عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 10-01-2022, 08:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله




تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 55 الى صـ 60
الحلقة (10)



قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ : وَلِضَرْبِ الْعَرَبِ الْأَمْثَالَ ، وَاسْتِحْضَارِ الْعُلَمَاءِ الْمُثُلَ [ ص: 55 ] وَالنَّظَائِرَ شَأْنٌ لَيْسَ بِالْخَفِيِّ فِي إِبْرَازِ خَبِيَّاتِ الْمَعَانِي ، وَرَفْعِ الْأَسْتَارِ عَنِ الْحَقَائِقِ ، حَتَّى تُرِيَكَ الْمُتَخَيَّلَ فِي صُورَةِ الْمُحَقَّقِ ، وَالْمُتَوَهَّمَ فِي مَعْرِضِ الْمُتَيَقَّنِ ، وَالْغَائِبَ كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ - وَفِيهِ تَبْكِيتٌ لِلْخَصْمِ الْأَلَدِّ ، وَقَمْعٌ لِسَوْرَةِ الْجَامِحِ الْأَبِيِّ .

وَلِأَمْرٍ مَا ، أَكْثَرَ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ ، وَفِي سَائِرِ كُتُبِهِ - أَمْثَالَهُ ، وَفَشَتْ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ

وَ(الْمَثَلُ) : فِي أَصْلِ كَلَامِهِمْ بِمَعْنَى : الْمِثْلُ وَهُوَ النَّظِيرُ . يُقَالُ : مِثْلٌ ، وَمَثَلٌ ، وَمَثِيلٌ - كَشِبْهٍ وَشَبَهٍ وَشَبِيهٍ - ثُمَّ قِيلَ لِلْقَوْلِ السَّائِرِ الْمُمَثِّلِ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ : مَثَلٌ . وَلَمْ يَضْرِبُوا مَثَلًا ، وَلَا رَأَوْهُ أَهْلًا لِلتَّسْيِيرِ وَلَا جَدِيرًا بِالتَّدَاوُلِ وَالْقَبُولِ ، إِلَّا قَوْلًا فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . وَمِنْ ثَمَّ حُوفِظَ عَلَيْهِ ، وَحُمِيَ مِنَ التَّغْيِيرِ .

فَإِنَّهُ - لَوْ غُيِّرَ - لَرُبَّمَا انْتَفَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى تِلْكَ الْغَرَابَةِ . وَقِيلَ : إِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْمَثَلِ إِنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ اسْتِعَارَةً . فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ بِعَيْنِهِ لَفْظَ الْمُشَبَّهِ بِهِ . فَإِنَّ وَقَعَ تَغْيِيرٌ ، لَمْ يَكُنْ مَثَلًا ، بَلْ مَأْخُوذًا مِنْهُ ، وَإِشَارَةً إِلَيْهِ - كَمَا فِي قَوْلِكَ : بِالصَّيْفِ ضَيَّعْتَ اللَّبَنَ بِالتَّذْكِيرِ .

[ ص: 56 ] وَقَالَ بَعْضُهُمْ : قَدِ اسْتُعِيرَ الْمَثَلُ لِلْحَالِ ، أَوِ الْقِصَّةِ ، أَوِ الصِّفَةِ - إِذَا كَانَ لَهَا شَأْنٌ ، وَفِيهَا غَرَابَةٌ - كَأَنَّهُ قِيلَ : حَالُهُمُ الْعَجِيبَةُ الشَّأْنِ كَحَالِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أَيْ : - فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنَ الْعَجَائِبِ - قِصَّةَ الْجَنَّةِ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنَ ، ثُمَّ أَخَذَ فِي بَيَانِ عَجَائِبِهَا : وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى أَيِ : الْوَصْفُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَيْ : صِفَتُهُمْ وَشَأْنُهُمُ الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ .

وَلِمَا فِي الْمَثَلِ مِنْ مَعْنَى الْغَرَابَةِ قَالُوا : فُلَانٌ مُثْلَةٌ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، فَاشْتَقُّوا مِنْهُ صِفَةً لِلْعَجِيبِ الشَّأْنِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

[18 ] صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ

"صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ" الصَّمَمُ : آفَةٌ مَانِعَةٌ مِنَ السَّمَاعِ ، سُمِّيَ بِهِ فِقْدَانُ حَاسَّةِ السَّمْعِ ، لِمَا أَنَّ سَبَبَهُ اكْتِنَازُ بَاطِنِ الصِّمَاخِ ، وَانْسِدَادُ مَنَافِذِهِ ، بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَدْخُلُهُ هَوَاءٌ يَحْصُلُ الصَّوْتُ بِتَمَوُّجِهِ . وَالْبُكْمُ : الْخَرَسُ . وَالْعَمَى : عَدَمُ الْبَصَرِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبْصَرَ .

[ ص: 57 ] وُصِفُوا بِذَلِكَ -مَعَ سَلَامَةِ حَوَاسِّهِمُ الْمَذْكُورَةِ- لِمَا أَنَّهُمْ سَدُّوا عَنِ الْإِصَاخَةِ إِلَى الْحَقِّ مَسَامِعَهُمْ ، وَأَبَوْا أَنْ يُنْطِقُوا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ ، وَأَنْ يَنْظُرُوا وَيَتَبَصَّرُوا بِعُيُونِهِمْ ، فَجَعَلُوا كَأَنَّمَا أُصِيبَ بِآفَةٍ مَشَاعِرُهُمْ - كَقَوْلِهِ - :


صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا


وَكَقَوْلِهِ :


أَصَمُّ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا أُرِيدُهُ وَأَسْمَعُ خَلْقَ اللَّهِ حِينَ أُرِيدُ


"فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" أَيْ : - بِسَبَبِ اتِّصَافِهِمْ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ - لَا يَعُودُونَ إِلَى الْهُدَى - بَعْدَ أَنْ بَاعُوهُ ، أَوْ عَنِ الضَّلَالَةِ - بَعْدَ أَنِ اشْتَرَوْهَا ، فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتِمَّةٌ لِلتَّمْثِيلِ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ لَيْسَ مُجَرَّدَ انْطِفَاءِ نَارِهِمْ ، وَبَقَائِهِمْ فِي ظُلُمَاتٍ كَثِيفَةٍ هَائِلَةٍ- مَعَ بَقَاءِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ بِحَالِهَا- بَلِ اخْتَلَّتْ مَشَاعِرُهُمْ جَمِيعًا، وَاتَّصَفُوا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَبَقُوا جَامِدِينَ فِي مَكَانِهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ، وَلَا يَدْرُونَ أَيَتَقَدَّمُونَ أَمْ يَتَأَخَّرُونَ ؟ وَكَيْفَ يَرْجِعُونَ إِلَى مَا ابْتَدَأُوا مِنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

[19 ] أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ

"أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ" تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ إِثْرَ تَمْثِيلٍ ، لِيَعُمَّ الْبَيَانُ مِنْهَا كُلَّ دَقِيقٍ وَجَلِيلٍ ، وَيُوَفِّي حَقَّهَا مِنَ التَّفْظِيعِ وَالتَّهْوِيلِ . فَإِنَّ تَفَنُّنَهُمْ فِي فُنُونِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُضْرَبَ فِي شَأْنِهِ الْأَمْثَالُ . وَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْبَلِيغِ -فِي مَظَانِّ الْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ- أَنْ يُجْمِلَ وَيُوجِزَ ، فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ -فِي مَوَارِدِ التَّفْصِيلِ وَالْإِشْبَاعِ- أَنْ يُفَصِّلَ وَيُشْبِعَ .

وَ(الصَّيِّبُ) : السَّحَابُ ذُو الصَّوْبِ ، وَالصَّوْبُ الْمَطَرُ . وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ : السَّحَابُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : أَأَنْتُمْ أَنْـزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْـزِلُونَ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ : كُلُّ مَا عَلَاكَ مِنْ سَقْفٍ وَنَحْوِهِ.

[ ص: 58 ] "فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ" التَّنْوِينُ فِي الْكُلِّ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّهْوِيلِ - كَأَنَّهُ قِيلَ : فِيهِ ظُلُمَاتٌ دَاجِيَةٌ ، وَرَعْدٌ قَاصِفٌ ، وَبَرْقٌ خَاطِفٌ – "يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ " الصَّاعِقَةُ : الصَّوْتُ الشَّدِيدُ مِنَ الرِّعْدَةِ يَسْقُطُ مَعَهَا قِطْعَةُ نَارٍ تَنْقَدِحُ مِنَ السَّحَابِ - إِذَا اصْطَكَّتْ أَجْرَامُهُ- لَا تَأْتِي عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَحْرَقَتْهُ "حَذَرَ" -أَيْ : خَوْفَ - : "الْمَوْتِ" مِنْ سَمَاعِهَا- "وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ" عِلْمًا وَقُدْرَةً فَلَا يَفُوتُونَهُ .

وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ مُنَبِّهَةٌ عَلَى أَنَّ مَا صَنَعُوا -مِنْ سَدِّ الْآذَانِ بِالْأَصَابِعِ- لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا ، فَإِنَّ الْقَدَرَ لَا يُدَافِعُهُ الْحَذَرُ، وَالْحِيَلَ لَا تَرُدُّ بَأْسَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَفَائِدَةُ وَضْعِ الْكَافِرِينَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ -الرَّاجِعِ إِلَى أَصْحَابِ الصَّيِّبِ- الْإِيذَانُ بِأَنَّ مَا دَهَمَهُمْ - مِنَ الْأُمُورِ الْهَائِلَةِ الْمَحْكِيَّةِ- بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ، فَيُظْهِرُ اسْتِحْقَاقُهُمْ شِدَّةَ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا فَإِنَّ الْإِهْلَاكَ النَّاشِئَ عَنِ السُّخْطِ أَشَدُّ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

[20 ] يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

"يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ" اسْتِئْنَافٌ آخَرُ وَقَعَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ - كَأَنَّهُ قِيلَ : فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ ذَلِكَ الْبَرْقِ ؟ فَقِيلَ : يَكَادُ يَخْطِفُ أَبْصَارَهُمْ ، أَيْ : يَأْخُذُهَا بِسُرْعَةٍ : "كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ" أَيْ : فِي ضَوْئِهِ : "وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا" أَيْ : وَقَفُوا ، [ ص: 59 ] وَثَبَتُوا فِي مَكَانِهِمْ - وَمِنْهُ : قَامَتِ السُّوقُ، إِذَا رَكَدَتْ وَكَسَدَتْ . وَقَامَ الْمَاءُ ، جَمُدَ - وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ : بِشِدَّتِهِ عَلَى أَصْحَابِ الصَّيِّبِ ، وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ غَايَةِ التَّحَيُّرِ وَالْجَهْلِ -بِمَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُونَ- إِذَا صَادَفُوا مِنَ الْبَرْقِ خَفْقَةً- مَعَ خَوْفِ أَنْ يَخْطِفَ أَبْصَارَهُمُ- انْتَهَزُوا تِلْكَ الْخَفْقَةَ فُرْصَةً ، فَخَطَوْا خُطُوَاتٍ يَسِيرَةً ، فَإِذَا خَفِيَ ، وَفَتَرَ لَمَعَانُهُ ، بَقُوا وَافِقِينَ مُتَقَيِّدِينَ عَنِ الْحَرَكَةِ : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ أَيْ : لَزَادَ فِي قَصِيفِ الرَّعْدِ فَأَصَمَّهُمْ ، أَوْ فِي ضَوْءِ الْبَرْقِ فَأَعْمَاهُمْ . وَمَفْعُولُ "شَاءَ" مَحْذُوفٌ، لِأَنَّ الْجَوَابَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَذْهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لَذَهَبَ بِهَا .

وَلَقَدْ تَكَاثَرَ هَذَا الْحَذْفُ فِي "شَاءَ" وَ "أَرَادَ" . لَا يَكَادُونَ يَبْرُزُونَ الْمَفْعُولَ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَغْرَبِ- كَنَحْوِ قَوْلِهِ : فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِيَ دَمًا لَبَكَيْتُهُ ؛ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا "إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" تَعْلِيلٌ لِلشَّرْطِيَّةِ ، وَتَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِهَا النَّاطِقِ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِزَالَةِ مَشَاعِرِهِمْ بِالطَّرِيقِ الْبُرْهَانِيِّ .

تَنْبِيهَاتٌ :

الْأَوَّلُ : مَحْصُولُ التَّمْثِيلَيْنِ - غِبُّ وَصْفِ أَرْبَابِهِمَا بِوُقُوعِهِمْ فِي ضَلَالَتِهِمُ الَّتِي اسْتَبْدَلُوهَا بِالْهُدَى - هُوَ أَنَّهُ شَبَّهَ ، فِي الْأَوَّلِ ، حَيْرَتَهُمْ وَشِدَّةَ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بِمَا يُكَابِدُ مَنْ طَفِئَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ .

وَفِي الثَّانِي : شَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِ مَنْ أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ فِي لَيْلَةٍ تَكَاثَفَ ظُلُمَاتُهَا - بِتَرَاكُمِ السُّحُبِ ، وَانْتِسَاجِ قَطَرَاتِهَا ، وَتَوَاتَرَ فِيهَا الرُّعُودُ الْهَائِلَةُ ، وَالْبُرُوقُ الْمُخِيفَةُ ، وَالصَّوَاعِقُ الْمُخْتَلِفَةُ الْمُهْلِكَةُ ، وَهُمْ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يُزَاوِلُونَ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ . وَبِذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّ التَّمْثِيلَيْنِ جَمِيعًا مِنْ جُمْلَةِ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ ، وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ جَزَالَةُ الْمَعَانِي -لِأَنَّهُ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ مِنْ تَشْبِيهِ الْهَيْئَاتِ الْمُرَكَّبَةِ مَا لَا يَحْصُلُ مِنْ تَشْبِيهِ مُفْرَدَاتِهَا . فَإِنَّكَ إِذَا تَصَوَّرْتَ حَالَ مَنْ طَفِئَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا . . . إِلَخْ . وَحَالَ مَنْ أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ . . إِلَخْ . حَصَلَ فِي نَفْسِكَ [ ص: 60 ] هَيْئَةٌ عَجِيبَةٌ تُوصِلُكَ إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ ، عَلَى وَجْهٍ يَتَقَاصَرُ عَنْهُ تَشْبِيهُ الْمُنَافِقِ - فِي التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ - بِالْمُسْتَوْقِدِ نَارًا ، وَإِظْهَارُهُ الْإِيمَانَ بِالْإِضَاءَةِ ، وَانْقِطَاعُ انْتِفَاعِهِ بِانْتِفَاءِ النَّارِ وَتَشْبِيهِ دِينِ الْإِسْلَامِ - فِي الثَّانِي - بِالصَّيِّبِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ - مِنْ شُبَهِ الْكُفَّارِ - بِالظُّلُمَاتِ ، وَمَا فِيهِ - مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ - بِالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ ، وَمَا يُصِيبُ الْكَفَرَةَ - مِنَ الْإِفْزَاعِ وَالْبَلَايَا وَالْفِتَنِ- مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالصَّوَاعِقِ . وَأَيْضًا فِي تَشْبِيهِ الْمُفْرَدَاتِ ، وَطَيُّ ذِكْرِ الْمُشَبَّهَاتِ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ . وَأَيْضًا فِي لَفْظِ (الْمِثْلِ) نَوْعُ إِنْبَاءٍ عَنِ التَّرْكِيبِ ، إِذِ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ الْقِصَّةُ الَّتِي هِيَ فِي غَرَابَتِهَا كَالْمَثَلِ السَّائِرِ ، وَهِيَ فِي الْهَيْئَةِ الْمُرَكَّبَةِ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا . وَأَيْضًا فِي التَّمْثِيلِ الْمُرَكَّبِ اشْتِمَالٌ عَلَى التَّشْبِيهِ فِي الْمُفْرَدَاتِ إِجْمَالًا ، مَعَ أَمْرٍ زَائِدٍ : هُوَ تَشْبِيهُ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ ، وَإِيذَانُهِ بِأَنَّ اجْتِمَاعَ تِلْكَ الْمُفْرَدَاتِ مُسْتَتْبِعٌ لِهَيْئَةٍ عَجِيبَةٍ حَقِيقَةً بِأَنْ تَكُونَ مَثَلًا فِي الْغَرَابَةِ .

التَّنْبِيهُ الثَّانِي :

قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ "ابْنُ الْقَيِّمِ" فِي كِتَابِهِ (اجْتِمَاعُ الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى غَزْوِ الْمُعَطِّلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ" .

"فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، شَبَّهَ ، سُبْحَانَهُ ، أَعْدَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ : بِقَوْمٍ أَوْقَدُوا نَارًا لِتُضِيءَ لَهُمْ ، وَيَنْتَفِعُوا بِهَا ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُمُ النَّارُ فَأَبْصَرُوا فِي ضَوْئِهَا مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ ، وَأَبْصَرُوا الطَّرِيقَ - بَعْدَ أَنْ كَانُوا حَيَارَى تَائِهِينَ -فَهُمْ كَقَوْمٍ سَفْرٍ ضَلُّوا عَنِ الطَّرِيقِ ، فَأَوْقَدُوا النَّارَ لِتُضِيءَ لَهُمُ الطَّرِيقَ فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُمْ - فَأَبْصَرُوا وَعَرَفُوا - طَفِئَتْ تِلْكَ الْأَنْوَارُ ، وَبَقُوا فِي الظُّلُمَاتِ لَا يُبْصِرُونَ ، قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمُ أَبْوَابُ الْهُدَى الثَّلَاثُ - فَإِنَّ الْهُدَى يَدْخُلُ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ : مِمَّا يَسْمَعُهُ بِإِذْنِهِ ، وَيَرَاهُ بِعَيْنِهِ ، وَيَعْقِلُ بِقَلْبِهِ ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الْهُدَى : فَلَا تَسْمَعُ قُلُوبُهُمْ شَيْئًا ، وَلَا تُبْصِرُهُ ، وَلَا تَعْقِلُ مَا يَنْفَعُهَا . وَقِيلَ : لِمَا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ نَزَلُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا سَمْعَ لَهُ ، وَلَا بَصَرَ ، وَلَا عَقْلَ ، وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.49 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.86 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.28%)]