مقتولًا قد أصابه سَهْمٌ في حَلْقِه حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أهو هو?))، قالوا: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: ((صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ))، فصلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال في دعائه: ((اللهُمَّ هذا عبدُك، خرج مُهاجِرًا في سبيلك، فقُتِل شهيدًا، فأنا عليه شهيد)).

وروى الإمام أحمد والحاكم (أنَّ رجلًا من أشجع مات فلم يصلِّ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقال: ((صَلُّوا على صاحبِكم))، قال الراوي: فتغيَّرت وجوهُ القوم لذلك، فلمَّا رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، قال الراوي: فنظرنا في متاعه فوجدنا فيه خَرَزًا من خَرَز اليهود لا يساوي درهمين، وكان رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو أصابه سَهْمٌ فقتله، فقالوا: هنيئًا له الشهادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كَلَّا والذي نفسي بيده، إنَّ الشَّمْلة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارًا))، فجاء رجل آخر بشِراك أو شِراكين، وقال: هذا كنت أصبته من المغانم يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((شِراك أو شِراكان من نار))؛ رواه البخاري.

وفي غزوة خيبر قدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففرح به النبي عليه الصلاة والسلام فرحًا شديدًا، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما أدري بأيهما أنا أُسَرُّ؛ بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر?))، وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا وهو في خيبر مهاجرة الحبشة، وقدم أيضًا الأشعريُّون، وقدم أيضًا الدوسيُّون وفيهم الطفيل بن عمرو الدوسي، وقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى دوس يدعوهم إلى الإسلام، ومكث فيهم حتى قريبًا من سنة خيبر؛ أي: السنة السابعة، ثم قدم بمن أسلم معه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد نزلوا بسبعين أو ثمانين بيتًا من المدينة، فيهم أبو هريرة رضي الله عنه، وكان من سبايا خيبر صفية بنت حيي رئيس اليهود، فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فأسلمت فأعتقها، وجعل عتقها صداقها، وكانت قبل ذلك زوجة لكنانة بن أبي الحقيق أحد رجال كبار اليهود، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في وجهها أثرًا فسألها عنه، فقالت: كان رأسي في حجر زوجي ابن أبي الحقيق وأنا نائمة، فرأيت في المنام كأنَّ قمرًا وقع في حجري، فأخبرته في ذلك فلطمني وقال: هل تتمنين أن تتزوَّجي ملك يثرب? وقالت صفية: كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامي من أبغض الناس إليَّ، فقد قتل زوجي وأبي وأخي، فأوضح لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قائلًا: ((إنَّ أباك قلَّب عليَّ العرب، وفعل وفعل))، فقالت: فذهب ما في نفسي، وقد كانت وليمة النبي صلى الله عليه وسلم في زواجه بحفصة هي عبارة عن حيس، وهو طعام مخلوط من السمن والتمر والأقط ونحوها، وقد رجع الجيش إلى المدينة بعد أن غاب عنها شهرًا كاملًا، ففي عودتهم إلى المدينة حدث أحداث، ومن هذه الأحداث ما يلي:
الحدث الأول: أن المسلمين في رجوعهم كلما أشرفوا على وادٍ رفعوا أصواتهم بالتكبير والتهليل، فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((ارْبَعُوا على أنفسكم- أي: ارفقوا- إنكم لا تدعون أصَمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا بصيرًا، وهو معكم))، وكان عبدالله بن قيس رضي الله عنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلُّك على كنز من كنوز الجنة? لا حول ولا قوة إلا بالله))؛ رواه البخاري.

الحدث الثاني: فوات صلاة الفجر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ساروا ليلة من الليالي في رجوعهم فباتوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: ((اكْلأْ لنا الليل))، فناموا وقام بلال يصلي، ولما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته فنام، فما أيقظَهم إلا حَرُّ الشمس، فاستيقظ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((أي بلال))، فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك يا رسول الله، فانتقلوا من مكانِهم إلى مكان آخر فصلوها؛ رواه البخاري.

الحدث الثالث: وصول الجيش إلى المدينة؛ حيث أقبلوا عليها، ولما قربوا من جبل أُحُد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا جبل أُحُد يحبُّنا ونحبُّه))، فلما أشرف على المدينة قال: ((اللهُمَّ إني أُحرِّم ما بين جبليها مثلما حرَّمَ إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مُدِّهِم وصاعِهم، ثم قال: آيبون تائبون عابدون، لربِّنا حامدون))، فلم يزل يقولها حتى دخل المدينة؛ رواه البخاري ومسلم.

أيها الكرام في ختام هذه الحلقة نتطرَّق لبعض الدروس والعِبَر من غزوة خيبر، فمن ذلك ما يلي:
الدرس الأول: عندما حصل الجهد والجوع في غزوة خيبر نحَرَ الصحابةُ رضي الله عنهم بعض الحُمُر الأهليَّة، وذلك قبل تحريمها، فطبخوها وغلَتْ بها القُدُورُ، ثم جاءهم النهي عن أكلها وهم على تلك الحال من التعب والألم والجوع، فاستجابوا مباشرةً، فأكفأوا القُدُور، وهكذا شأن المسلم مع الأوامر والنواهي الشرعية ممتثلًا ومستجيبًا، فيا أخي الكريم، اجعل لك مع نفسك وقفة محاسبة في الأوامر والمنهيَّات الشرعية، فالذي أنْعَم عليك من النِّعَم ما لا تحصيه هو الذي أمرك ونهاك ألَّا تعصيه، فكيف يتمتع بنعمه ذلك العاصي في قلبه أو جوارحه?! ولكن كما استجاب هؤلاء الصَّحْب الكِرام، فلنكن نحن كذلك، فلنا بهم أسوة وقدوة وإيَّاك والاستدامة والإصرار على الذنب؛ فإنه مهلكة إن لم يعْفُ الله عز وجل، فسارِعْ في التصحيح قبل أن يفوت زمانه، فما أحوجنا لذلك!

الدرس الثاني: في قول عائشة رضي الله عنها وابن عمر رضي الله عنهما "إننا بعد فتح خيبر سنشبع من التمر" فيه درس عظيم على توالي النِّعَم علينا في أصناف المأكولات والمشروبات وغيرها، وأن تلك النعم لها قيد يثبتها ويزيدها بإذن الله وهو الشكر بأركانه الثلاثة؛ وهي: الاعتراف بها في القلب، والتحدُّث بها في اللسان، وأيضًا صرف تلك النِّعَم في طاعة المنعم جل جلاله، فطبق تلك الأركان الثلاثة على كل نعمة مهما كانت لتكشف شكرك، هل هو حقيقي أم سراب? فلنعمل على توعية المجتمع في ذلك وهذا المجتمع هو أنا وأنت وأولادي وأولادك، ولنستثمر مجالسنا ووسائل تواصلنا في تلك التوعية؛ لعل الغافل ينتبه، والمسرف يرجع، والعاصي ينيب ويتوب، ومن شكر النعمة التصرُّف الحسن فيما يتبقى من المأكولات في البيوت والمناسبات بأن يصرف في مصارفه المناسبة، ففي مناسباتك اتِّصل على الجمعيات المعنية بذلك، فهم قريبون منك، فيأخذون ما تبقى من وليمتك، وأمَّا في بيتك فاجعل ما تبقَّى في تلك الأواني البلاستيكية وادفعها إلى المحتاجين فهم بانتظارك، أمَّا أولئك الذين يرمون ما تبقَّى من مأكولهم في النفايات العامة والعياذ بالله، فماذا ينتظر هؤلاء مقابل ذلك العمل؟ فيا ليتهم يفقهون ويرجعون.

الدرس الثالث: في خيبر أخذ أحدهم خَرَزًا يسيرًا من المغانم، وأخذ آخر شَمْلة، وأخذ آخر شِراكًا أو شِراكين، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوعيد هؤلاء؛ حيث أخذوا من مال المسلمين ما لا يحِلُّ لهم، والله عز وجل يقول: ﴿ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 161] فالأخذ بغير حق مهما كان المُسمَّى هو يأخذ حطامًا من الدنيا، ربما أنه غني عنه؛ ولكنه ليته يعلم بأنه إذا أخذه فإنه سيرجعه في يوم عصيب شديد تشيب منه الولدان، فما دام أن الأمر كذلك فالعاقل يرجع وينيب، وأمَّا من لم يخف ذلك فالموعد أمامه، وعليه غرمه ولغيره غنمه، فلا تستكثر أخي الكريم بما ليس لك، فإنَّ أمامك قنطرة الحساب يوم القيامة وأنت وحيد عارٍ وليس معك إلَّا حسناتك وسيئاتك، فتمثل ذلك اليوم عندما تأخذ ما لا يحل لك، فرجوعك الآن هو خيرٌ لك من ندمك وحسرتك يوم القيامة.

الدرس الرابع: عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو إلى دوس يدعوهم إلى الله تعالى، ففعل ذلك رضي الله عنه، وأقام عندهم سنين حتى أسلم على يديه المئات والآلاف، ولنكن كذلك نحن في دعوة الآخرين ودلالتهم على الخير، فكُلُّ مَن عمل حسنةً بسببك، فلك مثل أجره، فاستثمر حياتك في ذلك من خلال أهل بيتك وجُلَسائك وزُمَلائك، وأيضًا وسائل التواصُل لديك، ولعلِّي أذكر صورتين من صور كثيرة لا تُحْصى في الدلالة على الخير، فالصورة الأولى: أحدهم دلَّ صاحبه على فضيلة صيام يوم الاثنين من كل أسبوع، فبدأ ذلك المدلول على ذلك يصوم هذا اليوم من كل أسبوع، فيقول هذا الصائم: صمتُ ثلاثين عامًا وما زلت أصوم.

والصورة الثانية: أحدهم دلَّ شابًّا يافعًا لا يتجاوز عمره العاشرة، دلَّه على نوع من الذكر، وهو سيِّد الاستغفار الذي هو أحد أسباب دخول الجنة، فيقول ذلك الشابُّ: حافظت عليه، والآن بلغت السبعين سنة وأنا أُكرِّره كل صباح ومساء، ودلَلْتُ عليه غيري، فهؤلاء لهم مثل أجر ما عمل أولئك، فلنكن مثلهم، فما أجمل أن تجعل لك رصيدًا أخرويًّا في دلالة الآخرين على الخير! والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((مَنْ دَلَّ على خيرٍ فله مثلُ أجْرِ فاعلِه))؛ رواه مسلم، فاستثمر ذلك حقَّ الاستثمار.

الدرس الخامس: كانت وليمة صفية رضي الله عنها هي عبارة عن حيس وهو التمر والسمن والأقط، وكانت متواضِعةً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعظم النساء بركةً أيسرُهُنَّ مؤونةً)) وإن كانت تلك الوليمة في ذلك الوقت قد تتناسب نوعًا ما مع قلة ذات اليد؛ لكن الرسول عليه الصلاة والسلام قادر على أن يضع أكثر من ذلك؛ لكنه القدوة والأسوة عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة، وقد انفتحت الدنيا على الناس في وقتنا الحاضر بمآكلها ومشاربها بحمد الله عز وجل إلا أن حكم الإسراف هو باقٍ إلى قيام الساعة، وأنه مُحرَّم ومذموم، وأنه ليس من علامات البركة، فعلى أصحاب الولائم والأفراح الكِرام أن يجتهدوا في التقدير، وقد يزيدون قليلًا؛ لكن ما نراه اليوم هو نوعٌ من الإسراف في كثير من الأفراح والمناسبات، ويا ليت من أسرف كفر عن إسرافه بالمحافظة على ما تبقَّى، ويتم صرفه بعناية في مصرفه الصحيح بطريقة أو بأخرى، وليعلم صاحب الوليمة أنَّ ما بيده من المال ليس هو حُرَّ في التصرُّف فيه؛ بل هو على أمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وقد نهى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الإسراف، والمال مال الله فاتقوا الله في مناسباتكم، ومِمَّا يُنبِّه عليه في المناسبات كثرةُ المقبلات التي قبل الولائم التي هي في حقيقتها كأنها وليمة، فهناك أكباد جائعة، وأجساد عارية، وديون باهظة، فلنحمد الله تعالى ونتَّقيه ونشكُره على ما أعطانا؛ ولكن في مناسباتنا نجعلها على أمر الله ورسوله، فهو أعظمُ بركةً وأقربُ إلى السُّنَّة.

الدرس السادس: أن المسافر قد يُصيبه المَلَل والتَّعَب والكَلَل من خلال سفره، فإشغال نفسه بذكر الله عز وجل أحيانًا هو ممَّا يزيل ذلك الكَلَل والتَّعَب كما كان حال الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته رضي الله عنهم، فكانوا إذا علوا نشزًا كبَّروا، وإذا نزلوا واديًا سبَّحوا، وكانوا يذكرون دعاء السفر، ويُصلُّون النافلة على الراحلة، وغير ذلك من العبادات والأذكار المطلقة والمقيَّدة، وهكذا كان حال رجوعهم من غزوة خيبر، فيا أخي المسافر، اجعل لك نصيبًا في طريقك من ذكر الله تعالى بأنواعه، فهو يسيرٌ في تنفيذه وعظيمٌ في أجره، فالكلمات الأربع: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، هي أحَبُّ الكلام إلى الله تعالى وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام بعد القرآن، فكرِّرها، وأيضًا لا تَنْسَ أن تدعو في سَفَرِك، فأنت في ساعةِ إجابةٍ، وهذه الأذكار كما أنها تزيل عنك التعب، فهي أيضًا تدخل عليك البهجة والسرور، وأيضًا تملأ ميزانك من الخير، وأيضًا كذلك صلِّ من النوافل ما كتب الله تعالى لك أن تصلي، فما أجملها من حال وسكينة وطُمَأْنينة، وعتابًا ثم عتابًا آخر على من اشتغل في سفره في غيبة أو نميمة أو سماع ما لا يحِلُّ سماعُه، نعوذ بالله من ذلك، ولنعلم أن القضية توفيق وحرمان وثواب وعقاب، فاختر منها ما ينفعُك.

الدرس السابع: في رجوعهم من غزوة خيبر ناموا عن صلاة الفجر، وهذا النوم هم معذورون فيه؛ لأنهم جعلوا مَن يوقظهم؛ ولكن نام هذا الموقظ لهم وهم وضعوا أسبابًا للاستيقاظ؛ لذلك كان نومهم عن عذر، أمَّا من ينام عن صلاة الفجر ويصليها خارج وقتها بنوم لا يعذر فيه حيث لم يتخذ الأسباب الممكنة للاستيقاظ، فهذا لا يُعذَر بنومه هذا، ورُبَّما بعضهم تعمَّد وجعل المُنبِّه على وقت الضُّحَى، فإذا استيقظ صلَّى ثم ذهب إلى عمله، فهؤلاء إن لم يتوبوا ويرجعوا فهم على خطرٍ عظيمٍ؛ لأن تلك الصلاة هي على غير وقتها، فلا تقبل كمن حجَّ في غير وقته، أو صام رمضان في غير وقته من غير عذر، فليتدارك هؤلاء أمرهم قبل أن يلقَوا ربَّهم وهم على تلك الحال والعياذ بالله.

الدرس الثامن: إن ممَّا يُقال في الرجوع من السفر دعاء السفر، فكما قاله عند ابتداء السفر، فهو أيضًا يقوله إذا ابتدأ الرجوع من السفر، وكذلك إذا أقبل على بلده قال: ((آيبون تائبون عابدون، لربِّنا حامدون))، فلنحرص على التمسُّك بسُنَّة المصطفى عليه الصلاة والسلام.

إن هذه الدروس والعِبَر أيها الكِرام ينبغي أن تُؤخَذ بعناية، وأن تكون سلوكًا لنا حتى نعمل على ما يُرضي الله تعالى ويُرضي رسولَه عليه الصلاة والسلام، فهكذا كانت السيرة تُصحِّح المفاهيم، وتُعلِّم الجاهلين، وتُربِّي الناس على سُنَّة نبيِّهم عليه الصلاة والسلام، فما أحْرَانا أن نتعرَّف على سيرته صلى الله عليه وسلم، وأن نقرأ فيها، وأن نستلهم منها الدروس والعبر! حتى نكون مقتدين به عليه الصلاة والسلام.

أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الهدى والتُّقى والسداد والرشاد والعفو والعافية والصلاح والإصلاح في النيَّة والذُّريَّة، وصلَّى الله وسلِّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.29 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.10%)]