عرض مشاركة واحدة
  #154  
قديم 07-09-2022, 12:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (3)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 211الى صــ 218
الحلقة (154)






قوله تعالى : وهم ألوف قال الجمهور : هي جمع ألف . قال بعضهم : كانوا ستمائة ألف . وقيل : كانوا ثمانين ألفا . ابن عباس : أربعين ألفا . أبو مالك : ثلاثين ألفا . السدي : سبعة وثلاثين ألفا . وقيل : سبعين ألفا ، قاله عطاء بن أبي رباح . وعن ابن عباس أيضا أربعين ألفا ، وثمانية آلاف ، رواه عنه ابن جريج . وعنه أيضا ثمانية آلاف ، وعنه أيضا أربعة آلاف ، وقيل : ثلاثة آلاف . والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى : ( وهم ألوف ) وهو جمع الكثرة ، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف . وقال ابن زيد في لفظة ألوف : إنما معناها وهم مؤتلفون ، أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم إنما كانوا مؤتلفين ، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة بزعمهم ، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم . فألوف [ ص: 211 ] على هذا جمع آلف ، مثل جالس وجلوس . قال ابن العربي : أماتهم الله تعالى مدة عقوبة لهم ثم أحياهم ، وميتة العقوبة بعدها حياة ، وميتة الأجل لا حياة بعدها . قال مجاهد : إنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون أنهم كانوا موتى ولكن سحنة الموت على وجوههم ، ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم . ابن جريج عن ابن عباس : وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم . وروي أنهم كانوا بواسط العراق . ويقال : إنهم أحيوا بعد أن أنتنوا ، فتلك الرائحة موجودة في نسلهم إلى اليوم .

الثانية : حذر الموت أي لحذر الموت ، فهو نصب لأنه مفعول له . و ( موتوا ) أمر تكوين ، ولا يبعد أن يقال : نودوا وقيل لهم : موتوا . وقد حكي أن ملكين صاحا بهم : موتوا فماتوا ، فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين " موتوا " ، والله أعلم .

الثالثة : أصح هذه الأقوال وأبينها وأشهرها أنهم خرجوا فرارا من الوباء ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا ، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله . وقال عمرو بن دينار في هذه الآية : وقع الطاعون في قريتهم فخرج أناس وبقي أناس ، ومن خرج أكثر ممن بقي ، قال : فنجا الذين خرجوا ومات الذين أقاموا ، فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم ، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم . وقال الحسن : خرجوا حذارا من الطاعون فأماتهم الله ودوابهم في ساعة واحدة ، وهم أربعون ألفا .

قلت : وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية . فروى الأئمة واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال رجز أو عذاب عذب به بعض الأمم ثم بقي منه بقية فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارا منه وأخرجه أبو عيسى الترمذي فقال : حدثنا قتيبة أنبأنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عامر بن سعد عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون فقال : بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا [ ص: 212 ] عليها قال : حديث حسن صحيح . وبمقتضى هذه الأحاديث عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم لما رجعوا من سرغ حين أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بالحديث ، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره . وقد كره قوم الفرار من الوباء والأرض السقيمة ، روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : الفرار من الوباء كالفرار من الزحف . وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة ، وفيها : أنه رجع . وقال الطبري : في حديث سعد دلالة على أن على المرء توقي المكاره قبل نزولها ، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها ، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها ، وذلك أنه عليه السلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها ، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارا منه ، فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها ، سبيله في ذلك سبيل الطاعون . وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام : لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا .

قلت : وهذا هو الصحيح في الباب ، وهو مقتضى قول الرسول عليه السلام ، وعليه عمل أصحابه البررة الكرام رضي الله عنهم ، وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجا عليه لما قال له : أفرارا من قدر الله! فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ! نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله . المعنى : أي لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه ، ولكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهلكات ، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات . ثم قال له : أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله عز وجل . فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة . قال الكيا الطبري : ولا نعلم خلافا أن الكفار أو قطاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين فلهم أن يتنحوا من بين أيديهم ، وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص . وقد قيل : إنما نهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ [ ص: 213 ] بحظ منه ، لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام ، فلا فائدة لفراره ، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادئ الوباء مشقات السفر ، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق ، ولذلك يقال : ما فر أحد من الوباء فسلم ، حكاه ابن المدائني . ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى : ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ولعله إن فر ونجا يقول : إنما نجوت من أجل خروجي عنه فيسوء اعتقاده . وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه ، ولما فيه من تخلية البلاد : ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج منها ، ولا يتأتى لهم ذلك ، ويتأذون بخلو البلاد من المياسير الذين كانوا أركانا للبلاد ومعونة للمستضعفين . وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدم عليه أحد أخذا بالحزم والحذر والتحرز من مواضع الضرر ، ودفعا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان ، وفي الدخول عليه الهلاك ، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى ، فإن صيانة النفس عن المكروه واجبة ، وقد يخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول : لولا دخولي في هذا المكان لما نزل بي مكروه . فهذه فائدة النهي عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها ، والله أعلم . وقد قال ابن مسعود : الطاعون فتنة على المقيم والفار ، فأما الفار فيقول : فبفراري نجوت ، وأما المقيم فيقول : أقمت فمت ، وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهة النظر إلى المجذوم فقال : ما سمعت فيه بكراهة ، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه أو يخيفه شيء يقع في نفسه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الوباء : إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه . وسئل أيضا عن البلدة يقع فيها الموت وأمراض ، فهل يكره الخروج منها ؟ فقال : ما أرى بأسا خرج أو أقام .

الرابعة : في قوله عليه السلام : إذا وقع الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه . دليل على أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه ، إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وكذلك حكم الداخل إذا أيقن أن دخولها لا يجلب إليه قدرا لم يكن الله قدره له ، فباح له الدخول إليه والخروج منه على هذا الحد الذي ذكرناه ، والله أعلم .

الخامسة : في فضل الصبر على الطاعون وبيانه . الطاعون وزنه فاعول من الطعن ، غير أنه لما عدل به عن أصله وضع دالا على الموت العام بالوباء ، قاله الجوهري . ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فناء أمتي بالطعن والطاعون - قالت : [ ص: 214 ] الطعن قد عرفناه فما الطاعون ؟ قال : غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط . قال العلماء : وهذا الوباء قد يرسله الله نقمة وعقوبة على من يشاء من العصاة من عبيده وكفرتهم ، وقد يرسله شهادة ورحمة للصالحين ، كما قال معاذ في طاعون عمواس : إنه شهادة ورحمة لكم ودعوة نبيكم ، اللهم أعط معاذا وأهله نصيبهم من رحمتك . فطعن في كفه رضي الله عنه . قال أبو قلابة : قد عرفت الشهادة والرحمة ولم أعرف ما دعوة نبيكم ؟ فسألت عنها فقيل : دعا عليه السلام أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها فدعا بهذا . ويروى من حديث جابر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف . وفي البخاري عن يحيى بن يعمر عن عائشة أنها أخبرته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد . وهذا تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام : ( الطاعون شهادة والمطعون شهيد ) . أي الصابر عليه المحتسب أجره على الله العالم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه ، ولذلك تمنى معاذ أن يموت فيه لعلمه أن من مات فهو شهيد . وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل في معنى الحديث ، والله أعلم .

السادسة : قال أبو عمر : لم يبلغني أن أحدا من حملة العلم فر من الطاعون إلا ما ذكره ابن المدائني أن علي بن زيد بن جدعان هرب من الطاعون إلى السيالة فكان يجمع كل [ ص: 215 ] جمعة ويرجع ، فكان إذا جمع صاحوا به : فر من الطاعون! فمات بالسيالة . قال : وهرب عمرو بن عبيد ورباط بن محمد إلى الرباطية فقال إبراهيم بن علي الفقيمي في ذلك :


ولما استفز الموت كل مكذب صبرت ولم يصبر رباط ولا عمرو
وذكر أبو حاتم عن الأصمعي قال : هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حمارا له ومضى بأهله نحو سفوان ، فسمع حاديا يحدو خلفه :


لن يسبق الله على حمار ولا على ذي منعة طيار
أو يأتي الحتف على مقدار قد يصبح الله أمام الساري
وذكر المدائني قال : وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان فخرج هاربا منه فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها ( سكر ) . فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك بن مروان . فقال له عبد العزيز : ما اسمك ؟ فقال له : طالب بن مدرك . فقال : أوه ما أراني راجعا إلى الفسطاط ! فمات في تلك القرية .
قوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم

هذا خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله في قول الجمهور . وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا . وسبل الله كثيرة فهي عامة في كل سبيل ، قال الله تعالى : قل هذه سبيلي . قال مالك : سبل الله كثيرة ، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أو لها ، وأعظمها دين الإسلام ، لا خلاف في هذا . وقيل : الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل ، وروي عن ابن عباس والضحاك . والواو على هذا في قوله " وقاتلوا " عاطفة على الأمر المتقدم ، وفي الكلام متروك تقديره : وقال لهم قاتلوا . وعلى القول الأول عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم ، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام . قال النحاس : ( وقاتلوا ) أمر من الله [ ص: 216 ] تعالى للمؤمنين ألا تهربوا كما هرب هؤلاء . واعلموا أن الله سميع عليم أي يسمع قولكم إن قلتم مثل ما قال هؤلاء ويعلم مرادكم به ، وقال الطبري : لا وجه لقول من قال إن الأمر بالقتال للذين أحيوا . والله أعلم .
قوله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون

فيه إحدى عشرة مسألة : الأولى : قوله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق - إذ ليس شيء من الشريعة إلا ويجوز القتال عليه وعنه ، وأعظمها دين الإسلام كما قال مالك - حرض على الإنفاق في ذلك . فدخل في هذا الخبر المقاتل في سبيل الله ، فإنه يقرض به رجاء الثواب كما فعل عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة . و " من " رفع بالابتداء ، و " ذا " خبره ، و " الذي " نعت لذا ، وإن شئت بدل . ولما نزلت هذه الآية بادر أبو الدحداح إلى التصدق بماله ابتغاء ثواب ربه . أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث القاضي أبو عامر يحيى بن عامر بن أحمد بن منيع الأشعري نسبا ومذهبا بقرطبة - أعادها الله - في ربيع الآخر عام ثمانية وعشرين وستمائة قراءة مني عليه قال : أخبرنا أبي إجازة قال : قرأت على أبي بكر عبد العزيز بن خلف بن مدين الأزدي عن أبي عبد الله بن سعدون سماعا عليه ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن مهران قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن زكريا بن حيوة النيسابوري سنة ست وستين وثلاثمائة ، قال : أنبأنا عمي أبو زكريا يحيى بن زكريا قال : حدثنا محمد بن معاوية بن صالح قال : حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا قال أبو الدحداح : يا رسول الله أوإن الله تعالى يريد منا القرض ؟ قال : نعم يا أبا الدحداح قال : [ ص: 217 ] أرني يدك ، قال فناوله ، قال : فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة . ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله ، فناداها : يا أم الدحداح ، قالت : لبيك ، قال : اخرجي ، قد أقرضت ربي عز وجل حائطا فيه ستمائة نخلة . وقال زيد بن أسلم : لما نزل : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا قال أبو الدحداح : فداك أبي وأمي يا رسول الله إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض ؟ قال : ( نعم يريد أن يدخلكم الجنة به ) . قال : فإني إن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة ؟ قال : ( نعم ) قال : فناولني يدك ، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده : فقال : إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية ، والله لا أملك غيرهما ، قد جعلتهما قرضا لله تعالى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك ) قال : فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى ، وهو حائط فيه ستمائة نخلة . قال : ( إذا يجزيك الله به الجنة ) . فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول :


هداك ربي سبل الرشاد إلى سبيل الخير والسداد بيني من الحائط بالوداد
فقد مضى قرضا إلى التناد أقرضته الله على اعتمادي
بالطوع لا من ولا ارتداد إلا رجاء الضعف في المعاد
فارتحلي بالنفس والأولاد والبر لا شك فخير زاد
قدمه المرء إلى المعاد
قالت أم الدحداح : ربح بيعك بارك الله لك فيما اشتريت ، ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول :


بشرك الله بخير وفرح مثلك أدى ما لديه ونصح
قد متع الله عيالي ومنح بالعجوة السوداء والزهو البلح
والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح
ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح .

[ ص: 218 ] الثانية : قال ابن العربي : انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وقدرته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساما ، فتفرقوا فرقا ثلاثة : ( الفرقة الأولى ) الرذلى قالوا : إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء ، فهذه جهالة لا تخفى على ذي لب ، فرد الله عليهم بقوله : لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء . ( الفرقة الثانية ) لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيرا ولا أعانت أحدا تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار . ( الفرقة الثالثة ) لما سمعت بادرت إلى امتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله كأبي الدحداح رضي الله عنه وغيره . والله أعلم .

الثالثة : ( قرضا ) حسنا القرض : اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء وأقرض فلان فلانا أي أعطاه ما يتجازاه قال الشاعر وهو لبيد :


وإذا جوزيت قرضا فاجزه إنما يجزي الفتى ليس الجمل
والقرض بالكسر لغة فيه حكاها الكسائي . واستقرضت من فلان أي طلبت منه القرض فأقرضني . واقترضت منه أي أخذت القرض . وقال الزجاج : القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيئ ، قال أمية :


كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا أو سيئا ومدينا مثل ما دانا
وقال آخر :


تجازى القروض بأمثالها فبالخير خيرا وبالشر شرا
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.47 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.84 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.41%)]