عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 17-12-2020, 07:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح اسم الله التواب

شرح اسم الله التواب
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي




التَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ:
لاَ يَصِحُّ أَنْ يَنْفَكَّ مِنْهَا فِي حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ، وَأَفْضَلُ النَّاسِ هُمْ أَحْسَنُهُم قِيَامًا بِهَا وَبِحَقِّهَا، فَإِذَا تَخَلَّى عَنْهَا العَبْدُ صَارَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ.

قَالَ ابْنُ القيَّمِ رحمه الله: وَمَنْزِلُ (التَّوْبَةِ) أَوَّلُ المَنَازِل، وَأَوْسَطُهَا، وَآخِرُهَا، فَلَا يُفَارِقُهُ العَبْدُ السَّالِكُ، وَلَا يَزَالُ فِيهِ إِلَى المَمَاتِ، وَإِنِ ارْتَحَلَ بِهِ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ وَنَزَلَ بِهِ، فَالتَّوْبَةُ هِي بِدَايَةُ العَبْدِ وَنِهَايَتُهُ، وَحَاجَتُهُ إِلَيْهَا فِي النَّهَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ، كَمَا أَنَّ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا فِي البِدَايَةِ كَذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وَهَذِهِ الآيَةُ فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ، خَاطَبَ الله بِهَا أَهْلَ الإِيمَانِ وَخِيَارَ خَلْقِهِ أَنْ يَتُوبُوا إِلَيْهِ، بَعْدَ إِيمَانِهم وَصَبْرِهِم، وَهِجْرَتِهِم وَجِهَادِهِم، ثُمَّ عَلَّقَ الفَلَاحَ بِالتَّوْبَةِ تَعْلِيقَ المُسَبِّبِ بِسَبَبِهِ، وَأَتَى بِأَدَاةِ "لَعَلَّ" المُشِعرةَ بِالتَّرَجِّي إِيذَانًا بِأَنَّكُم إِذَا تُبْتُمْ كُنْتُمْ عَلَى رَجَاءِ الفَلَاحِ، فَلاَ يَرْجُو الفَلَاحَ إِلَّا التَّائِبُونَ، جَعَلَنَا الله مِنْهُم.

قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]؛ قَسَّمَ العِبَادَ إِلَى تَائِبٍ وَظَالِمٍ وَمَا ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ أَلْبَتَّةَ، وَأَوْقَعَ اسْمَ "الظالِمِ" عَلَى مَنْ لَمْ يَتُبْ، وَلاَ أَظْلَمَ مِنْهُ، لِجَهْلِهِ بِرَبَّهِ وَبِحَقِّهِ، وَبِعَيْبِ نَفْسِهِ وَآفَاتِ أَعْمَالِهِ.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ،, تُوبُوا إِلَى الله، فَوَاللهِ إِنِّي لأَتُوبُ إلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً"، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَعُدُّونَ لَهُ فِي المَجْلِسِ الوَاحِدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: "رَبّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَليَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُورُ" مِائَةَ مَرَّةٍ، وَمَا صَلَّى صَلَاةً قَطُّ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ [النصر: 1] إِلَى آخِرِهَا، إِلَّا قَالَ فِيهَا: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُم اغْفِرْ لِي"، وَصَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُم عَمَلُهُ"، قَالَوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغمَّدَنِيَ الله بِرحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ".

فَصَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَى أَعْلَمِ الخَلْقِ بِاللهِ وَحُقُوقِهِ، وَعَظَمَتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ جَلاَلُهُ مِنَ العُبُودِيَّةِ، وَأَعْرَفُهُم بِالعُبُودِيَّةِ وَحُقُوقِهَا وَأَقْوَمُهُم بِهَا[36].

فَالتَّوْبَةُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا أَحَدٌ حَتَّى الأَنْبِيَاءُ (صَلَوَاتُ الله عَلَيْهم):
لأَنَّهَا لَيْسَتْ نَقْصًا، بَلْ هِي مِنَ الكَمَالِ الذِي يُحِبُّهُ الله وَيَرْضَاهُ وَيَأمُرُ بِهِ.
وَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمَيةَ رحمه الله عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 117]، وَالتَّوْبَةُ إِنَّمَا تَكُونُ عَنْ شَيءٍ يَصْدُرُ مِنَ العَبْدِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ مِنَ الكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ؟
فَأَجَابَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَةَ:
"الحَمْدُ لله، الأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِم مَعْصُومُونَ مِنَ الإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ، كِبَارِهَا وَصِغَارِهَا، وَهُمْ بِمَا أَخْبَرَ الله بِهِ عَنْهُم مِنَ التَّوْبَةِ يَرْفَعُ دَرَجَاتِهِم، وَيُعْظِم حَسَنَاتِهِم، فَإِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ نَقْصًا، بَلْ هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الكَمَالاتِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الخَلْقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [الأحزاب: 72، 73]، فَغَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ هِي التَّوْبَةُ، ثُمَّ التَّوْبَةُ تَتَنَوعُ كَمَا يُقَالُ: حَسَنَاتُ الأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ المُقَرَّبِينَ.

وَاللهُ تَعَالَى قَدْ أخَبَر عِنْ عَامَّةِ الأَنْبِياءِ بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ: عَنْ آدَمَ، وَنَوحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى وَغَيْرِهِم، فَقَالَ آدَمُ: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]، وَقَالَ نوحٌ: ﴿ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47]، وَقَالَ الخَلِيلُ: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41]، وَقَالَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 128] وَقَالَ مُوسَى: ﴿ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 155، 156]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143].

وَقَدْ ذَكَرَ الله سُبْحَانَهُ تَوْبَةَ داود وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَاللهُ تَعَالَى: ﴿ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]، وَفِي أَوَاخِرِ مَا أَنْزَلَ الله عَلَى نَبيِّهِ: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1 - 3].

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ: "اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِب، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالبَرَدِ وَالمَاءِ البَارِدِ".

وَفِي الصَّحِيحِ؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الاسْتِفْتَاحِ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ".

وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرِ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، عَلاَنِيَتَهُ وَسِرَّهُ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ".

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وجَهلِي وَإِسْرافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجَدِّي، وَخَطئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمَتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرَتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنّي أَنْتَ المُقَدّمُ، وَأَنْتَ المُؤخِّرُ، لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ"، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19]، فَتَوْبَةُ المُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُم هُوَ مِنْ أَعْظَمِ حَسَنَاتِهِم، وَأَكْبَرِ طَاعَتِهم، وَأَجَلِّ عِبَادَاتِهِم الَّتِي يَنَالُونَ بِهَا أَجَلَّ الثَّوَابِ، وَيَنْدَفِعُ بِهَا عَنْهُم مَا يَدْفَعُهُ مِنَ العِقَابِ.

فَإِذَا قَالَ القَائِلُ: أَيُّ حَاجَةٍ بِالأَنْبِيَاءِ إِلَى العِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ؟ كَانَ جَاهِلًا؛ لِأَنَّهُم إِنَّمَا نَالُوا مَا نَالُوهُ بِعِبَادَتِهم وَطَاعَتِهم، فَكَيْفَ يُقالُ: إِنَّهُم لَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا؟! فَهِيَ أَفْضَلُ عِبَادتِهِم وَطَاعَتِهم.

وَإِذَا قَالَ القَائِلُ: فَالتَّوْبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ ذَنْبٍ، وَالاسْتِغْفَارُ كَذَلِكَ؟
قِيلَ لَه: الذَّنْبُ الذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ هُوَ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَوْبَةٌ، فَأَمَّا مَا حَصَلَ مِنْهُ تَوْبَةٌ فَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَفْضَلَ مِنْهُ قَبْلَ الخَطِيئَةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ داود بَعْدَ التَّوْبَةِ أَحْسَنَ مِنْهُ حَالًا قَبْلَ الخَطِيئَةِ، وَلَوْ كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنَ الكُفْرِ وَالكَبَائِرِ: فَإِنَّ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ هُمْ خِيَارُ الخَلِيقَةِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا صَارُوا كَذَلِكَ بِتَوْبَتِهِم مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ وَالذُّنُوبِ، وَلَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ التَّوْبَةِ نَقْصًا وَلَا عَيْبًا، بَلْ لَمَّا تَابُوا مِنْ ذَلِكَ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانُوا أَعْظَمَ إِيمَانًا، وَأَقْوَى عِبَادَةً وَطَاعَةً مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُم فَلَمْ يَعْرِفِ الجَاهِليَةَ كَمَا عَرِفُوهَا.

وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَابِ: "إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الإِسْلاَمِ عُروةً عُروةً إِذَا نَشَأَ فِي الإِسْلاَمِ مِنْ لَمْ يَعْرِفِ الجَاهِلِيَّةَ".
وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 68 - 70].

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ اللهَ يُحَاسِبُ عَبْدَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيعْرِضُ عَلَيْهِ صِغَارَ الذُّنُوبِ وَيُخَبِّأُ عَنْهُ كِبَارَهَا فَيَقُولُ: فَعَلْتَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبَّ! وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِهَا أَنْ تَظْهَرَ، فَيَقُولُ: إِنّي قَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ، وَأَبْدَلْتُكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَهُنَالِكَ يَقُولُ: رَبِّ إِنَّ لِي سَيِّئَاتٍ مَا أَرَاهَا بَعْدُ".

فَالعَبْدُ المُؤْمِنُ إِذَا تَابَ وَبَدَّلَ اللهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ انقَلَبَ مَا كَانَ يَضُرُّهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ بِسَبَبِ تَوْبَتِهِ حَسَنَاتٍ يَنْفَعُهُ اللهُ بِهَا، فَلَمْ تَبْقَ الذُّنُوبُ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُضِرَّةٌ لهُ، بَلْ كَانَتْ توبَتُهُ مِنْهَا مِنْ أَنْفَعِ الأُمُورِ لَهُ، وَالاعْتِبَارُ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ لَا بِنَقْصِ البِدَايَةِ، فَمَنْ نَسِيَ القُرْآنَ ثُمَّ حَفِظَهُ خَيْرًا مِنْ حِفْظِهِ الأَوَّلِ لَمْ يَضُرُّهُ النِّسْيَانُ، وَمَنْ مَرِضَ ثُمَّ صَحَّ وَقَوِيَ لَمْ يَضُرُّهُ المَرَضُ العَارِضُ.

وَاللهُ تَعَالَى يَبْتَلِي عبدَهُ المُؤْمنَ بِمَا يَتُوبُ مِنْهُ، لِيحصُلَ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ تَكْمِيلِ العُبُودِيَّةِ والتَّضَرُعِ، والخُشُوعِ للهِ والإنَابَةِ إِلَيْهِ، وَكَمَالِ الحَذَرِ فِي المستقبَلِ والاجتهَادِ فِي العِبَادَةِ مَا لَمْ يَحْصُلْ بدُونِ التَّوْبَةِ، كَمَن ذَاقَ الجُوعَ والعَطَشَ، والمرضَ والفَقْرَ والخَوْفَ، ثُمَّ ذَاقَ الشِّبَعَ والرِّيَّ والعَافِيَةَ والغِنَى والأمنَ، فإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ المَحَبَّةِ لِذَلِكَ وَحَلاَوَتِهِ ولذتِهِ، والرغبَةِ فِيهِ وَشُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، والحَذَرِ أَنْ يَقَعَ فِيمَا حَصَلَ أَوَّلًا مَا لَمْ يَحْصُلِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَقَدْ بُسِطَ الكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ المَوْضِعِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ التَّوْبَةَ لاَ بُدَّ مِنْهَا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، وَلَا يَكْمُلُ أَحدٌ وَيحصُلُ لَهُ كَمَالُ القُرْبِ مِنَ اللهِ، وَيَزُولُ عَنْهُ كُلُّ مَا يَكْرَهُ إلَّا بِهَا.

التَّوْبَةُ الشَّرْعِيَّةُ[37]:
قَالَ تَعَالَى ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118]، وَلكِنْ فِي القرآنِ مُعَرَّفًا وَمُنَكَّرًا وَاسْمًا وفعلًا.

يُقَالُ: تَابَ يَتُوبُ تَوْبَةً فَهُوَ تَائِبٌ، وَالتَّوْبَةُ: الرجُوعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَفِي الحَدِيثِ: "النَّدْمَةُ تَوْبَةٌ"[38]، وكَذَلِكَ التَّوْبُ مثلُهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: ﴿ وَقَابِلِ التَّوْبِ ﴾ [غافر: 3].

وَقَالَ الأَخْفَشُ: "التَّوْبُ جَمْعُ تَوْبَةٍ مثلُ عَزْمَةٍ وعَزْمٍ، وَتَابَ إِلَى الله تَوْبَةً وَمَتَابًا، وَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ وَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ، وَفِي كِتَابِ سِيَبَوَيْه التَّتْوِبَةُ: التَّوْبَةُ، واسْتَتَابَهُ: سَأَلَهُ التَّوْبَةَ، فَمَعْنَي تَوْبَةِ العَبْدِ رُجُوعُهُ مِنَ المُخَالفَةِ إِلَى المُوَافَقَةِ، وَمِنَ المَعْصِيَةِ إِلَى الطَاعَةِ، تَقُولُ: آبَ وَتَابَ وَثَابَ وَنَابَ كُلُّ ذَلِكَ رَجَعَ"[39].

قَالَ الحليمِيُّ: "وَهُوَ المُعِيدُ إِلَى عَبْدِهِ فَضْلَ رَحْمَتِهِ إِذَا هُوَ رَجَعَ إِلَى طَاعَتِهِ وَنَدِمَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، فَلَا يُحْبِطُ مَا قَدَّمَ مِنْ خَيْرٍ وَلَا يَمْنَعُهُ مَا وَعَدَ المُطِيعِينَ مِنَ الإِحْسَانِ".

وَقَالَ أَبو سُلَيْمَانَ: "التَّوَّابُ: هُوَ الذِي يَتُوبُ عَلَى عِبَادِهِ فَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُم كُلَّمَا تَكَرَّرَتِ التَّوْبَةُ تَكَرَّرَ القَبُولُ، وهُوَ يَكُونُ لَازِمًا وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِحَرْفٍ، يُقَالُ: تَابَ اللهُ عَلَى العَبْدِ بِمَعْنَي وَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ، فَتَابَ العَبْدُ، كَقَوْلِهِ: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118]، وَمَعْنَي التَّوْبَةِ عَوْدَةُ العَبْدِ إِلَى الطَّاعَةِ بَعْدَ المَعْصِيَةِ"[40].

وَالتَّوْبَةُ الشَّرْعِيَّةُ: النَّدَمُ عَلَى مَا وَقَعَ التَّفْرِيطُ فِيهِ لِرِعَايَةِ حُقُوقِ اللهِ، وَيَظْهَرُ صِدقُ النَّدَمِ عَلَى الجَوَارِحِ بِالإِقْلاَعِ والانكِفَافِ فِي كُلِّ مَا يتمَكَّنُ بِهِ، فَيَصِلُ رَحِمَهُ الَّتِي كَانَ قَطَعَهَا، وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ الَّتِي كَانَ تَرَكَهَا، وَيَرُدُّ الأموَالَ الَّتِي كَانَ أَخَذَهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ اقْتَرَفَهُ وَخَالَفَ فِيهِ أَمْرَ رَبِّهِ واجتَرَحَهُ، فَهَذَا تَفْسِيرُ تَوْبَةِ العَبدِ مِنَ الذَنبِ، وَأَمَّا تَوْبَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَلَى العبدِ فَقَالَ ابنُ العَرَبِيِّ: ولِعُلمَائِنَا فِي وَصْفِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ تَوَّابٌ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَجُوزُ فِي حَقِّ الربِّ سُبْحَانَهُ فَيُدْعَى بِهِ كَمَا جَاءَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلاَ يُتَأَوَّلُ.

وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ وَصْفٌ حَقِيقِيٌ للهِ سُبْحَانَهُ - وَتَوْبَةُ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ رُجُوعُهُ بِهِ مِنْ حَالِ المَعْصِيَةِ إلَى حَالِ الطَاعَةِ.

وَقَالَ آخرُونَ: تَوبَةُ اللهِ عَلَى العَبْدِ قَبُولُهُ تَوْبَتِهِ، وَذَلِكَ يُحتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: قَبِلتُ تَوبَتَكَ، وَأَنْ يَرجِعَ إِلَى خَلْقِ الإنَابَةِ والرجُوعِ فِي قَلْبِ المُسِيءِ وإِجْرَاءِ الطَاعَاتِ عَلَى جَوَارحِهِ الظَّاهِرَةِ.

وَقَالَ الأَقْلِيشِيُّ: سَمَّي اللهُ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ تَوابًا؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ التَّوْبَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، ومُيَسِّرُ أَسبَابِهَا لَهُمْ، والرَّاجِعُ بِهم مِنَ الطريقِ الَّتِي يكره إلى الطريقِ الَّتِي يَرْضى، وسمَّى نفسَه أيضًا توَّابًا لقبوله توبةَ مَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ.
وَمِنَ القِسمِ الأَوْلِ قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118].

وَمِنَ القِسمِ الثَانِي قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 39]، فَبِهَذَيْنِ القِسْمَيْنِ سَمَّي نَفْسَهُ تَوَّابًا.

وَلَقَدْ جَهِلَ المُعتَزِلِيُّ الحَقِيقَةَ فَأَنكَرَ القِسمَ الأَولَ وهُوَ خَلْقُ التَّوْبَةِ فِي قَلبِ العَبْدِ، وَهَذَا مَطمُوسُ القَلبِ عَنْ طَريقِ القَصْدِ، وَلمَّا كَانَتِ المَعَاصِي مُتَكَرِرَةً مِنْ عِبَادِهِ جَاءَ بِصِيَغِ المُبَالغَةِ لِيقَابِلَ الخَطَايَا الكَثِيرَةَ بِالتَّوْبَةِ الوَاسِعَةِ.

وَقَالَ ابنُ الحصارِ: "قَالَ اللهُ العَظِيمُ: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ﴾ [التوبة: 117]، وَقَالَ: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ﴾ [التوبة: 118].

فَقَولُهُ: فِي تكمِلَةِ الآيَةِ الأُولَي: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ﴾ [التوبة: 117]، تَصْرِيحٌ بتوبَتِهِ عَلَى الإِطْلاَقِ عَلَى مَنْ وَاقَعَ الذَنْبَ وَكَانَتْ مِنْهُ مُخَالَفَةٌ وَعِصْيَانٌ، فتوبَةُ اللهِ عَلَى العَبدِ قَدْ يُرَادُ بِهَا تَجدِيدُ التَّوْبَةِ وتَوَالِيهَا عَلَيهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [النساء: 136]، مَعنَاهُ جَدِّدُوا الإيمَانَ، واستَدِيمُوهُ، وَاثْبُتوُا عَلَيهِ، يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، وَوَصْفُهُ نفسَهُ بِأَنَّهُ التَّوَّابُ مبَالَغَةٌ لكَثْرةِ مَنْ يَتُوبُ عَلَيهِ، ولتَكرِيرِهِ ذَلِكَ فِي الشَّخْصِ الوَاحِدِ حَتَّى يَقْضِيَ عُمْرَهُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ وَصْفَهُ سُبْحَانَهُ بِالتَّوَّابِ خَلقُهُ التَّوْبَةَ للعِبَادِ وقبولُهَا مِنْهُم كَمَا قَالَ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25]: أَيْ يَقْبَلُ تَوبَتَهُم كَمَا قِيلَ لَهُ عز وجل: (تَوَّابٌ).

فَقَالَ أَبُو القَاسِمِ الزجَّاجِيُّ: "لَيسَ لَنَا أَنْ نُطِلقَ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ إِلَّا مَا أطلَقَهُ جَمَاعَةُ المُسلِمِينَ أُوْ جَاءَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ مُحْتَمِلًا.

وَقَدْ قَالَ اللهُ: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ ﴾ [التوبة: 117]، ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [الشورى: 25]، فَقَدْ جَاءَ الفِعْلُ مِنْهُ عَلَى فَعَلَ وَيفْعَلُ، وَمَا نُطِقَ بِهِ بفعل يفعل، فاسمُ الفَاعِلِ منهُ قِياسًا فَاعِلٌ كَقَولِكَ ضَرَبَ يَضْرِبُ فَهُوَ ضَارِبٌ، وَذَهَبَ يَذْهَبُ فَهُوَ ذَاهِبٌ، وَقَتَلَ يَقْتُلُ فَهُوَ قَاتِلٌ، فَكَذَلِكَ يُقَالُ قِيَاسًا: تَابَ فَهُوَ تَائِبٌ، فَإِنْ كَانَتِ الأُمّةُ تُطْلِقُ ذَلِكَ عَلَى اللهِ تَعَالَى فَقِيَاسُهُ فِي اللُّغَةِ مُستَقِيمٌ، وَإِنْ لَمْ تُطلِقْ ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ الإِقَدَامُ عَلَيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ جَائِزًا، وَعَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ للهِ عز وجل: تَوَّابٌ لِمُبَالَغَةِ الفِعْلِ بِكَثْرَةِ قَبُولِهِ تَوْبَةَ عِبَادِهِ لِكَثْرَةِ مَنْ يَتُوبُ إِلَيهِ، ويرددُ هَذَا الفِعلَ، وَتَكْرَارُهُ إِنَّمَا كَانَ لِيَدُلَّ عَلَى هَذَا المَعنَي، فَلاَ يُجِاوِزُ هَذَا.

وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَاتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ الفِعْلِ مَا لَمْ يُنطَقْ مِنْهُ باسِمِ الفَاعِلِ، كَقَولِهِ عز وجل: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ [الفرقان: 1]، وَقولِهِ: ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]، وَلَمْ يُقَلْ للهِ عز وجل: مُتَبَارَكٌ كَمَا قِيلَ: تَعَالَى فَهُوَ مُتَعَالٍ، وَالوَزْنُ والتَقدِيرُ فِي العَرَبِيَّةِ وَاحِدٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَاتِهِ مَنْ نُطِقَ منهُ باسِمِ الفَاعِلِ كَقَولِنَا: "اللهُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ" وَلاَ تَقُلْ: آمَنَ اللهُ وَلاَ هَيمَنَ اللهُ، وَإنَّمَا تَنْتَهِي فِي صِفَاتِهِ عز وجل إِلَى مَا أَطْلَقَتْهُ الأُمَّةُ وَجَاءَ فِي التَنزِيلِ، ونُمسِكُ عَمَّا سِوَاهُ.

وإِذَا ثَبَتَ هَذَا فاعلَمْ أَنَّهُ لَيسَ لأَِحَدٍ قُدرَةٌ عَلَى خَلْقِ التَّوْبَةِ فِي قَلبِ أَحَدٍ؛ لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ المُنفَرِدُ بخَلقِ الأعمَالِ وَحدَهُ، خِلاَفًا للمُعتزِلَةِ، وَمَنْ قَالَ بقَولِهم، وكذلِكَ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يقبَلَ تَوبَةَ مَنْ أَسرَفَ عَلَى نَفسِهِ، وَلاَ أَنْ يَعفُوَ عَنهُ.

قَالَ ابنُ الحَصَّارِ: "وَقَدْ كَفَرتْ اليَهُودُ والنَصَارى بِهَذَا الأَصلِ العظيمِ فِي الدينِ: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 31]، عَزَّ وَجَلَّ، وَجَعَلُوا لِمَنْ أذنَبَ أَنْ يَأْتِيَ الحَبْرَ أَوِ الراهِبَ فيُعْطِيهُ شَيئًا ويحُطَّ عَنهُ الذَنبَ افتراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ.

فيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ أَنْ يَعَلَمَ أَنْ لَا تَوَّابَ عَلَى الإِطلاَقِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَأَنْ التَّوْبَةَ الوَاقِعَةَ مِنَ العَبدِ لَيْسَتْ بِمُجَردِ كَسبِهِ دُونَ فِعلِ اللهِ، بَلِ العَبدُ تَابِعٌ فِي ذَلِكَ الفِعْلِ لِقَضَاءِ الرَّبِّ وَفِعْلِهِ الجَارِي عَلَيهِ بِقُدْرَةِ رَبِّهِ، وَلِذلِكَ قَالَ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة: 118]، فَجَعَلَ سَبَبَ تَوبَةَ العبدِ تَوبَةُ اللهِ عَلَيهِ أَوَّلًا، فَالَّذِي يُرْجِعُهُ اللهُ مِنْ طَرِيقِ المَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ لَا يَسْتَبِدُّ هُوَ بِالرُّجُوعِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيهِ.

والتَّوْبَةُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ مِنْ غَيرِ خِلَافٍ بَيْنَ المُسلِمِينَ فِي كُلِّ حِينٍ، كَالإِيمَانِ، قَالَ اللُه العَظِيمُ: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وَإِذَا كَانَ سَيِّدُ البشرِ يَتُوبُ إِلَى اللهِ فِي اليَوْمِ مِائةَ مَرَّةٍ، فَكَيفَ بِأَهْلِ الغَفْلَةِ؟! وَإِذَا قِيلَ لَهُ ولصَحْبِهِ الَّذِينَ هُمْ خِيَارُ خَلقِهِ: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 117]، فَجَرَتْ عَلَيهِم هَذِهِ الصِّفَةُ وَهُمْ أَهْلُ الصَّفْوَةِ وَالمَعرِفَةِ، فَكَيفَ بغَيْرِهم الَّذِينَ لاَ يُشَابِهُونَهُم فِي خَيرِهِم؟! فَكَلُّ عَبدٍ مُكَلَّفٍ مفتَقِرٌ إِلَى التَّوْبَةِ؛ لأَنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ هَفْوَةٍ مَا وَحَوْبَةٍ، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]، وَكَمَا أَنَّ الإيمَانَ يَجُبُّ مَا قَبلَهُ مِنَ الآثَامِ، فَكَذَلِكَ التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ.

وَفِي التَّائِبِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [الفرقان: 70]، وَكِلَاهُمَا عَمَلُ القَلبِ، فَكَمَا أَنَّ الإِيمَانَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالإِسلَامِ، فَكَذَلِكَ التَّوْبَةُ؛ لأَنَّ التَّوْبَةَ إِيمَانٌ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ عَمَلِ الظَّاهِرِ والبَاطِنِ كَمَا قَالَ: ﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 11]، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الَصَّلَاةَ والزَّكَاةَ؛ لأَنَّهُمَا أَعْظَمُ أَركَانِ الدِّينِ، وإِنَّمَا الوَاجِبُ عَلَيهِم امتِثَالُ جَمِيعِ الأوَامِرِ واجتِنَابِ جَمِيعِ النَّوَاهِي، وَهَذَا حُكْمُ الكَافِرِ إِذَا تَابَ، وَأَمَّا المؤمنُ إذا تابَ فَعَلَيهِ أَنْ يَتَلَافَى مَا كَانَ فَرطَ مِنهُ مِنْ عَمَلٍ بِظَاهِرِهِ وبَاطِنِهِ، فَعَمَلُ البَاطِنِ النَّدَمُ والخَوفُ والعَزمُ عَلَى أَلَّا يَعُودَ، وَعَمَلُ الظَّاهِرِ يختَلِفُ باخْتِلَافِ الذُّنُوبِ، وذَلِكَ مُعَتَبرٌ بِالأوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَمَا يُمْكِنُ تَلافِيهِ فِعْلًا أَوْ قَولًا، وَمَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ إِلَّا بِالعَزْمِ.

وَسَواءٌ صَدَرَ ذَلِكَ مِنهُ جَهْلًا أَوْ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، والتَّوْبَةُ لَازِمَةٌ فَعَلَيهِ فِي السَّهْوِ رَدُّ مَا أَتلَفَ وَقَضَاءُ مَا فَرطَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 54]، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 119]، وَكِلَاهُمَا مَكِيٌّ وَتَكَرَّرَ هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾ [النساء: 17]، وَهَذِهِ الآيَةُ مَدَنِيَّةٌ بِاتِفَاقٍ، وَدَخَلَتْ كَلِمَةُ إِنَّمَا فِي أَوَّلِهَا للِحَصْرِ وَدَخَلَتِ الأَلِفُ واللَّامُ للِحَصْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِمَكةَ، فَضَمِنَ اللهُ فِي الآيَاتِ كُلِّهَا تَوبَةَ مَنْ عَمِلَ السُوءَ بجَهَالَةٍ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا وَقَعَت بِشرُوطِهَا، فَإِنَّهَا تَعقُبُ المَغْفِرةَ بِطَرِيقِ الفَضْلِ مِنَ اللهِ لَا بِطَرِيقِ الوُجُوبِ عَلَيهِ، إِذْ لَا يَجِبُ للمَخلُوقِ عَلَى الخَالِقِ شَيءٌ، ثُمَّ تَعَلَمُ أَنَّ مِنْ كُلِّ ذَنبٍ تَصِحُّ التَّوْبَةُ وَيَرجِعُ العَبدُ المُذْنِبُ كَمَنْ لَا ذَنبَ لَهُ، وَوَقَعَ التَعرِيضُ بِإبلِيسَ وَمَنْ كَفَرَ كُفرَهُ، وَسَلَكَ مِثلَ سَبيلِهِ مِنْ أحبَارِ اليَهُودِ والنَّصَارَى، الذِين تَعَمَّدُوا التَّكْذِيبَ، واسْتَمرُّوا عَلَيهِ بِمَا أَتَوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَبَقِيَ مَنْ تَعمَّدَ وَلَمْ يُكَذَّبْ فِي المَشِيئَةِ، وَنَصَّ فِي (النِّسَاءِ) عَلَى أَنَّ آخِرَ أَمَدِ قَبُولِ التَّوْبَةِ المَوتُ وَهُوَ عِندَ المُعَايَنَةِ وَحُضُورِ اليَقِينِ للمُحْتَضِرِ بِأنَّهُ يَمُوتُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَولِهِ الحَقَّ: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ﴾ [غافر: 84، 85]، وَالقُربُ فِي حَقِّ كُلِّ مُكَلَّفٍ مَا لم يُحْتَضَرْ، وَفِي حَقِّ الجَمِيعِ ظُهُورُ الآيَاتِ الَّتِي أَخبَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بظُهَورِهَا، وَعَرَّضَ القُرْآنُ بِهَا، مِنهَا مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَابَ قَبلَ أَنْ تَطلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغرِبِهَا تَابَ اللهُ عَلَيهِ"[41]، وَقَدْ أَتَينَا عَلَى هَذَا المَعنَى فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ - مُستَوفًى[42].

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.32 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.40%)]