عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 10-12-2021, 05:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,931
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (6)

صــ19 إلى صــ 24


سُورَةُ الْبَقَرَةِ

فَصْلٌ فِي فَضِيلَتِهَا

رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ ، فَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لَا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ" .

وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ وَآَلَ عِمْرَانَ ، فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ ، أَوْ غَيَايَتَانِ ، أَوْ فَرْقَانِ ، مِنْ طَيْرِ صَوَّافٍ ، اقْرَؤُوا الْبَقَرَةَ ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ" .

وَالْمُرَادُ بِالزَّهْرَاوَيْنِ: الْمُنِيرَتَيْنِ . يُقَالُ: لِكُلِّ مُنِيرٍ: زَاهِرٌ . وَالْغَيَايَةُ: كُلُّ شَيْءٍ أَظَلَّ إِنْسَانٍ فَوْقَ رَأْسِهِ ، مِثْلُ السَّحَابَةِ وَالْغَبَرَةِ . يُقَالُ: غَايَا الْقَوْمَ فَوْقَ رَأْسِ فُلَانٍ بِالسَّيْفِ ، كَأَنَّهُمْ أَظَلُّوهُ بِهِ . قَالَ لَبِيدٌ: .


فَتَدَلَّيْتُ عَلَيْهِ قَافِلًا وَعَلَى الْأَرْضِ غَيَايَاتُ الطِّفْلِ


وَمَعْنَى فَرْقَانِ: قِطْعَتَانِ . وَالْفَرْقُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ . قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ الشُّعَرَاءِ: 63 ] وَالصَّوَّافُ: الْمُصْطَفَّةُ الْمُتَضَامَّةُ لِتُظِلَّ قَارِئَهَا . وَالْبَطَلَةُ: السَّحَرَةُ .
فَصْلٌ فِي نُزُولِهَا

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، [ ص: 20 ] وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ . وَذَكَرَ قَوْمٌ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ سِوَى آَيَةٍ ، وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ: 281 ] فَإِنَّهَا أُنْزِلَتْ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ .
فَصْلٌ وَأَمَّا التَّفْسِيرُ . فَقَوْلُهُ: "الـم" اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا وَفِي سَائِرِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ ، وَسِرُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآَنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَأَبُو صَالِحٍ وَابْنُ زَيْدٍ .

وَالثَّانِي: أَنَّهَا حُرُوفٌ مِنْ أَسْمَاءٍ ، فَإِذَا أُلِّفَتْ ضَرْبًا مِنَ التَّأْلِيفِ كَانَتْ أَسْمَاءً مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هِيَ أَسْمَاءٌ مُقَطَّعَةٌ لَوْ عَلِمَ النَّاسُ تَأْلِيفَهَا عَلِمُوا اسْمَ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ .

وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ "الر" و"حم" وَ"نُونِ" فَقَالَ: اسْمُ الرَّحْمَنِ عَلَى الْجِهَاءِ ، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا ذَهَبَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ .

وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا حُرُوفٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقْسَمَ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ كُلِّهَا ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ بَعْضِهَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: تَعَلَّمْتُ "أ ب ت ث" وَهُوَ يُرِيدُ سَائِرَ الْحُرُوفِ ، وَكَمَا يَقُولُ: قَرَأْتُ الْحَمْدَ ، يُرِيدُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ، فَيُسَمِّيهَا بِأَوَّلِ حَرْفٍ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا أَقْسَمَ بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ لِشَرَفِهَا وَلِأَنَّهَا مَبَانِيَ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ ، وَبِهَا يُذْكَرُ وَيُوَحَّدُ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ ، تَقْدِيرُهُ: وَحُرُوفُ الْمُعْجَمِ لَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمُ السَّبِيلَ ، وَأَنْهَجْتُ لَكُمُ الدَّلَالَاتِ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ ، وَإِنَّمَا [ ص: 21 ] حُذِفَ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ ، وَلِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ .

وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ أَشَارَ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْحُرُوفِ إِلَى سَائِرِهَا ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحُرُوفُ أُصُولًا لِلْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ ، أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ إِنَّمَا هُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ ، وَقَطْرُبٌ .

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ حُرُوفٌ ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إِعْلَامِهِمْ بِهَذَا؟ .

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِعْجَازِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي تُؤَلِّفُونَ مِنْهَا كَلَامَكُمْ ، فَمَا بَالُكُمْ تَعْجَزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ؟! فَإِذَا عَجَزْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ .

وَالْخَامِسُ: أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ . رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، وَابْنِهِ ، وَأَبِي فَاخِتَةَ سَعِيدِ بْنِ عَلَاقَةَ مَوْلَى أَمِّ هَانِئٍ .

وَالسَّادِسُ: أَنَّهَا مِنَ الرَّمْزِ الَّذِي تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهَا . يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: هَلْ تَا؟ فَيَقُولُ لَهُ بَلَى ، يُرِيدُ هَلْ تَأْتِي؟ فَيَكْتَفِي بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ . وَأَنْشَدُوا:


قُلْنَا لَهَا قِفِي [لَنَا ] فَقَالَتْ قَافُ [لَا تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الْإِيجَافَ ] .


أَرَادَ قَالَتْ: أَقِفُ . وَمِثْلُهُ:


نَادُوهُمْ أَلَا الْجَمُوا أَلَا تَا قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ أَلَا فَا .


يُرِيدُ: أَلَا تَرْكَبُونَ قَالُوا: بَلَى فَارْكَبُوا . وَمِثْلُهُ:


بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنَّ شَرًّا فَا وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا


مَعْنَاهُ: وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ . وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ الْأَخْفَشُ ، وَالزُّجَاجُ ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .

وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ عَطِيَّةُ بْنُ الْحَارِثِ الْهَمْدَانِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ [ ص: 22 ] كُلِّهَا وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ ، فَسَمِعُوهَا فَبَقُوا مُتَحَيِّرِينَ . وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِمَا لَا يَفْهَمُونَ لِيُقْبِلُوا عَلَى سَمَاعِهِ ، لِأَنَّ النَّفُوسَ تَتَطَلَّعُ إِلَى مَا غَابَ عَنْهَا مَعْنَاهُ . فَإِذَا أَقْبَلُوا إِلَيْهِ خَاطَبَهُمْ بِمَا يَفْهَمُونَ ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالْوَسِيلَةِ إِلَى الْإِبْلَاغِ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْنًى يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ ، أَوْ يَكُونُ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ ، فَهَذَا الْكَلَامُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْحُرُوفِ .

وَقَدْ خَصَّ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ "الم" بِخَمْسَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ .

وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ . رَوَاهُ أَبُو الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَسَمٌ . رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ .

وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا حُرُوفٌ مِنْ أَسْمَاءٍ . ثُمَّ فِيهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَلِفَ مِنَ "اللَّهِ" وَاللَّامِ مِنْ "جِبْرِيلَ" وَالْمِيمَ مِنْ "مُحَمَّدٍ" قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .

فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ قَدْ تُنُووِلَ مِنْ كُلِّ اسْمٍ حَرْفُهُ الْأَوَّلُ اكْتِفَاءً بِهِ ، فَلِمَ أُخِذَتِ اللَّامُ مِنْ جِبْرِيلَ وَهِيَ آَخِرُ الِاسْمِ؟! .

فَالْجَوَابُ: أَنَّ مُبْتَدَأَ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِابْتِدَاءِ أَوَّلِ حَرْفٍ مِنِ اسْمِهِ ، وَجِبْرِيلُ انْخَتَمَ بِهِ التَّنْزِيلُ وَالْإِقْرَاءُ ، فَتُنُووِلَ مِنِ اسْمِهِ نِهَايَةُ حُرُوفِهِ ، و"مُحَمَّدٌ" مُبْتَدَأٌ فِي الْإِقْرَاءِ ، فَتُنُووِلَ أَوَّلُ حَرْفٍ فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَلِفَ مِنَ "اللَّهِ" تَعَالَى ، وَاللَّامَ مِنْ "لَطِيفٍ" وَالْمِيمَ مِنْ "مَجِيدٍ" قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ .

وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآَنِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ .

[ ص: 23 ]
قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ فِيهِ قَوْلَانِ .

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى هَذَا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ ، وَالْأَخْفَشِ . وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بُقَوْلِ خِفَافِ بْنِ نُدْبَةَ .


أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنَهُ تَأَمَّلْ خِفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا


أَيْ: أَنَا هَذَا . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . إِنَّمَا أَرَادَ: أَنَا ذَلِكَ الَّذِي تَعْرِفُهُ .

وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ .

ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ إِنْزَالُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآَنِ .

وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا وَعَدَهُ أَنْ يُوحِيَهُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا [الْمُزَّمِّلِ: 5 ] .

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا وَعَدَ بِهِ أَهِلَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ ، لِأَنَّهُمْ وُعِدُوا بِنَبِيٍّ وَكِتَابٍ .

وَ الْكِتَابُ . الْقُرْآَنُ . وَسُمِّيَ كِتَابًا ، لِأَنَّهُ جُمِعَ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ . وَمِنْهُ الْكَتِيبَةُ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ . وَمِنْهُ: كَتَبْتُ الْبَغْلَةَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: لا رَيْبَ فِيهِ الرَّيْبُ: الشَّكُّ . وَالْهُدَى: الْإِرْشَادُ . وَالْمُتَّقُونَ: الْمُحْتَرِزُونَ مِمَّا اتَّقَوْهُ .

وَفَرَّقَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ بَيْنَ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ ، فَقَالَ: التَّقْوَى: أَخْذُ عِدَةٍ ، وَالْوَرَعُ: دَفَعُ شُبْهَةٍ ، فَالتَّقْوَى: مُتَحَقِّقُ السَّبَبِ ، وَالْوَرَعُ: مَظْنُونُ الْمُسَبِّبِ .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَهَا النَّفْيُ ، وَمَعْنَاهَا النُّهَى ، وَتَقْدِيرُهَا: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرْتَابَ بِهِ لِإِتْقَانِهِ وَإِحْكَامِهِ . وَمِثْلُهُ: مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [ يُوسُفَ: 38 ] . أَيْ: مَا يَنْبَغِي لَنَا . وَمِثْلُهُ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [ الْبَقَرَةِ: 196 ] وَهَذَا مَذْهَبُ الْخَلِيلِ ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .

[ ص: 24 ] وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . قَالَهُ الْمُبَرِّدُ .

وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ فِي آَخَرِينَ .

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ ارْتَابَ بِهِ قَوْمٌ . فَالْجَوَابُ أَنَّهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ ، فَمَنْ حَقَّقَ النَّظَرَ فِيهِ عَلِمَ .

قَالَ الشَّاعِرُ:


لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَامَةُ رَيْبٌ [إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الْكَذُوبُ ]


فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُتَّقِي مُهْتَدٍ ، فَمَا فَائِدَةُ اخْتِصَاصِ الْهِدَايَةِ بِهِ؟

فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْمُتَّقِينَ ، وَالْكَافِرِينَ ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [ النَّحْلِ: 81 ] . أَرَادَ: وَالْبَرْدُ .

وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَصَّ الْمُتَّقِينَ لِانْتِفَاعِهِمْ بِهِ ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [ النَّازِعَاتُ: 45 ] . وَكَانَ مُنْذِرًا لِمَنْ يَخْشَى وَلِمَنْ لَا يَخْشَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ: التَّصْدِيقُ ، وَالشَّرْعُ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَزَادَ فِيهِ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ . وَأَصِلُ الْغَيْبِ: الْمَكَانُ الْمُطَمْئِنُّ الَّذِي يَسْتَتِرُ فِيهِ لِنُزُولِهِ عَمَّا حَوْلَهُ ، فَسُمِّيَ كُلُّ مُسْتَتِرٍ: غَيْبًا .

وَفِي الْمُرَادِ بِالْغَيْبِ هَاهُنَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْوَحْيُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ جُرَيٍجٍ .

وَالثَّانِي: الْقُرْآَنُ ، قَالَهُ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ ، وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ .

وَالثَّالِثُ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَهُ عَطَاءٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .

وَالرَّابِعُ: مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْقُرْآَنِ . رَوَاهُ السَّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ .








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.54 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.08%)]