عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 22-03-2023, 06:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,014
الدولة : Egypt
افتراضي استدعاء ذاكرة وتجربة ودروس يبنى بها وعليها للمستقبل

استدعاء ذاكرة وتجربة ودروس يبنى بها وعليها للمستقبل
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي


تفسير سورة الأنفال (الحلقة السادسة)

استدعاء ذاكرةٍ وتجربةٍ ودروسٍ يُبنى بها وعليها للمستقبل

بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال: 30 - 40].


إن الذي لا يتذكر الماضي محكوم عليه بألَّا يتعلم، وألَّا يتطوَّر أو يتقدَّم، أو يهتدي لصواب أو يثبت عليه؛ لأن عملية التذكُّر أداة فطرية للتعلم، والتعلم أداة ضرورية لبناء الحياة السويَّة، والذي لا يتذكر الماضي يعيد أخطاء تدبيره، ويتجرع مرارة فشله مرتين، كذلك الشعوب والأُمَم والحركات التغييرية الناشئة والمتجددة؛ لأن تذكر الماضي بتجاربه عصمة من الخطأ في الحاضر، ودعامةُ بناء للنجاح في المستقبل، والذاكرة القوية اليقظة لدى الأُمَم والشعوب والأفراد والجماعات حماية من تكرار أخطاء الماضي، ووقاية من انحراف المستقبل، ومناعة ضد الفساد، وأداة للإبداع والاختراع، ودليلٌ على تماسُك مراحل التطوُّر ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، ونِبْراسٌ لوضوح الرؤية وسلامة النهج ورشد التصرف وصلابة البناء؛ لذلك كان ضرب الذاكرة وسيلة مثلى لمن يريد تخريب حياة أي أُمَّة أو حاضر أي جماعة، وتحويلها إلى كائن بليد غبي جاهل ينكر أباه وأُمَّه وأخاه ونفسه، كائن لا هَمَّ له إلا التردُّد بين مائدة الطعام وأريكة النوم والخمول؛ لذلك كان القرآن الكريم والسنة النبوية يحرصان دائمًا على التذكير بماضي البشرية، ومعرفة أحداث التاريخ بأخطاء أهله وصوابهم، فقال تعالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران: 137]، وقال عز وجل:﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ [الروم: 42]، وقال عن أهمية التذكُّر في حياة الفرد والجماعة: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس: 3، 4]، وخص الاستفادة من التذكر بأصحاب العقول الراجحة، فقال:﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [البقرة: 269]؛ لذلك كان الوحي الكريم وهو يرعى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، ويرعى النخبة المؤمنة الأولى من المسلمين معه، عقب انتصارهم في غزوة بدر، يربط لهم الماضي بالحاضر متجهًا بهم نحو المستقبل، في خط سليم وطريق مستقيم، وإذ ذكَّرهم جميعًا في عزة النصر ونشوة الظفر بفترة الاستضعاف في مكة بقوله عز وجل:﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال: 26]، ثنى بتذكير رسوله صلى الله عليه وسلم بما كان عليه في مكة من الوحدة والاستضعاف بقوله عز وجل: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال: 30]، وحرف الواو بذلك في هذه الآية الكريمة للعطف على الآية قبلها، و"إذ" ظرف لما مضى من الزمن بمعنى: حين، مبني على السكون في محل نصب، متعلق بمحذوف تقديره: "اذكر"، والمكر في قوله تعالى:﴿ يَمْكُرُ ﴾ لغةً معناه: الستر والاحتيال والخداع والتدبير الضار، والسعي بالفساد، فيُقال: مكر الليل: إذا أظلم، والمكر المقصود من الآية الكريمة هو ما حاوله المشركون للإضرار برسول الله صلى الله عليه وسلم.

أي: واذكر يا محمد حين كان المشركون في مكة يُدبِّرون خططًا ماكرة ﴿ لِيُثْبِتُوكَ ﴾: ليعتقلوك، فيوثقوك ويربطوك ويحبسوك، قرأها ابن وثاب[1] بالتضعيف: "لِيُثَبِّتُوكَ" وقرأها النخعي[2]:"ليُبيتوك" من البيات، والمعنى واحد، يفيد الاعتقال، والشد بالوثاق، والإرهاق بالقيد، ومنها قيل لمن اشتدَّتْ به علة أو جراحة أو ضُرِبَ ضربًا شديدًا يمنعه الحركة: "قد أُثْبِتَ"، وهو "مُثْبَتٌ"، أَوْ ﴿ يَقْتُلُوكَ ﴾ غيلة أو غلابًا [3] ﴿ أَوْ يُخْرِجُوكَ: أو يطردوك من وطنك، وحرف "أو" في الآية للعطف والتخيير بين السجن والقتل والطرد.

والمكر في قوله تعالى: ﴿ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ﴾ من باب المقابلة؛ لأنه لا يجوز أن يوصف الحق تعالى بالمكر إلَّا لأجْل ما ذُكِرَ معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به؛ أي: يجازيهم على مكرهم فيفشله ويبطله، وسُمِّي مجازًا إبطال مكرهم مكرًا، ﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ؛ أي: والله أقوى وأحسن من يبطل مكر الماكرين.

إن في تذكيره صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة بفترة استضعافه بقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. ﴾ تذكير كذلك للمؤمنين من الأنصار والمهاجرين بما عانوه في تلك الفترة؛ كيلا يستنيموا عن عدوِّهم أو يركنوا للغفلة عنه، وكأنه يقول لهم أيضًا: واذكروا أيها المؤمنون مبدأ دعوتكم وما واجهكم به المشركون وأعدُّوه لكم في مكة من محاولات تصفية الدين والقضاء على مَنِ ابْتُعث به ومن آمَن به، واعلموا أن هدفهم هذا سيبقى هدفًا لكل المشركين والمنافقين وأعداء الله في كل عصر، يحاولونه كلما غفل المسلمون أو استناموا أو ضعفوا، في إشارة منه تعالى إلى ما ارتكب في حقِّه صلى الله عليه وسلم من الأذى والتضييق والمكر طيلة مقامه بمكة وما حولها؛ مما جعله يلجأ أحيانًا إلى ربِّه تعالى، ويدعو على بعض من يؤذيه، كما في رواية البخاري عن ابن مسعود قال: (استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فدعا على نفر من قريش: على شيبة بنِ ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأبي جهل بن هشام، فأشهد بالله، لقد رأيتهم صرعى، قد غيرتهم الشمس، وكان يومًا حارًّا)، ويشتد به البلاء وألم التكذيب والإعراض حتى لا يجد من يؤويه وهو في قومه، فينادي في مواسم الحج: (مَنْ رجلٌ يؤويني حتى أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبي)، فيأتيه التصبير والتثبيت في سياقات كثيرة من القرآن الكريم؛ مثل قوله تعالى:﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه: 130]، وقوله عز وجل:﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ [الروم: 60].


وإشارة إلى ما ارتكب في حق أتباعه المؤمنين، إذ لم يتورعوا عن قتلهم والتنكيل بهم، فكان منهم أول شهيد في الإسلام؛ وهو الحارث بن أبي هالة، قال العسكري: لما أمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما أمر، قام في المسجد الحرام فدعا الناس إلى الإسلام، فقاموا إليه، فأتى الصريخ أهله، فأدركه الحارث بن أبي هالة، فضرب فيهم، فعطفوا عليه، وقتلوه تحت الركن اليماني من الكعبة، وكانت أول أسرة امتُحِنت بأشد ضروب التنكيل والقتل هي أسرة آل ياسر رضي الله عنهم، اعتقلوهم وأنزلوا بهم أشد العذاب تحت أشعة الشمس وفوق الرمال والصخور الحارقة، فاستشهد ياسر، وطعن أبو جهل أُمَّ ياسر طعنةً قاتلةً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرُّ بهم ويقول لهم: (صبرًا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)، حتى إذا ضاقت صدور أهل الشرك بثبات الرسول صلى الله عليه وسلم وإصراره وخلا لهم الجو بوفاة أم المؤمنين خديجة رضي الله ووفاة جده عبد المطلب بن هاشم [4]، وكانا يحميانه ويدافعان عنه، عقدوا العزم على قتله واستئصال دعوته فأذِنَ له الله تعالى في الهجرة إلى المدينة، فيما رواه المُفسِّرون وأهل المغازي والسِّيَر، بصيغ كثيرة، خلاصتها أن قريشًا تشاورت ليلة بمكة ثم اجتمعت كلمتهم على قتله والترصُّد له بجوار بيته ليلًا لاغتياله، فأطلع الله عز وجل نبيَّه على ذلك، فخلف في بيته عليًّا رضي الله عنه لأمانته وصدقه وبطولته وفدائيته، ينام في فراشه كي يموِّهَ على المشركين ويُفوِّت عليهم فرصةَ قَتْلِه، ويؤدِّي عنه الودائع التي كانت تُوضَع عنده، وقال له: (تَسَجَّ بِبُرْدَتِي فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ أَمْرٌ تَكْرَهُه)، ثم خرج صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب وجعل ينثره على رؤوس من يترصدونه جوار بيته وهو يقرأ:﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [يس: 8، 9]، ومضى إلى الغار من جبل ثور مع أبي بكر رضي الله عنه، وبات المشركون يحرسون عليًّا رضي الله عنه يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه لقتله، فلمَّا رأوا عليًّا قالوا: أين صاحبك؟ فقال: لا أدري، فاقتصُّوا أثره، وصعدوا الجبل، فمرُّوا بالغار فرأوا على بابه نَسْجَ العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليالٍ ثم انطلق إلى يثرب.


إن تذكير النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بفترة الاستضعاف التي عاشها بين المشركين تذكير أولًا بفضل الله الذي يستوجب مضاعفة شكره؛ لما أسبله عليهم من نِعْمة النصر والتمكين، ومزيد الثقة بوعده وتمام الركون إلى كنفه عز وجل، ومتابعة ما يختاره لهم ويسير بهم إليه نبيُّه صلى الله عليه وسلم، كما يستوجب مضاعفة الحذر من العودة إلى حالات الضعف والاستضعاف التي كانوا عليها إذا ما ركنوا إلى الدعة والراحة فتغلب عليهم مَنْ لا يتردَّدُون في إعادة الاعتداء عليهم، مثلما فعلوه بهم قديمًا في مكة، وما تجرؤوا عليه في بدر، وما يصلهم من أخبار حَرَد أبي سفيان وإعداده للقتال.

ثم ذكَّره عز وجل بسوء أدبهم وصَلَفِهم واعتزازهم بالجهل وحسدهم للرسول صلى الله عليه وسلم كلما سمعوا القرآن يُتْلى، فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ﴾ [الأنفال: 31]؛ أي: واذكر سخريتهم بالقرآن كلما تلوت عليهم آياته، وما يدعونه من القدرة على قول مثلها، وزعمهم أنها مجرد أساطير وقصص وخرافات وأخبار تُلَفَّق عن الماضين، في إشارة إلى قاص قريش وزعيمها النضر بن الحارث، وكان يقص عليهم أخبار فارس والروم، فإذا سمع القرآن يُتْلى قال: "لو شئت لقلتُ مثل هذا، وما هو إلا أساطير الأولين"، فيُردِّد المشركون أقوالَه تحديًا لله ورسوله، وما ذلك منهم إلا ادِّعاء وتنطُّع، وقول عقيم لا يعقبه فعل، فعندما دعت قريش الوليد بن المغيرة لتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتلوه من القرآن قال لهم: "إنَّ محمدًا لم يكن يكذب على أحد من الناس، أفيكذب على الله"، وعندما ألحُّوا عليه في أن يُعارض القرآن قال كلمته المشهورة: "إنه يعلو ولا يُعْلى عليه، وإنه يحطم ما تحته"، والقرآن الكريم يتحداهم كل حين أن يأتوا بمثله فيعجزون، قال تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]، وقال عز وجل: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 38]، وقال سبحانه: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [هود: 13].

وترشيدًا له صلى الله عليه وسلم بواقع دعوته وما يكتنفها من مخاطر المشركين فيما فعلوه سابقًا وما يعدون له مستقبلًا ذكَّره تعالى بأشد مواقفهم تعنُّتًا وجحودًا وتحديًا لله تعالى وتكذيبًا لرسالته، فقال عز وجل: ﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [الأنفال: 32]؛ أي: واذكر إذ سألوا الله تحديًا وتكذيبًا واستهانةً بعقابه أن يرجمهم بحجارة من السماء إن كان القرآن وَحْيًا من الله حقًّا، وهو موقف يدل على مدى غلبة الغيظ على عقولهم وغياب الحكمة عن تصرُّفاتهم؛ لأن مجرد العاقل إذا عرف أي حق سأل الله الاهتداء إليه والاستفادة منه، ولم يسأل ما سألوه من رجوم بالحجارة؛ مما يدل على مدى غلوِّهم في التحدِّي والكراهية والحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جبلت عليه نفوسُهم من تعاظم على الله تعالى وتألٍّ عليه فيما يقدره ويختاره للنبوَّة والرسالة، وإكبار عليه أن ينزل الوحي على غير السادة الأغنياء فيهم كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31]، وما طبعت عليه أخلاقهم من جلافة وجهل واستهانة بمخاطر غضب الله، وعظائم ما أصاب قوم لوط مما تناقلته أخبارهم وعَمَّ الجزيرة صداه، وقد نزل فيهم قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 82، 83].

وقد ورد أن قائل [5]:﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [الأنفال: 32] هو أبو جهل وتابعته في قوله قريش، وفي رواية عن عبدالحميد صاحب الزيادي أنه سمع أنس بن مالك يقول: "قَالَ أَبُو جَهْلٍ: ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾، وعن ابن بريدة، عن أبيه قال: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَاقِفًا يَوْمَ أُحُد عَلَى فَرَسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا، فَاخْسِفْ بِي وَبِفَرَسِي"، وعن ابن رومان ومحمد بن قيس أن قريشًا قال بعضها لبعض: "أأكرم الله محمدًا من بيننا؟! ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ﴾"، وفي الأخبار أن زعيم هذه التلفيقات هو النضر بن الحارث الذي بالغ في تكذيب القرآن، وشبَّه القرآن بأساطير الأولين، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "ويلك إنه كلام الله"، قال ابنُ عباسٍ: "لمَّا قصَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شأن القرون الماضية قال النَّضْرُ: لو شئت لقلتُ مثل هذا، إن هذا إلا ما سطر الأوَّلُونَ في كتبهم"، فقال له عثمانُ بن مظعون: "اتَّقِ الله فإن محمدًا يقول الحقَّ"، قال: "وأنا أقول الحق"، قال عثمان: "فإنَّ محمدًا يقول: لا إله إلَّا الله"، قال: "وأنا أقول: لا إله إلا الله؛ ولكن هذه بنات الله"، يعني: الأصنام، ثم قال: "اللهم إِن كَانَ هذا الذي يقوله محمد هُو الحقَّ من عندكَ..." [6].

إن القراءة المشهورة في هذه الآية بالفتح في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الْحَقَّ ﴾ وظرف الزمان:"إذ" في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالُوا ﴾ بمعنى: حين، مبني على السكون في محل نصب؛ أي: "واذكر يا محمد حين قالوا.."، وجملة "قالوا": فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بالإضافة، و"اللهم": منادى حذف منه حرف النداء "يا" وعوِّض بالميم بمعنى "يا الله"، و"إن": حرف شرط جازم، و"كان" الناقصة: فعل الشرط مبني على الفتح في محل جزم، و"هذا": اسم كان، و"هو": ضمير فَصْل، و"الحقَّ": بالنصب خبر كان منصوب بالفتحة الظاهرة، وجملة ﴿ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا.. ﴾ في محل جزم جواب الشرط، أما الأعمش وزيد بن علي فقراءتهما "الحقُّ" مرفوعًا على أن "هو" مبتدأ، و"الحق" خبر.

ثم تطييبًا لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم وتذكيرًا بفضل الله عليه وكرامته عنده خاطبه تعالى بقوله: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ [الأنفال: 33] واللام في ﴿ لِيُعذِّبَهُمْ، لام الجحود أجمع الجمهور على كسره، وينصب الفعل بعده بأن المضمرة، وجملة ﴿ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ مبتدأ وخبر، حال، وحرف الجر ومجروره "فيهم" بمعنى "مع" [7]، أي: إنه تعالى لا يستعجل بعذابهم في مكة لوجود الرسول صلى الله عليه وسلم معهم، مثلما كان الشأن في الأنبياء قبله؛ إذ لم تعذب أقوامهم حتى خرجوا من بين أظهرهم، وقد قال تعالى في قوم هود: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [هود: 58]، وقال في قوم صالح: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [هود: 66، 67]، وأمر لوطًا عليه السلام بالخروج من قومه قبل تدميرهم بقوله: ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ﴾ [هود: 81] وذكر ذلك له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين قرآنًا يُتْلى؛ إكرامًا له وإشادة بفضله، وبيانًا لدرجته من بين سائر الأنبياء، لا سيَّما وهو الرحمة المهداة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال سبحانه: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وقال له عز وجل: ﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 3، 4]، وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه وهو أعرف الناس بمنزلته عند ربِّه: (أنا سيِّدُ ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذٍ آدم فمَنْ سواه إلَّا تحت لوائي، وأنا أول شافع وأول مُشفَّع ولا فخر)، قال ابن عباس: "كان فيهم أمانان: نبي الله، والاستغفار، أما النبي فقد مضى، وأمَّا الاستغفار فهو باقٍ إلى يوم القيامة.

ثم أكَّدَ الحقُّ تعالى إمهال تعذيبهم إلى وقت تَستخلِص فيه دعوة الإسلام بقايا الخير فيهم رجالًا ونساءً وذراري؛ فقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33]، وحرف الواو في أول الآية للاستيئناف، بعده "ما" النافية، ومنفيها كان واسمها وخبرها، وقوله تعالى: ﴿ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33]، حال؛ أي: لا يُعذِّبهم الله بما عذَّبَ به القرون الأولى، ولا بما دعا به رؤوس قريش على أنفسهم، ما دامت فيهم أقلية مؤمنة تستغفر الله سِرًّا،أو فيهم من يستغفر الله ولو على شرك في التصوُّر كما روي عن ابن عباس في قوله: "كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ"، فَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَدْ، قَدْ)؛ أي: قد أشركتم على رغم قولكم هذا، وَيَقُولُونَ: "لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ"، ويقولون: "غُفْرَانَكَ، غُفْرَانَكَ"، أو فيهم غيرهم من الكُفَّار الذين لا يعرفون الله ولا يستغفرونه، وأمْرُ جميعهم بيد الله إن شاء هدى وإن شاء أضَلَّ، ودعوة الإسلام سارية فيهم والاستجابة لها متواصلة ومستمرة بالتدريج، والرسول بين أظهرهم يرعاها ويرعاهم، ويصبر على لأْوائها وتعنُّتِهم.


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.78 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.77%)]