عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 22-03-2023, 07:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت}

{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت}
د. خالد النجار

﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 127 - 129].

﴿ وَإِذْ ﴾ اذكر وقت ﴿ يَرْفَعُ ﴾ أتى بالمضارع؛ لاستحضار الحال، حكايتها كأنها مشاهدة؛ لأن المضارع دالٌّ على زمن الحال، فاستعماله هنا استعارة تبعية، شبه الماضي بالحال؛ لشهرته، ولتكرر الحديث عنه بينهم، فإنهم لحبهم إبراهيم وإجلالهم إياه لا يزالون يذكرون مناقبه وأعظمها بناء الكعبة، فشبه الماضي لذلك بالحال.

﴿ إِبْرَاهِيمُ ﴾ منقبة أخرى لإبراهيم عليه السلام، وتذكير بشرف الكعبة، ووسيلة ثالثة إلى التعريض بالمشركين، بعد قوله: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً ﴾ [البقرة: 128]... إلخ، وتمهيد للرد على اليهود إنكارهم استقبال الكعبة الذي يجيء عند قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ ﴾ [البقرة: 142].

﴿ الْقَوَاعِدَ ﴾ وهل هي الأساس أو الجُدُر؟ فإن كانت الأساس، فرفعها بأن يبني عليها، فتنتقل من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، وتتطاول بعد التقاصُر.

قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المراد بها ساقات البناء، ويجوز أن يكون المعنى ما قعد من البيت- أي استوطئ- يعني: جعل هيئة القاعدة المستوطأة مرتفعة عالية بالبناء.

وقال ابن عاشور: ورفع القواعد: إبرازها من الأرض والاعتلاء بها لتصير جدارًا؛ لأن البناء يتصل بعضه ببعض، ويصير كالشيء الواحد، فالجدار إذا اتصل بالأساس صار الأساس مرتفعًا، ويجوز جعل القواعد بمعنى جدران البيت كما سمَّوها بالأركان، ورفعها: إطالتها، وقد جعل ارتفاع جدران البيت تسعة أذرع.

﴿ مِنَ الْبَيْتِ ﴾ ولم تضف القواعد إلى البيت، فيكون الكلام «قواعد البيت»؛ لما في عدم الإضافة من الإيضاح بعد الإبهام، وتفخيم شأن المبين.

﴿ وَإِسْمَاعِيلُ ﴾ كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهو الابن البكر لإبراهيم عليه السلام، وهو ولده من جاريته هاجر القبطية، ولد في أرض الكنعانيين، وكان إسماعيل مقيمًا بمكة حول الكعبة، وتُوفِّي بها.

﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ﴾ «رب»: منادى حُذِفَت منه «يا» النداء؛ وأصله: يا ربنا؛ حذفت «يا» النداء للبداءة بالمدعو المنادى ــــ وهو الله ــــ ودعَوَا الله سبحانه وتعالى باسم «الرب»؛ لأن إجابة الدعاء من شأن الربوبية؛ لأنها خلق وإيجاد.

قالوا: ولم يكن المقصود إعطاء الثواب؛ لأن كون الفعل واقعًا موقع القبول من المخدوم، ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه، وسؤالهما التقبُّل بذلك.

﴿ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ تعليل لطلب التقبُّل منهما، ووسيلة توسَّل بها إبراهيم وولده لقبول دعائهما، وهذه الجملة مؤكدة بمؤكدين؛ أحدهما: «إنَّ»؛ والثاني: ﴿ أَنْتَ ﴾.

وفيه أن المؤمن البصير في دينه يفعل الخير وهو خائف ألَّا يقبل منه فيسأل الله تعالى ويتوسَّل إليه بأسمائه وصفاته أن يتقبَّلَه منه.

وهاتان الصفتان مناسبتان هنا غاية التناسب؛ إذ صدر منهما عمل وتضرع سؤال، فهو السميع لضراعتهما وتسآلهما التقبُّل، وهو العليم بنياتهما في إخلاص عملهما.

وتقدَّمَت صفة السمع، وإن كان سؤال التقبُّل مُتأخِّرًا عن العمل للمجاورة نحو قوله: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾ [آل عمران: 106]، وتأخَّرت صفة العليم؛ لكونها فاصلة ولعمومها، إذ يشمل علم المسموعات وغير المسموعات.

وفي الآية إثبات السمع لله عزَّ وجلَّ؛ وينقسم السمع إلى قسمين: سمع بمعنى سماع الأصوات؛ وسمع بمعنى الإجابة؛ فمثال الأول قوله تبارك وتعالى: ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [الزخرف: 80]، وقوله تعالى: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]، ومثال الثاني قوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 39]؛ أي: مستجيب الدعاء؛ وكذلك قول المصلي: «سمع الله لمن حمده» ــــ يعني استجاب لمن حمده ــــ والسمع الذي هو بمعنى سماع الأصوات من صفاته الذاتية؛ والسمع بمعنى الاستجابة من صفاته الفعلية؛ لأن الاستجابة تتعلق بمشيئته: إن شاء استجاب لمن حمده؛ وإن شاء لم يستجب؛ وأما سماع الأصوات فإنه ملازم لذاته ــــ لم يزل، ولا يزال سميعًا ــــ إذ إن خلاف السمع الصمم، والصمم نقص، والله سبحانه وتعالى مُنزَّه عن كل نقص، وكلا المعنيين يناسب الدعاء: فهو سبحانه وتعالى يسمع صوت الداعي، ويستجيب دعاءه.

والسمع ــــ أعني سماع الأصوات ــــ تارة يفيد تهديدًا؛ وتارة يفيد إقرارًا وإحاطة؛ وتارة يفيد تأييدًا، يفيد تهديدًا كما في قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [آل عمران: 181]، وقوله تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى ﴾ [الزخرف: 80]، ويفيد إقرارًا وإحاطة، كما في قوله تعالى: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾ [المجادلة: 1]، ويفيد تأييدًا، كما في قوله تعالى لموسى وهارون: ﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 46].

﴿ رَبَّنَا ﴾ تكرير؛ إظهارًا للضراعة إلى الله تعالى ﴿ وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ﴾ منقادين؛ إذ الإسلام الانقياد، أو مخلصين أوجهنا لك، من قوله: ﴿ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ﴾ [البقرة: 112]؛ أي: أخلص عمله، والمعنى: أدم لنا ذلك وثبِّتْنا عليه؛ لأنهما كانا مسلمين من قبل كما دَلَّ عليه قوله: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ﴾ [البقرة: 131]، و«لك» تفيد جهة الإسلام؛ أي: لك لا لغيرك.

ألهم الله إبراهيم اسم الإسلام، ثم ادَّخَره بعده للدين المحمدي، فنُسي هذا الاسم بعد إبراهيم، ولم يُلقَّب به دين آخر؛ لأن الله أراد أن يكون الدين المحمدي إتمامًا للحنيفية دين إبراهيم.

﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا ﴾ دعاء ببقاء دينهما في ذريتهما، و«من» للتبعيض، وإنما سألا ذلك لبعض الذرية جمعًا بين الحرص على حصول الفضيلة للذرية وبين الأدب في الدعاء؛ لأن نبوءة إبراهيم تقتضي علمه بأنه ستكون ذريته أُمَمًا كثيرة، وأن حكمة الله في هذا العالم جرت على أنه لا يخلو من اشتماله على الأخيار والأشرار، فدعا الله بالممكن عادة، وهذا من أدب الدعاء.

وقيل: لما تقدَّم الجواب له بقوله: ﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124] علم أن من ذريتهما الظالم وغير الظالم، فدعا هنا بالتبعيض لا بالتعميم فقال: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا ﴾، وخصَّ ذريَّتَه بالدعاء للشفقة والحنوِّ عليهم، ولأن في صلاح نسل الصالحين نفعًا كثيرًا لمتبعهم؛ إذ يكونون سببًا لصلاح مَنْ ورائهم.

والذرية هنا، قيل: أُمَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بدليل قوله: ﴿ وَابْعَثْ فِيهِمْ ﴾، وقيل: هم العرب؛ لأنهم من ذريتهما.

قال القَفَّال: لم يزل في ذريتهما مَنْ يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا، ولم تزل الرسل عليهم الصلاة والسلام من ذريتهما.

﴿ أُمَّةً ﴾ الجماعة العظيمة التي يجمعها جامع له بال من نَسَبٍ أو دِيْنٍ أو زمان.

﴿ مُسْلِمَةً لَكَ ﴾ هذه الأمة هي أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه لا يصدق على أحد أنه من ذرية إبراهيم وإسماعيل إلا أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن اليهود والنصارى ليسوا من بني إسماعيل؛ بل من بني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

وقد استجيبت دعوة إبراهيم وإسماعيل في المسلمين من العرب الذين تلاحقوا بالإسلام قبل الهجرة وبعدها حتى أسلم كل العرب إلا قبائل قليلة لا تنخرم بهم جامعة الأمة.

﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ أعمال الحج والمواقف، وروي عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أن إبراهيم لما فرغ من بناء البيت، ودعا بهذه الدعوة، بعث الله إليه جبريل عليه السلام، فحج به.

﴿ وَتُبْ عَلَيْنَا ﴾؛ أي: وفِّقْنا للتوبة فنتوب؛ والتوبة من العبد: هي الرجوع من المعصية إلى الطاعة؛ ومن الله عزَّ وجلَّ: هي توفيق العبد للتوبة، ثم قبولها منه.

قال ابن عطية: "وأجمعت الأُمَّة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ، ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة، واختلف في غير ذلك من الصغائر" كما أن المرء لا يخلو من تقصير.

﴿ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ ﴾ صيغة مبالغة؛ لكثرة من يتوب الله عليهم، وكثرة توبته على العبد نفسه ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ وهاتان الصفتان مناسبتان؛ لأنهما دعوا بأن يجعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة، وبأن يريهما مناسكهما، وبأن يتوب عليهما.

وناسب تقديم ذكر التوبة على الرحمة، لمجاورة الدعاء الأخير في قوله: ﴿ وَتُبْ عَلَيْنَا ﴾.

وتأخَّرَت صفة الرحمة لعمومها؛ لأن من الرحمة التوبة، ولكنها فاصلة، والتواب لا يناسب أن تكون فاصلة هنا؛ لأن قبلها ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾، وبعدها: ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.

﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾ لما دعا ربَّه بالأمن لمكة، وبالرزق لأهلها، وبأن يجعل من ذريته أمَّة مسلمة، ختم الدعاء لهم بما فيه سعادتهم دنيا وآخرة، وهو بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم، فشمل دعاؤه لهم الأمن والخصب والهداية والتشريف.

ولم يقل «لهم» لتكون الدعوة بمجيء رسول برسالة عامة، فلا يكون ذلك الرسول رسولًا إليهم فقط، كما أن كون الرسول ﴿ مِنْهُمْ ﴾ أقرب إلى قبول دعوته؛ لأنهم يعرفونه، كما قال تعالى: ﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾ [النجم: 2]؛ حيث أضافه إليهم؛ يعني: صاحبكم ــــ الذي تعرفونه، وتعرفون رجاحة عقله، وتعرفون أمانته ــــ ما ضَلَّ، وما غوى.

ولا خلاف أنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصحَّ عنه أنه قال: ((أَنا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ))، ولم يبعث الله تعالى إلى مكة وما حولها إلا إياه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فمظهر هذه الدعوة هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه الرسول الذي هو من ذرية إبراهيم وإسماعيل كليهما، وأما غيره من رسل غير العرب، فليسوا من ذرية إسماعيل، وشعيب من ذرية إبراهيم وليس من ذرية إسماعيل، وهود وصالح هما من العرب العاربة فليسا من ذرية إبراهيم ولا من ذرية إسماعيل.

﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ﴾ وفي هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع، وجيء بالمضارع في قوله: ﴿ يَتْلُو ﴾ للإشارة إلى أن هذا الكتاب تتكرَّر تلاوته.

والمعنى: يفصح لهم عن ألفاظه ويوقفهم بقراءته على كيفية تلاوته، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُبي بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ((إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ))؛ [البخاري]، وذلك لأن يتعلَّم أُبي منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيفية أداء القرآن ومقاطعه ومواصلة.

﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ﴾ القرآن؛ أي: يبين لهم وجوه أحكامه: حلاله وحرامه، ومفروضه، ومسنونه، ومواعظه، وأمثاله، وترغيبه، وترهيبه، والحشر، والنشر، والعقاب، والثواب، والجنة والنار.

﴿ وَالْحِكْمَةَ ﴾ هي العلم بالله ودقائق شرائعه، وهي معاني الكتاب وتفصيل مقاصده، وعن مالك: الحكمة معرفة الفقه والدين والاتباع لذلك، وعن الشافعي: الحكمة سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فالسُّنَّة تُبيِّن ما في الكتاب من المجمل، وتُوضِّح ما أنبهم من المشكل، وتفصح عن مقادير وعن إعداد مما لم يتعرض الكتاب إليه، ويثبت أحكامًا لم يتضمنها الكتاب.

جاء ذكر الحكمة في القرآن الكريم في عدة مواضع، ولكل موضع تفسير، فمن معاني الحكمة في القرآن:
1. الحكمة بمعنى السُّنَّة: فقد فسَّرَ كثيرٌ من المفسِّرين الحكمة الواردة في قوله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾، بالسُّنَّة النبوية، ذكر ذلك ابن جرير وابن كثير والبيضاوي والشوكاني والبغوي وغيرهم، ومما يؤيد هذا التفسير ذكر الكتاب مقرونًا بها في الآية، والمراد به القرآن، وهناك أقوال أخرى في الحكمة ذكرها ابن جرير بعد تصديره بتفسير الحكمة بالسُّنَّة، فقال: وقال بعضهم: الحكمة، هي المعرفة بالدين والفقه فيه، وقيل: الحكمة شيء يجعله الله في القلب ينوِّر له به.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في الحكمة أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعرفة بها، وما دل عليه ذلك من نظائره، وهو عندي مأخوذ من الحكم الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل، بمنزلة الجلسة والقعدة من الجلوس والقعود، يقال منه: إن فلانًا لحكيم بيِّن الحكمة، يعني به: إنه لبين الإصابة في القول والفعل.

2. الحكمة بمعنى إصابة الحق بالعلم والعقل، أو هي وضع الشيء في موضعه، فهي في الرأي سداد، وفي القول صواب، وفي الفعل استقامة، والشخص الذي عنده هذه المعاني يكون موفقًا وسعيدًا في دنياه وأُخْراه، كما قال تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [البقرة: 269]، ومنهم الأنبياء ومن على شاكلتهم؛ كقوله سبحانه في لقمان:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾ [لقمان: 12]، وهي المطلوبة في قوله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].

﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ يُطهِّر أرواحهم، ويكمل عقولهم، ويُهذِّب أخلاقَهم بما يعلمهم من الكِتاب والحكمة، وما بيَّنَه لهم من ضروب الطاعات.

باطنًا من أرجاس الشرك وأنجاس الشك، وظاهرًا بالتكاليف التي تمحص الآثام وتُوصِّل الأنعام.

وقد جاء ترتيب هذه الجمل في الذكر على حسب ترتيب وجودها لأن أول تبليغ الرسالة تلاوة القرآن، ثم يكون تعليم معانيه، قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 18، 19]، ثم العلم تحصل به التزكية وهي في العمل بإرشاد القرآن.

﴿ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ ﴾ القاهر الغالب، فالله تعالى الغالب الذي لا يغلب، أو المنيع الذي لا يرام، أو الذي لا يعجزه شيء، أو الذي لا مثل له، أو المنتقم، أو القوي، ومنه ﴿ فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾ [يس: 14]، أو المعز ومنه: ﴿ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 26].

﴿ الحَكِيمُ ﴾ في صنعه وتدبيره بوضع كل شيء في موضعه.. تذييل لتقريب الإجابة؛ أي: لأنك لا يغلبك أمر عظيم، ولا يعزب عن علمك وحكمتك شيء.

وهاتان الصفتان متناسبتان لما قبلهما؛ لأن إرسال رسول متصف بالأوصاف التي سألها إبراهيم لا تصدر إلا عمَّن اتَّصَف بالعزة، وهي الغلبة أو القوَّة، أو عدم النظير، وبالحكمة التي هي إصابة مواقع الفعل، فيضع الرسالة في أشرف خلقه وأكرمهم عليه، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.

وتقدَّمت صفة العزيز على الحكيم؛ لأنها من صفات الذات، والحكيم من صفات الأفعال، ولكون الحكيم فاصلة كالفواصل قبلها.

وفي هذه الآيات الثلاث توسَّل إبراهيم وإسماعيل بالجمل التالية: ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾، ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾، ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.44 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.82 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.04%)]