عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 01-01-2023, 08:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي الطبيب ومهنته الإنسانية

الطبيب ومهنته الإنسانية
أ. د. علي بن إبراهيم النملة

لعلَّ من أنبَل المهن التي يتصدَّى لها الإنسان هي تلك التي تتعلَّق بصحَّة الإنسان من طبٍّ وتمريض، والطبُّ - منذ عرفه التاريخ - يَحظى بالاحترام والتقدير من قِبل العامَّة، والطَّبيب شخص يَنظر له الآخرون على أنَّه يملك فكرًا وذهنًا ويدًا فوق العادة؛ لما امتهن من طريقة مثاليَّة في خدمة المجتمع، ونحن نعلم أنَّ هذا الفكر والذِّهن وهذه اليد إنَّما هي أسباب لجلب الشِّفاء للمريض أو المتوعِّك.

كان الأطبَّاء - ولا يزالون - يشعرون بسعادة تصِل بهم إلى تحقيق الذات، وهم ينظرن إلى مرضاهم يتماثلون للشِّفاء، فينظر إليهم مرضاهم نظرات تُغني عن التعبير بالكلمات، تلك النظرات التي تحجب الرؤية عنها غزارةُ دموع الشكر والعرفان بالجميل؛ وهذه من أنبل الإنجازات التي يمكن أنْ يرصدها الطبيب في حسابه الخاص، لا سيَّما إذا صاحبَتها دعوات صادقة بمزيد من التوفيق، فترى الطبيب يسير من حسَن إلى أحسن، لا لشيء أكثر من أنَّه خدم مهنته، وخدم من خلالها الناس.

النظرة المثاليَّة للطبيب - أيِّ طبيب - تعكِّرها أحيانًا بعضُ التصرُّفات الفردية التي لا تكوِّن ظاهرة، ولا تشكِّل خطرًا، خلاصة هذه التصرُّفات أنْ يعمد الطبيب إلى استخدام فكرِه وذهنه ويده على وجهٍ يخالف ويناقض ما أريد لها أنْ تصرف فيه، ولأنَّ التوقُّعات من الطبيب هي في درجة المثالية الواقعية، تجد أنَّ التصرُّفات المضادَّة تَلقى شيئًا من الاستهجان والاستغراب والازدراء لشخص الطبيب، لا للمهنة ذاتها، والمتابع للصحافة السيارة يطَّلع على نماذج من ذلك.

علينا أن ندرك - هنا - مجموعة من المسلَّمات التي لا بُدَّ من أن يعيها الناس جميعًا، ومنها:
1- أنَّ الطبيب بشَر قبل كلِّ شيء.

2- أنَّ البشر محدودو المعرفة، ولا يؤتون من العلم إلا قليلًا؛ ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].

3- أنَّ الأطبَّاء بعامَّة مخلصون لمهنتهم، ومخلصون للمجتمع الذي يعملون فيه.

4- أنَّ الطبيب - لكونه بشرًا - يعتريه ما يعتري البشر من أمور جسمية ونفسية واجتماعية، قد لا يدرِكها البعض، فلا يسلِّمون بها في الطبيب، وإنْ سلَّموا بها في غيره من الناس، على اعتبار أنَّ هذا الطَّبيب قد وصَل بعلمه إلى درجة المثاليَّة الإنسانية، التي تحميه من نوائب الدهر.

5- أنَّ الطبيب يواجه تحدِّيات إجرائية وإدارية في كل مجتمع، فقد لا يستطيع تهيئة الجوِّ المناسب جدًّا لأداء عمله في بعض المجتمعات، وربَّما كان هناك النَّقص في الأجهزة، والنَّقص في العاملين المساعدين، والنقص في الدواء، والنقص في المعلومات الطبية المطلوبة، وهو لا يملِك قوَّةً خارقة تعينه على التغلُّب على هذه التحدِّيات أو العقبات.

6- أنَّ ما اكتُشف، علاجًا للأمراض - تشخيصًا ودواء - لا يصِل إلى واحد من الألف ممَّا هو مطلوب، وما العالم الحديث بحاجة إليه.

7- أنَّ مهنة الطبِّ تعتمد - فيما تعتمد عليه - على التشخيص، والتشخيص لا يقتصر على الكشف، بعيدًا عن الحوار التشخيصي مع المريض؛ ولذا يصعب الوصول إلى نتيجةٍ قريبة من الحتمية، إذا لم يتعاون المريض مع طبيبه في مسألة التشخيص، وقد يضلِّل المريضُ طبيبَه، عندما يعمد إلى تعمية الحقائق؛ جهلًا بتأثيرها على التشخيص.

8- أنَّ الطبيب بحاجة إلى ثِقة المريض به، وهذا له دخل لا بأس به في عملية العلاج والشفاء، وكم من حالة عرضَت على طبيب لم يقتنِع به المريض، فوصف الطبيب العلاجَ المناسب، فأهمله المريض، أو وضع في ذهنه أنَّ هذا الطبيب لم ينفع، فلم ينفع.

9- أنَّ كثيرًا من الناس يريدون أنْ يدخلوا على الطبيب مَرضى فيخرجون منه معافين، دون اللجوء إلى برنامج علاجي قد يَطول؛ وتلك مصيبة المريض، لا يتحمَّل منها الطبيب شيئًا البتة، إلا إذا قصَّر في محاولة إفهام المريض المطلوب.

10- أنَّ الطبيب لا يقِف وحده هنا، ولكنَّ هناك مجموعةً من المساعدين، الذين يقفون إلى جانبه، ومن هؤلاء الصيادلة؛ وهم على درجات من حيث العلم، فيحدث أنْ يُخطئ الصيدلي في صرف الدواء وقوَّته، فيُتَّهم في هذا الطبيب، والطبيب منه براء؛ ولذا يعمد كثيرٌ من الأطبَّاء إلى النَّظر إلى الدواء المصروف بعد صرفه للتأكُّد من دقَّته.

11- أنَّ تناول الدواء يخضع لنظام يحتاج فيه المريض إلى القراءة - أوَّلًا - ثم اتِّباع الإرشادات، من حيث الجرعاتُ والمدَّة والأعراض الجانبية؛ ومثل ذلك، وقليلٌ من الناس مَن يقرأ النشرة المرفقة بالدواء، ويكتفي بما يَكتبه الصيدلي على الدواء مثل (1×3)، وهي سلبيَّة غير مرغوب فيها من الصيدلي، كما هي من المريض.

هكذا نجد أنَّ هناك مجموعةً من العوامل التي تؤثِّر في أداء الطبيب لمهنته الإنسانية، ومن ثمَّ تؤثِّر في تأخير الشِّفاء، أو انتفائه، إنْ لم تؤدِّ إلى مضاعفات أخرى، يكون للطَّبيب فيها إسهامٌ محدودٌ جدًّا، ولكنَّ الناسَ يلقون باللائمة عليه - مباشرة - قبل أنْ يتحرَّوا الدقَّةَ في مثل هذا الاتِّهام.

إذا روعيَت هذه المجموعة من العوامل ووعاها الناس - المتعالـِجون منهم - وجدنا أن الأصل في الطبيب أنْ يوفَّق - بتوفيق الله تعالى - في التَّشخيص، وفي صرف الدواء، وتكون النتيجة الشِّفاءَ، ما أرد الله سبحانه وتعالى ذلك.

خلاف الأصل أنْ يعمد الطبيب إلى المغالطة في كل ما مرَّ؛ فيتعمَّد الضرر بالمريض، لأغراض غير إنسانيَّة، نتيجة لمرض في الطبيب نفسه، وتلك حالات تمرُّ، فيُعلن عنها، ويُعاقب عليها فاعلوها ويُحاكمون، وقد يُمنعون من الاستمرار في مزاولة هذه المهنة؛ لأنَّهم أثبتوا أنَّهم دون مستواها؛ مثلهم في هذا مثل كل من يُسيء إلى مهنته، من هنا تأتي الفحوص والاختبارات الدولية للأطباء، وذوي المهن الحسَّاسة، ذات العلاقة المباشرة بحياة البشر؛ كالممرِّضين والطيَّارين، ورجال الأمن والدِّفاع المدني، ونحوهم، يُفحصون جسميًّا ونفسيًّا؛ خوفًا من الانزلاق في تصرُّفات تكون لها جملة من المضاعفات.

إنَّه لَمن المحزِن أنْ يقرأ المرء - أحيانًا - وفي بلدان غربية وشرقية تدَّعي التقدُّم، عن مؤامرة طبيب في القضاء على مريضه، أو ممرِّضة تعتني بالمواليد الصغار، فتقضي عليهم، أو ممرِّض يدخل على المرضى في أوقات يختارها، فيستعمل علمه فيما يضادُّ ما تعلَّمه من أجله؛ وتلك تصرُّفات تؤكِّد على أنَّ البشر، مهما وصلوا إلى العلم الدقيق، هم بحاجة إلى مقوِّمات أخرى أساسية في حياتهم تدفعهم إلى تسخير هذا العلم فيما ينفع.

هنالك مجموعة من المقوِّمات التي يستطيعها البشر مرسومة لهم، يأتي على رأسها مخافةُ الله تعالى، وجعله رقيبًا أوَّلَ وأقوى من رقابة البشر، لا سيَّما في المجتمع المؤمن الذي يدرك هذه المعاني ويعيشها؛ ولذا نجد مثل هذا الحوادث الشاذَّة عالميًّا شبه معدومة في المجتمعات المؤمنة، التي تؤكِّد على المعاني السامية لمهنة الإنسان في هذه الأرض، فيدرك الطبيب أثره على المجتمع، فلا يخذُلُ الأطباءُ مرضاهم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.55 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.92 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.21%)]