عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 14-12-2021, 06:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (1)
خُطْبَةُ الْمُصَنِّفِ
من صــ 23 الى صــ 30
الحلقة (1)



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

خُطْبَةُ الْمُصَنِّفِ


وبه نستعين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .

قال الشيخ الفقيه الإمام العالم العامل العلامة المحدث أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي ثم القرطبي ، رضي الله عنه :

الحمد لله المبتدئ بحمد نفسه قبل أن يحمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الرب الصمد الواحد ، الحي القيوم الذي لا يموت ذو الجلال والإكرام ، والمواهب العظام والمتكلم بالقرآن ، والخالق للإنسان ، والمنعم عليه بالإيمان ، والمرسل رسوله بالبيان ، محمدا صلى الله عليه وسلم ما اختلف الملوان ، وتعاقب الجديدان أرسله بكتابه المبين ، الفارق بين الشك واليقين ; الذي أعجزت الفصحاء معارضته ، وأعيت الألباء مناقضته ، وأخرست البلغاء مشاكلته ; فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . جعل أمثاله عبرا لمن تدبرها ، وأوامره هدى لمن استبصرها ; وشرح فيه واجبات الأحكام ، وفرق فيه بين الحلال والحرام ، وكرر فيه المواعظ والقصص للأفهام ، وضرب فيه الأمثال ، وقص فيه غيب الأخبار ; فقال تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء . خاطب به أولياءه ففهموا ، وبين لهم فيه مراده فعلموا . فقرأة القرآن حملة سر الله المكنون ، وحفظة علمه المخزون ، وخلفاء أنبيائه وأمناؤه ، وهم أهله وخاصته وخيرته وأصفياؤه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله أهلين منا قالوا : يا رسول الله ، من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته أخرجه ابن ماجه في سننه ، وأبو بكر البزار في مسنده . فما أحق من علم كتاب الله أن يزدجر بنواهيه ، ويتذكر ما شرح له فيه ، ويخشى الله ويتقيه ، ويراقبه ويستحييه . فإنه قد حمل أعباء الرسل ، وصار شهيدا في القيامة على من خالف من أهل الملل ; قال الله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس . ألا وإن الحجة على من علمه فأغفله ، أوكد منها على من قصر عنه وجهله . ومن أوتي علم القرآن فلم ينتفع ، وزجرته نواهيه فلم يرتدع ; وارتكب من المآثم قبيحا ، ومن الجرائم فضوحا ; كان القرآن حجة عليه ، وخصما لديه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القرآن حجة لك أو عليك خرجه مسلم . فالواجب على من خصه الله بحفظ كتابه أن يتلوه حق تلاوته ، ويتدبر حقائق عبارته ; ويتفهم عجائبه ، ويتبين غرائبه ; قال الله تعالى : [ ص: 24 ] كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته [ ص : 29 ] . وقال الله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها . [ القتال : 24 ] . جعلنا الله ممن يرعاه حق رعايته ، ويتدبره حق تدبره ; ويقوم بقسطه ، ويوفي بشرطه ، ولا يلتمس الهدى في غيره ; وهدانا لأعلامه الظاهرة ، وأحكامه القاطعة الباهرة ، وجمع لنا به خير الدنيا والآخرة ، فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة . ثم جعل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بيان ما كان منه مجملا ، وتفسير ما كان منه مشكلا ، وتحقيق ما كان منه محتملا ; ليكون له مع تبليغ الرسالة ظهور الاختصاص به ، ومنزلة التفويض إليه ; قال الله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] . ثم جعل إلى العلماء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم استنباط ما نبه على معانيه ، وأشار إلى أصوله ليتوصلوا بالاجتهاد فيه إلى علم المراد ; فيمتازوا بذلك عن غيرهم ، ويختصوا بثواب اجتهادهم ; قال الله تعالى : يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [ المجادلة : 11 ] . فصار الكتاب أصلا والسنة له بيانا ، واستنباط العلماء له إيضاحا وتبيانا . فالحمد لله الذي جعل صدورنا أوعية كتابه ، وآذاننا موارد سنن نبيه ، وهممنا مصروفة إلى تعلمهما والبحث عن معانيهما وغرائبهما ; طالبين بذلك رضا رب العالمين ، ومتدرجين به إلى علم الملة والدين .

وبعد ، فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع ، الذي استقل بالسنة والفرض ، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض ، رأيت أن أشتغل به مدى عمري ، وأستفرغ فيه منتي ; بأن أكتب فيه تعليقا وجيزا ، يتضمن نكتا من التفسير واللغات ، والإعراب والقراءات ; والرد على أهل الزيغ والضلالات ، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات ; جامعا بين معانيهما ، ومبينا ما أشكل منهما ; بأقاويل السلف ، ومن تبعهم من الخلف . وعملته تذكرة لنفسي ، وذخيرة ليوم رمسي ، وعملا صالحا بعد موتي . قال الله تعالى : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ القيامة : 13 ] . وقال تعالى : علمت نفس ما قدمت وأخرت [ الانفطار : 5 ] . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له .
وشرطي في هذا الكتاب : إضافة الأقوال إلى قائليها ، والأحاديث إلى مصنفيها ; فإنه يقال : من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله . وكثيرا ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهما ، لا يعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث ، فيبقى من لا خبرة له بذلك حائرا ، لا يعرف الصحيح من السقيم ، ومعرفة ذلك علم جسيم ، فلا يقبل منه الاحتجاج به ، ولا الاستدلال حتى [ ص: 25 ] يضيفه إلى من خرجه من الأئمة الأعلام ، والثقات المشاهير من علماء الإسلام . ونحن نشير إلى جمل من ذلك في هذا الكتاب ، والله الموفق للصواب . وأضرب عن كثير من قصص المفسرين ، وأخبار المؤرخين ، إلا ما لا بد منه ولا غنى عنه للتبيين ; واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام ، بمسائل تسفر عن معناها ، وترشد الطالب إلى مقتضاها ; فضمنت كل آية تتضمن حكما أو حكمين فما زاد ، مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير الغريب والحكم ; فإن لم تتضمن حكما ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل ، هكذا إلى آخر الكتاب . وسميته : ب :

الجامع لأحكام القرآن ، والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان .

جعله الله خالصا لوجهه ، وأن ينفعني به ووالدي ومن أراده بمنه ; إنه سميع الدعاء ، قريب مجيب ; آمين .
اعلم : أن هذا الباب واسع كبير ، ألف فيه العلماء كتبا كثيرة ، نذكر من ذلك نكتا تدل على فضله ، وما أعد الله لأهله ، إذا أخلصوا الطلب لوجهه ، وعملوا به . فأول ذلك أن يستشعر المؤمن من فضل القرآن أنه كلام رب العالمين ، غير مخلوق ، كلام من ليس كمثله شيء ، وصفة من ليس له شبيه ولا ند ، فهو من نور ذاته جل وعز ، وأن القراءة أصوات القراء ونغماتهم ، وهي أكسابهم التي يؤمرون بها في حال إيجابا في بعض العبادات ، وندبا في كثير من الأوقات ; ويزجرون عنها إذا أجنبوا ، ويثابون عليها ويعاقبون على تركها . وهذا مما أجمع عليه المسلمون أهل الحق ، ونطقت به الآثار ، ودل عليها المستفيض من الأخبار ; ولا يتعلق الثواب والعقاب إلا بما هو من أكساب العباد ، على ما يأتي بيانه . ولولا أنه - سبحانه - جعل في قلوب عباده من القوة على حمله ما جعله ، ليتدبروه وليعتبروا به ، وليتذكروا ما فيه من طاعته وعبادته ، وأداء حقوقه وفرائضه ، لضعفت ولاندكت بثقله ، أو لتضعضعت له وأنى تطيقه ; وهو يقول - تعالى جده - وقوله الحق : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله [ الحشر : 21 ] . فأين قوة القلوب من قوة الجبال ! ولكن الله تعالى رزق عباده من القوة على حمله ما شاء أن يرزقهم ; فضلا منه ورحمة .

وأما ما جاء من الآثار في هذا الباب : فأول ذلك : ما خرجه الترمذي عن أبي سعيد قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقول الرب تبارك وتعالى من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين - قال : - وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه .

قال : هذا حديث حسن غريب . وروى أبو محمد الدارمي السمرقندي في مسنده عن عبد الله قال : السبع [ ص: 26 ] الطول مثل التوراة ، والمئون مثل الإنجيل ، والمثاني مثل الزبور ، وسائر القرآن بعد فضل . وأسند عن الحارث عن علي رضي الله عنه وخرجه الترمذي قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ستكون فتن كقطع الليل المظلم قلت : يا رسول الله وما المخرج منها ؟ قال : كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله هو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا تتشعب معه الآراء ولا يشبع منه العلماء ولا يمله الأتقياء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا ، من علم علمه سبق ومن قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور . " الحارث " رماه الشعبي بالكذب وليس بشيء ولم يبن من الحارث كذب ، وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي وتفضيله له على غيره . ومن هاهنا - والله أعلم - كذبه الشعبي ; لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر ، وإلى أنه أول من أسلم . قال أبو عمر بن عبد البر : وأظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمداني : حدثني الحارث وكان أحد الكذابين .

وأسند أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري النحوي اللغوي في كتاب " الرد على من خالف مصحف عثمان " عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم إن هذا القرآن حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع عصمة من تمسك به ونجاة من اتبعه لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف ولا ألفين أحدكم واضعا إحدى رجليه يدع أن يقرأ سورة البقرة فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة وإن أصفر البيوت من الخير البيت الصفر من كتاب الله . وقال أبو عبيد في غريبه عن عبد الله قال : إن هذا القرآن مأدبة الله فمن دخل فيه فهو آمن . قال : وتأويل الحديث أنه مثل ، شبه القرآن بصنيع صنعه الله عز وجل للناس . لهم فيه خير ومنافع ، ثم دعاهم إليه . يقال : مأدبة ومأدبة ; فمن قال : مأدبة ; أراد الصنيع يصنعه الإنسان فيدعو إليه الناس . ومن قال : مأدبة ; فإنه يذهب به إلى الأدب ، يجعله مفعلة من الأدب ، ويحتج بحديثه الآخر : إن هذا القرآن مأدبة الله عز وجل فتعلموا من مأدبته . وكان الأحمر يجعلهما لغتين بمعنى واحد ، ولم أسمع أحدا يقول هذا غيره . قال : والتفسير الأول أعجب إلي .

وروى البخاري عن عثمان بن عفان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خيركم من تعلم القرآن وعلمه . [ ص: 27 ] وروى مسلم عن أبي موسى قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر . وفي رواية : " مثل الفاجر " بدل المنافق . وقال البخاري : مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة . . وذكر الحديث .

وذكر أبو بكر الأنباري : وقد أخبرنا أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا هشيم ، ح . وأنبأنا إدريس حدثنا خلف حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب : أن أبا عبد الرحمن السلمي كان إذا ختم عليه الخاتم القرآن أجلسه بين يديه ووضع يده على رأسه وقال له : يا هذا ، اتق الله ! فما أعرف أحدا خيرا منك إن عملت بالذي علمت . وروى الدارمي عن وهب الذماري قال : من آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار ، وعمل بما فيه ومات على الطاعة ، بعثه الله يوم القيامة مع السفرة ، والأحكام .

قال سعيد : السفرة الملائكة ، والأحكام الأنبياء .

وروى مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران التتعتع : التردد في الكلام عيا وصعوبة ; وإنما كان له أجران من حيث التلاوة ومن حيث المشقة ; ودرجات الماهر فوق ذلك كله ، لأنه قد كان القرآن متعتعا عليه ، ثم ترقى عن ذلك إلى أن شبه بالملائكة . والله أعلم . وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف . قال : حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه ، وقد روي موقوفا . وروى مسلم عن عقبة بن عامر قال : خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصفة ; فقال : أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم فقلنا : يا رسول الله ، كلنا [ ص: 28 ] نحب ذلك ; قال : أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل .

وعن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه .

وروى أبو داود والنسائي والدارمي والترمذي عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة قال الترمذي : حديث حسن غريب . وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول رب حلة فيلبس تاج الكرامة ثم يقول يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ثم يقول : يا رب ارض عنه فيرضى عنه ، فيقال له : اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة . قال : حديث صحيح . وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها ، وأخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ واصعد فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه .

وأسند أبو بكر الأنباري عن أبي أمامة الحمصي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أعطي ثلث القرآن فقد أعطي ثلث النبوة ومن أعطي ثلثي القرآن فقد أعطي ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله فقد أعطي النبوة كلها غير أنه لا يوحى إليه ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق فيقرأ آية ويصعد درجة حتى ينجز ما معه من القرآن ثم يقال له اقبض فيقبض ثم يقال له أتدري ما في يديك فإذا في يده اليمنى الخلد وفي اليسرى النعيم .

حدثنا إدريس بن خلف حدثنا إسماعيل بن عياش عن تمام عن الحسن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أخذ ثلث القرآن وعمل به فقد أخذ أمر ثلث النبوة ومن أخذ نصف القرآن [ ص: 29 ] وعمل به فقد أخذ أمر نصف النبوة ومن أخذ القرآن كله فقد أخذ النبوة كلها . قال : وحدثنا محمد بن يحيى المروزي أنبأنا محمد وهو ابن سعدان حدثنا الحسين بن محمد عن حفص عن كثير بن زاذان عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قرأ القرآن وتلاه وحفظه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كل قد وجبت له النار . وقالت أم الدرداء : دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت لها : ما فضل من قرأ القرآن على من لم يقرأه ممن دخل الجنة ; فقالت عائشة رضي الله عنها : إن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة ، فليس أحد دخل الجنة أفضل ممن قرأ القرآن . ذكره أبو محمد مكي . وقال ابن عباس : من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة ، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب ; وذلك بأن الله تبارك وتعالى يقول : فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى [ طه : 123 ] . قال ابن عباس : فضمن الله لمن اتبع القرآن ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة . ذكره مكي أيضا . وقال الليث : يقال ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن ، لقول الله جل ذكره : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون [ الأعراف : 204 ] . و " لعل " من الله واجبة .

وفي مسند أبي داود الطيالسي - وهو أول مسند ألف في الإسلام - عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين . والآثار في معنى هذا الباب كثيرة ، وفيما ذكرنا كفاية ، والله الموفق للهداية .
روى البخاري عن قتادة قال : سألت أنسا عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : كان يمد مدا إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، يمد بسم الله ، ويمد بالرحمن ، ويمد بالرحيم .

وروى الترمذي عن أم سلمة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع قراءته يقول : الحمد لله رب العالمين [ الفاتحة : 2 ] ثم يقف الرحمن الرحيم [ الفاتحة : 3 ] ثم يقف ، وكان يقرأها : ( ملك يوم الدين ) [ الفاتحة : 4 ] قال : حديث غريب . وأخرجه أبو داود بنحوه .

وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أحسن الناس صوتا من إذا قرأ رأيته يخشى الله تعالى .

وروي عن زياد النميري أنه جاء مع القراء إلى أنس بن مالك فقيل له : اقرأ . فرفع صوته وطرب ، وكان رفيع الصوت ، فكشف أنس عن وجهه ، وكان على وجهه خرقة سوداء فقال : يا هذا ، ما هكذا كانوا يفعلون ! وكان إذا رأى شيئا ينكره ، كشف الخرقة عن وجهه . وروي عن قيس بن عباد أنه [ ص: 30 ] قال : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرهون رفع الصوت عند الذكر . وممن روى عنه كراهة رفع الصوت عند قراءة القرآن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن وابن سيرين والنخعي وغيرهم ، وكرهه مالك بن أنس وأحمد بن حنبل ; كلهم كره رفع الصوت بالقرآن والتطريب فيه . روي عن سعيد بن المسيب أنه سمع عمر بن عبد العزيز يؤم الناس فطرب في قراءته ; فأرسل إليه سعيد يقول : أصلحك الله ! إن الأئمة لا تقرأ هكذا . فترك عمر التطريب بعد . وروي عن القاسم بن محمد : أن رجلا قرأ في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فطرب ; فأنكر ذلك القاسم وقال : يقول الله عز وجل : وإنه لكتاب عزيز [ فصلت : 41 ] لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه [ فصلت : 42 ] الآية .

وروي عن مالك أنه سئل عن النبر في قراءة القرآن في الصلاة ; فأنكر ذلك وكرهه كراهة شديدة ، وأنكر رفع الصوت به . وروى ابن القاسم عنه أنه سئل عن الألحان في الصلاة فقال : لا يعجبني ، وقال : إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم . وأجازت طائفة رفع الصوت بالقرآن والتطريب به ; وذلك لأنه إذا حسن الصوت به كان أوقع في النفوس وأسمع في القلوب ، واحتجوا بقوله عليه السلام : زينوا القرآن بأصواتكم رواه البراء بن عازب . أخرجه أبو داود والنسائي . وبقوله عليه السلام : ليس منا من لم يتغن بالقرآن أخرجه مسلم . وبقول أبي موسى للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لو أعلم أنك تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرا . وبما رواه عبد الله بن مغفل قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته . وممن ذهب إلى هذا أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وابن المبارك والنضر بن شميل ، وهو اختيار أبي جعفر الطبري وأبي الحسن بن بطال والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم .

قلت : القول الأول أصح لما ذكرناه ويأتي . وأما ما احتجوا به من الحديث الأول فليس على ظاهره ، وإنما هو من باب المقلوب ; أي زينوا أصواتكم بالقرآن . قال الخطابي : وكذا فسره غير واحد من أئمة الحديث : زينوا أصواتكم بالقرآن ; وقالوا هو من باب المقلوب ; كما قالوا : عرضت الحوض على الناقة ، وإنما هو عرضت الناقة على الحوض . قال : ورواه معمر عن منصور عن طلحة ; فقدم الأصوات على القرآن ، وهو الصحيح .







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.72 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.10 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.66%)]