عرض مشاركة واحدة
  #15  
قديم 30-07-2022, 05:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,106
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التنبيهات في التصحيفات والتحريفات

التنبيهات في التصحيفات والتحريفات (14/ 18)
الشيخ فكري الجزار




الفصل الثاني: جهد المُحدَثين في تحديد وبيان مواضع استعمال علامات الترقيم الحديثة في لغتنا




أولاً: تمهيد
لمَّا قدَّمتُ أنَّ علاماتِ الترقيم التي نعرفُها اليومَ لم تكن معروفةً لَدَى علمائنا القدامَى - رحمُهم الله تعالى - بقِي أنْ نعرِفَ أنها ليستْ من وضْع علمائِنا المحدَثين.

معنى هذا أنها ليستْ عربيةً[1].

وليس لعلمائنا المُحْدَثين فيها إِلاَّ تغييرُ أشكالِ بعضِها. كما فعلوا في "الفصلة" إذْ رفعوها لأعلى هكذا "، " بعد أن كانت نازلةً لأسفل، هكذا "و" على صورة الواو العربية.

وكذلك علامة الاستفهام جعَلوها تَفتحُ يمينًا، هكذا "؟" بعدَ أن كانت تَفتح يسارًا هكذا "?"[2].

أضِفْ إلى ذلك ما قاموا به من جُهدٍ في تحديد وبيان مواضع استعمالها في لُغتنا العربية.

وكان أحمد زكي باشا[3] أوَّلَ مَن نقل هذه العلاماتِ إلى العربية[4]،[5]، وكتَب في ذلك كتابًا أسماه: "الترقيم وعلاماته في اللُّغة العربية".

وقد طُبِع هذا الكتابُ في المطبعة الأميرية بمصر (1330هـ-1912م).

وقد تَكلَّم - رحمه الله تعالى - في هذا الكتاب عن (10) عشر علامات مِن علامات الترقيم، وبيَّن مواضعَ استعمالها، وضَرَبَ الأمثلةَ لبيانِ ذلك.

وقد زاد - رحمه الله تعالى - علامةً خاصَّةً للوقف في الكلام المُسَجَّعَ وهي: فصلة تحتها نقطتان، هكذا: ().

ولا أرى حاجةً تُمَيِّزُ الكلامَ المسَجَّعَ عن غيره في استعمالاتِ علامات الترقيم.

قال - رحمه الله تعالى -: "لتنبيه نظَر القارئ إليه[6]"[7].
قلت: وأرى أنَّ السَّجعَات كافيةٌ بنفسِها في تنبيه ولفت نظر القارئ إليها. فيجب أن يُعامَل السَّجْعُ كغيرِه من الكلام في نوع علاماتِ الترقيم.

ونظرًا لأهمية هذا الكتاب؛ لأنَّه:
1- أولُ ما كُتب في هذا الشأنِ.
2- ولأنَّه جُهدُ عالِمٍ كبيرٍ يجبُ أن يُذكَر ويُنشر، لا أن يُنسى ويُهمَل.
3- ولأنَّ قرار وزارة المعارف[8] لم يتَعَدَّ ما جاءَ في هذا الكتاب.

نظرًا لكلِّ ذلك؛ فإنِّي أنقل منه هنا الجزء الخاص بعلامات الترقيم كاملاً بحروفه[9]؛ نشرًا له وإذاعةً.

• • •
ثانيًا كتاب[10]
"الترقيم وعلاماته في اللغة العربية"
القسم الأول
الترقيم وعلاماته في اللغة العربية
تمهيــد:
دلَّتِ المشاهدةُ وعزَّزها الاختبارُ على أنَّ السامعَ والقارئَ يكونانِ على الدوامِ في أشدِّ الاحتياجِ إلى نَبَراتٍ خاصَّةٍ في الصوْتِ، أو رموزٍ مرقومةٍ في الكتابة، يحصُل بها تسهيلُ الفَهمِ والإدراكِ، عندَ سماعِ الكلامِ أو قراءةِ المكتوب.

ولقد شَعَرَتِ الأُممُ التي سَبَقتْ في ميادين الحضارةِ بهذه الحاجةِ الماسَّة، فتواضَع علماؤها على علاماتٍ مخصوصةٍ لفصل الجُمَلِ وتقسيمِها؛ حتَّى يستعينَ القارئُ بها - عند النظرِ إليْها - على تنويعِ الصوتِ بما يُناسِبُ كلَّ مقامٍ مِن مقاماتِ الفصلِ والوصلِ أو الابتداءِ، إِلى ما هنالك من المواضع الأُخرى التي يَجبُ فيها تمييزُ القولِ بما يُناسِبُه من تعجُّبٍ أو استفهامٍ، أو نحوِ ذلك منَ الأساليب التي تقتضيها طبيعةُ المقالِ.

وأوَّلُ مَنِ اهتَدَى لذلك رجلٌ من علماءِ النحْوِ، من رُومِ القُسطنطينية، اسمه أرسطوفان، من أهلِ القرنِ الثاني قبلَ الميلاد. وكان شأنه في هذا السبيلِ شأنَ كلِّ مَن يتنبَّه لأمرٍ مِنَ الأمورِ في مبدئِه. ثم توفَّرت أُمم الإِفْرَنْج من بعدِه على تحسينِ هذا الاصطلاحِ وإِتقانِه إلى الغايةِ التي وصَلُوا إليها في عهدِنا الحاضر، ممَّا يكاد يكون نهايةَ الكمالِ في هذا الباب.

فلقدْ أصبَحَ الطفلُ، إذا قرأ في أحد الكتبِ الإِفْرَنجِْيَّةِ، لا يتلعثَمُ ولا يتردَّدُ في التلاوةِ؛ بل يكونُ مماثلاً للشيخِ العالِمِ، سواءً بسواء. وإِنَّما يُقاسُ الاختلافُ بين المبتدئ والمنتهي بدرجة المحصول مِن العلمِ الذي يُبنَى عليه مقدارُ الفَهْم. والفضلُ في ذلك راجعٌ إلى تلك العلامات التي تواضَعُوا عليها؛ لتسهيلِ القراءةِ على كل إنسانٍ توصَّل إلى بسيطِ المعرفةِ بأشكالِ الحروفِ وتركيبِها، بعضها مع بعضٍ، وإلى طريقةِ النطقِ بالكلماتِ التي تتألَّفُ منها.

أمَّا القارئُ باللِّسانِ العربيِّ، فلا يزالُ مُضْطَرًّا، رغمَ أنفِه، إلى التعثُّر والتسكُّع على الدوام، وإلى مراجعةِ نفسِه بنفسِه، إِنْ كان قد أُوتِيَ شيئًا مِنْ العِرفان. وعلى كلِّ حالٍ، نرى أنَّه مهما بلغت درجتُه منَ العلمِ، لا يتسنَّى له في أكثر الأحيان أن يتعرَّفَ مواقعَ فصلِ الجُملِ وتقسيمِ العبارات، أو الوقوف على المواضع التي يجبُ السكوتُ عندها، فهو يَصِلُ في الغالبِ رأسَ الجُمْلةِ اللاحقةِ بذيْلِ الجُمْلةِ السابقة، ونحو ذلك مما يشهَدُ به الحسُّ ويؤيِّده العِيان.

فكانتِ النتيجة عندنا إخلالَ القارئين - ولو كانوا في طليعةِ المتعلِّمين - بتلاوة عبارةٍ، قد تكون سهلةً في ذاتها[11]؛ بل كثيرًا ما تراهم عاجزين عن إِعطاء الكلامِ حقَّه منَ النَّبَرات التي يَقتضيها كلُّ مقامٍ؛ بل إنَّنا لو اختبرنا طفلاً عربيًّا لوجدناه يحسِنُ القراءةَ بلُغةٍ أجنبيَّةٍ، أكثَرَ مما يتوصَّل إليه، مع الكدِّ والجدِّ، فيما يحاوله من قراءةِ العبارات المكتوبةِ بلُغةِ أمِّه وأبيه.

ولقد طالما فكَّر الغيورون على اللُّغة العربيَّة، العاملون على تسهيل تناولها، في تلافي هذا الخَلَل الفاضِح، وتدارك هذا النقْص الواضِح، خصوصًا بعد امتزاج الأممِ بعضها ببعضٍ، وشيوعِ اللغات الأجنبيَّة في بلادِنا؛ فرأَوا أنَّ الوقت قد حان لإِدخالِ نظامٍ جديد في كتابتِنا الحاليَّةِ - مطبوعةً أو مخطوطةً - تسهيلاً لتناولِ العلومِ، وضنًّا بالوقت الثمين أن يَضيع هَدَرًا بين تردُّدِ النظرِ وبين اشتغال الذِّهنِ في تفهُّمِ عباراتٍ كان مِن أيسرِ الأُمورِ إدراكُ معانيها، لو كانت تقاسيمُها وأجزاؤها مفصولةً أو موصولةً بعلاماتٍ تُبيِّن أغراضَها وتوضِّح مراميَها.

فشَرَعوا يستعملون في مطبوعاتهم ومخطوطاتهم الرموزَ الخاصَّة بالإِفْرَنْجِ، ولكنْ على غيرِ أصولٍ مقرَّرةٍ أو قواعد ثابتة. فنشأ عن ذلك كثيرٌ منَ الخَلطِ والارتباكِ؛ لأنَّهم لم يتمشَّوا في هذا العملِ على وتيرةٍ واحدةٍ معروفةٍ عندَ جميع القارئين على السواء. ولذلك لم يأتِ مَسعاهم بالفائدةِ التامَّةِ التي توخَّوْها، وإِنْ كان لهم فضلٌ كبيرٌ في الشُّعورِ بوجوبِ هذا الإِصلاح، والعملِ على الوصول إليه بقوَّتهم الذاتية الفردية، لا تجمعهم رابطةٌ يرجعون إليها أو قاعدة يعتمد الناس عليها.

بقيتِ الحال على هذا المنوال في ديار مصر، وهي الملاذ الأخير لِلُغة العرَب، والموئل الكبير لعلومهم وآدابهم.

وأمَّا البلاد العربيَّة الأخرى، فالأمر فيها أشدُّ وأنْكَى.

حتى إذا أشرقتْ علينا أنوارُ هذا العصر العباسي المجيد[12]، أخذتِ اللُّغة في الانتعاش، خصوصًا عندما أقرَّتِ الحكومة الخديويَّة المصرية إحياءَ الآداب العربية.

وكان مِن كمال التوفيق أن أتاح الله للهيمنةِ على نظارة المعارف العمومية، والإشراف على إحياء الآداب العربية، سعادةَ النابغة المفضال أحمد حشمت باشا. فقد أَخَذ، منذ تقلَّدَ زمام هذه النظارة، في إعادةِ اللُّغة العربية إلى مكانتها الطبيعيَّة من الرُّجحان في جميعِ المدارس الأميريَّة، كما أخذ يَتحرَّى الأسبابَ الموصِّلةَ إلى إحياء الآداب العربية في أجملِ شَكْل، وعلى أحسنِ مِثال.

وكان مِن باكورةِ أعماله في هذا الإحياءِ أنْ عهِد إلى واضِع هذا، بمباشرةِ طبْع الجزء الأوَّل مِن كلٍّ من الموسوعتين الحافلتين الموسومتَين "نهاية الأرب في فنون الأدب" للنُّوَيريِّ، و"مسالك الأبصار، في ممالك الأمصار" لابن فضل الله العُمَريِّ.

ولقدْ أشار سعادةُ أحمد حشمت باشا بتدارك النقْص الحاصل في تلاوةِ الكتابة العربية؛ وطلب استنباطَ طريقةٍ لوضع العلامات التي تُساعِد على فَهْم الكلام، بفصْل أجزائه بعضها عن بعض، ليتمكَّن القارئُ مِن تنويع صوته: تبعًا لأغراض الكاتب، وتوضيحًا للمعاني التي قصَدَها، ومراعاةً للوجدان الذي أمْلَى عليه.

واشترط (حفظه الله) أن يكونَ ذلك الاصطلاح بطريقةٍ منطقية مضبوطة، منطبِقة على القواعدِ والأصول المقرَّرة للوقف والابتداء، في اللُّغة العربية.

فبدأتُ بمراجعة الكُتب العربية التي وضعَها النابغون من السَّلف الصالِح في الوقف والابتداء، مثل: "القول المفيد في عِلم التجويد" و"منار الهُدى في الوقف والابتدا" و"كتاب الوقف والابتداء" للإمام السجاوندي وشروح "المقدِّمة فيما يجب على القارئ أن يعلمه" و"الإتقان في علوم القرآن" و"البحث المعروف في معرفة الوقوف"[13] للداني و"كتاب الوقوف" للشاطبي[14] وغيرها من الأمَّهات الموضوعة في هذا الباب.

ثم رجعتُ إلى ما تواضَع عليه الإفرنجُ في هذا المعنى، من كتب النحو ومعاجم اللُّغة المستفيضة بين الناس. فكانتْ نتيجة البحث مما يَقَرُّ الخاطر، ويَسُرُّ الناظرَ؛ فقد وجدتُ، من حسن الحظ، أنَّ الاصطلاحين يمكن التوفيقُ بينهما في أهمِّ المواضع، وفي أكثرِ المقامات دَورانًا في الكلام.

ذلك بأنني تحقَّقتُ أنَّ الأسلوبين لا يختلف بعضهما عن بعض إلا في جُزئيات طفيفة، يُمكِنُ العربيَّة أن تستغني عنها.

وبيان ذلك أنَّ العرَب - حينما هبُّوا لأخذ قِسطهم من التقدُّم والارتقاء - ابتدؤوا بالكتابةِ على طريقةٍ سهلةٍ ساذَجة. فكان من كتابتهم قبل البعثة النبويَّة ما هو موصولُ الكلمات بعضها ببعض. فقد ورَد "أنهم وضَعوا كتابًا واحدًا وجعلوه سطرًا واحدًا موصول الحروف كلها غير متفرِّق[15]". ثم فصلوا الكلمات بعضَها عن بعض في عصْر النبوة، ولكن الحروف بقيت خاليةً من نُقط الإعجام التي تُميِّز الحروف المتشابهة بعضها عن بعض، كما كانتْ خِلْوًا أيضًا من علامات الشكل التي تُميِّز الحركاتِ والسكون. وذلك إنَّما كان لفصاحة القوم الغَرِيزيَّة وفَطانتهم الفِطريَّة.

فلمَّا اتَّسعتِ الدائرة، أحسَّ أهل الرأي منهم بوجوبِ العمل على إصلاح أوَّل. فوضَعوا علاماتِ الشكل نقطًا بمدادٍ أحمر فوقَ الحرف أو تحتَه أو على شِماله، ثم رأَوْا بعد ذلك كثرة التصحيف، فوضَعوا هذه النقط - مفردةً أو مثنَّاة أو مثلَّثة - فوق حروف وتحت حروف أخرى. ثم بدَا لهم بعدَ ذلك أنه لا يتيسر لكلِّ إنسان وجودُ مِدادين عندَ الكتابة، فضلاً عما هنالك مِن ضياع الوقت، وإمكان تطرُّق الخلط، فعَدَلوا عن الشكل بطريق النقط، فوضَعوا علاماتِ الشكل المستعملة الآن. فكان إصلاحًا ثالثًا.

ثم جاء الطور الرابع - طور الكمال - فوضَعوا علاماتٍ خطيةً مختزلة من بعض الحروف أو مِن بعض الكلمات، للدَّلالةِ على مواضعِ الوقف بأنواعه، وعلى مواقِع الفصل، وعلى مكان الانتهاء، أي حيث يحسُن السكوت التام. وأطلقوا على هذا الاصطلاح الراقي اسم: "الوقف والابتداء". فوضَع القومُ للوقف الاختياري حروفًا ونُقطًا وخطوطًا يمتاز بها السكون والإشمام والروم والتضعيف، كما وَضَعوا علاماتٍ لفظيَّةً وخَطيةًَ لكلٍّ من أنواعه الأربعة (الاستثباتيّ والإنكاريّ والتذكريّ والترنُّمي). وكذلك نصَّ أئمَّة المسلمين على تنويعِ الصوت في الكلام: تحذيرًا وتبشيرًا إلخ. ونصَّ سيبويه على أنَّ العربي، لحِرْصه على بيانِ الحركة في آخِر كل كلمة سألَه عنها، كان يُعقِبها بلفظة (يا فتى). وبهذه الوسيلة كان سيبويه يستدلُّ على أنَّ الكلمةَ مصروفةٌ ومجراةٌ أم لا. إذ لو وقَف الأعرابيُّ عليها بالسُّكون وهي غير منصوبة وكانتْ مجراةً، لم يكن في وُسْعِ إمام النحاة أن يعلَمَ إنْ كانت تلك الكلمةُ مجراةً أم لا.

غير أنَّ معاشِرَ الكاتبين بالعربية لم يُراعوا ذلك الاصطلاحَ النافِع، مراعاةً تامَّة، اللهمَّ إلا في كتابةِ المصحف الشريف، دون سِواه. وكأنَّهم ضنُّوا بالوقت، وتَطلَّبوا الإسراعَ والتعجيل في سائرِ أنواع الكتابة، فأهْمَلوا هذه العلامات. ولكن بعض العلماء ما زالوا محافظِينَ في كتبهم على وضْعِ الحركات الدالَّة على الشكل، وجاراهم نفرٌ مِن النسَّاخين الذين اتَّخَذوا الأمانةَ رائدًا لهم في أعمالِهم، وتوخَّوْا تسليمها للخَلَفِ كما وصلَتْ إليهم.

أمَّا السواد الأعظم مِن العلماء والنسَّاخين فقد أهْمَلوا هذا الشكلَ، بل تَرَاخوا في وضعِ النُّقط، نقط الإعجام ذاتها. فكان ذلك الإهمالُ المزدَوج مثارًا للإبهام والالْتِباس بين الناس، على ما هو مشهورٌ عندَ العارفين، مِن طَلبةِ العلم والبحَّاثين.

حتى لقد تَطرَّق الخللُ إلى كثيرٍ مِن نفس الألفاظ والمسميات، فأصبحتِ الكلمة الواحدة فيها قولانِ فأكثر، مِن جهة وضْع النقطِ على حروفها؛ وقولان فأكثر، مِن طريق التلفُّظ بحركاتها وسكناتها.

فلمَّا ظهرتِ الطباعة العربية، زادتِ الحال إشكالاً وتعقيدًا. وهكذا معظمُ الكتب بين أيدينا، نرَى الصحائفَ فيها مُسوَّدة مطموسة بالكِتابة مِن أوَّلها إلى آخرها، بلا فاصلٍ بينها يستريح عندَه النظر أو اللسان. وهو أمرٌ طالما أحسَّ الناس بمضارِّه المتعدِّدة، وحال دون التيسير في الفَهْم أو الوصول إلى المطالِب المقصودة.

وأشد ما يظهر هذا النقصُ في معاجمِ اللُّغة (قواميسها)، وفي كتب الأدب، وفي أسفار التاريخ، ونحوها. بحيث إنَّ الباحث يضيع عليه كثيرٌ من وقته، إلى أن يَظْفَر بضالَّته؛ بل قد يمرُّ بنظره على موضِعِ الحاجة، ولكنَّه قد لا يقِف عليه، أو لا يكاد يَهتدي إليه، إلا مَن كان له صبرٌ وممارسة، وهمُ القليل مِن القائمين بشؤون التعليم، والمتوفِّرين على البحْثِ والتنقيب.

أمعنتُ النظر في هذه الأسباب، الداعية إلى الخَلَل والاضطراب، ورأيتُ أنَّ أَحْسَن علاجٍ لها هو إحياءُ الكثير من القواعد التي قرَّرها علماءُ اللُّغة العربية، لبيانِ مواضع الوقف والابتداء؛ ورأيتُ مِن المفيد استعمالَ العلامات الإفرنجيَّة، وإضافة رموز أُخرى عليها، ممَّا تدعو إليه طبيعةُ التركيب في الكلام العربي.

وإنَّما جنحتُ إلى هذا التوفيقِ بين القواعد العربيَّة وبين العلامات الأجنبيَّة، لتوحيد العمل، وتقليلِ الكُلْفة، وتسهيل السبيل: خصوصًا أنَّ هذه العلامات قد شاعَ استعمالها في المدارس والمطبوعات والمخطوطات العربيَّة، في عصرنا هذا.

وفضلاً عن ذلك، وَجَدتُ بعضَ هذه العلامات قد استعمَلها النسَّاخون المصريون في كثيرٍ من الكتب العربيَّة، كما تشهد به الآثارُ المحفوظة بدار الكتب الخديويَّة، وكما تشهد به الآثارُ المنقولة بطريقِ التصوير الشمسي التي ستُتَّخذ أساسًا لإحياءِ الآداب العربية.

وفوق ذلك، قدِ استخدمها الأتراكُ في مطبوعاتهم، خُصوصًا جرائدَهم السيَّارة.

وأهمُّ الدواعي التي قضتْ بالتعويل على هذه العلامات، أنَّ التلاميذ المصريِّين في جميع المدارس الأميريَّة والأهليَّة والأجنبيَّة يَتعلَّمون هذه العلاماتِ، أثناءَ تلقِّيهم اللغاتِ الأجنبيةَ. فلو اخترتُ علاماتٍ أخرى، لكان ذلك العملُ موجبًا للتهويش (التشويش) على الطَّلَبة، ولا سيَّما حَدِيثي العهد منهم بالدِّراسة. وفي ذلك ما فيه، ممَّا يتحتَّم تَلافِيه.

فلهذه الأسبابِ كلِّها، رأيتُ وجوبَ الاعتمادِ على هذه العلامات، بعدَ تعديل وضْعِها، بحيث يمكن كتابتها بالقَلَم العربي: مراعاةً لحركةِ اليدِ في الكتابة، مِن اليمين إلى اليسار.

وقدِ اصطلحتُ على تسمية هذا العمل بالترقيم، لأنَّ هذه المادة تدلُّ على العلامات والإشارات والنقوش التي تُوضَع في الكتابةِ وفي تطريزِ المنسوجات. ومنها أخَذَ علماء الحساب لفظة "رقْم وأرقام" للدَّلالة على الرموز المخصُوصَةِ للأعداد. فنَقَلْناها نحنُ لهذا الاصطلاح الجديد، لمَا بينهما مِن الملابسةِ والمشابَهة.

وعندي أنَّه لا مُوجِبَ لاستعمالِ هذه العلامات في كتابةِ القرآن الكريم، لأنَّ علماء القراءات - رَحِمهم الله - قد تَكفَّلوا بالإشارةِ إلى ما فيه الغَناءُ والكفاية فيما يختصُّ به. وربَّما كان الأوفقَ عدمُ استعمالها أيضًا في كتابةِ الحديث الشريف، لأنَّ تعليمه حاصلٌ بطريق التلقين، وأمَّا رِوايته فلا بدَّ فيها مِن الدِّراية أيضًا.

ولي أملٌ شديد، في أن يكونَ مِن وراء هذا الصنيعِ الجديد، فائدةٌ للسانِ العربيِّ وأهله، بفَضْل الله وكرِمه. إنه عليمٌ بالنيَّات، وهو المستعانُ على تحقيقِ الغايات!

[1] وإن كان هذا يجهَلُه كثيرون، حتى بعض دارسي اللغة العربية.

[2] وقد حدَث تغييرُ هذه العلامة بعدَ صدور قرار وزارة المعارف بشأنِ علامات الترقيم سنة (1931م)، فقد ذُكرت فيه هكذا "?".

[3] عالِمٌ، أديبٌ، بَحَّاثة، أولُ نافخٍ في بُوق إِحياء التراث العربي - على المنهج الحديث - في مصر، أحمد زكي بن إبراهيم بن عبدالله، المصري (مولدًا وإقامة ووفاةً)، قيل بأنَّ أصلَه مغربي، تسمَّى شيخ العروبة (لصلته برِجالات العرب، وحبِّه للعربية) (1284-1353هـ).
انظر: "الأعلام" (1/126)، "معجم المؤلفين" (1/140)، "مقدمة الترقيم وعلاماته في اللغة العربية" (11/19) و"مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي" (81).

[4] ومن عَجَبٍ أنَّ الدكتور/ رمضان عبدالتواب - حفظه الله تعالى - لم يذكُرْ هذا الأمرَ، مع أنَّ الكتاب مطبوعٌ متداولٌ - وإن كان قليلاً أو نادرًا - وقد أُعيد طبعه في مصر (1408هـ - 1988م)، فلا أدري أَنَسِيَه، أم غاب عنه، أم أَغْفَله؟

[5] ولكن قال الدكتور/ عبدالمجيد دياب: "وللعلامة الشيخ طاهر الجزائري (1850-1920م) بحثٌ مهمٌّ في الخط العربي (النقط. الشكل. الحركات. علامات الفصل... إلخ) سمَّاه: "توجيه النظر في أصول الأثر"، ويقع البحث مخطوطًا في حوالي (20) عشرين صفحة"، ثم نقل ملخَّصًا له في حوالي صفحةٍ ونصف الصفحة.
قلت: ولم أستطعِ الوقوفَ على هذا المخطوط.
انظر: "تحقيق التراث العربي - منهجه وتطوره" (268).

[6] يعني السجعَ.

[7] انظر: "الترقيم وعلاماته" (217).

[8] وسأذكره بنصِّه بعدَه مباشرةً - إنْ شاء الله تعالى - ثم نعقدُ مقارنةً بينهما. هذا، وقد صدر هذا القرار بعدَ الكتاب بحوالي عشرين سنة (26/7/1930م).

[9] إذ إنَّه - رحمه الله تعالى - قد جعل في آخر الكتاب بعضَ الصفحات في "اصطلاحات في كيفية رسم بعض الحروف ووضع الحركات واختزال بعضِ الكلمات والجمل الدُّعائية الشائعة الاستعمال"، فلمَّا لم يكن هذا من مقصود علامات الترقيم، لم أذكُرْه هنا.

[10] نقلتُه كما هو بنصِّه وهوامشه دون تغييرٍ أو تعليق، غير أنَّنا أعدْنا (صَفَّه) بحروف كتابِنا ومُسلسل صفحاتِنا.

[11] مثال ذلك:
أولاً: البيت المشهور الذي يحفَظه على وجهه الصحيح كلُّ مَن له أدنى حظٍّ من علوم البلاغة، وهو:
وَلاَ يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ
إِلاَّ الأَذَلاَّنِ عَيْرُ الحَيِّ وَالوَتِدُ


فقد رواه صاحبُ الجوائب العلاَّمة أحمد فارس (وهو هو) على الوجه الآتي:
وَلا يُقِيمُ عَلَى ضَرِيرِ أَدَّبَهُ
إِلاَّ الأَذَلاَّنِ عَيْرُ الحَيِّ وَالوَتدُ


ثانيًا: عندما تكلَّم صاحب المغني على لفظة "أجل" بمعنى نَعَمْ، قال: "إنها تصديقٌ للخبر، ووعدٌ للطلب" ثم قال: "وقيَّد المَالَقِيُّ الخبر... إلخ"، فجاء الإمامُ مُلاَّ علي القاري في شرْحه للمغني وضبط العبارة الثانية هكذا: "وقيدًا لما لَقِيَ الخبرُ".
ثالثًا: للفرزدق بيت معروف، وهو:
وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ وَإِنْ هُمَا
تَعَاطَى الْقَنَا قَوْمَاهُمَا أَخَوَانِ


فجاء الإمام ابنُ هشام ورَوى الشطرة الثانية في المُغني بهذه الكيفية وهي:
تعاطي القَنَا قَوْمًا هُمَا أَخَوَانِ

فلو لاحظْنا علاماتِ الترقيم في هذا البيت لمَا وقَع في هذا الخطأ الجسيم أقلُّ صبيان المكاتب فضلاً عن مثل الإمام الذي هو حُجَّة النحاة.
وها نحن نكتُبه على الطريقة المذكورة ليظهرَ الفرق:
وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ، وإِنْ هُمَا
تَعَاطَى الْقَنَا قَوْمَاهُمَا، أَخَوَانِ


ومعناه: أنَّ كل رَجلين يترافقان في أيَّة دار كانت فهما أخوان، ولو أنَّ قوميهما يتعاطيان القنَا ويشتجران في الخِصام.
والشواهد في هذا الباب أكثرُ من أن تُحصَى. وفي الذي اقتصرْنا على ذِكره كفاية.

[12] يعني حُكم الخديوي عباس، لا الخلافة العباسية. (فكري).

[13] اعتمادًا على الخلاصة الفَرنسية التي كتبَها عليه العلامة ده ساسي، والأصل محفوظٌ بمكتبة باريس الأهلية.

[14] الأصل محفوظ أيضًا بمكتبة باريس الأهلية.

[15] راجع صفحة 6 من الجزء الثاني مِن صُبح الأعشى بدار الكتب الخديوية، المنقول بالفتوغرافية عن النُّسخة الأصلية المحفوظة بخزانة الكتب بجامعة أكسفورد من أعمال إنجلترا. واعتبر ما هو جارٍ إلى الآن عند الألمانيين، وهم من أرقَى الأمم في الحضارة، فإنَّهم يصلون حروفَ كلمتين فثلاثة فأكثر بعضها ببعض ويكونون كلمة واحدة منها جميعًا.
مثال ذلك لفظة Dioxidiomidoarsenobenzol التي اصطلح الناس على تسميتها بدواء 606 لعدم إمكان النطق بتلك الكلماتِ المجموعة مع بعضها.
ولا يزال لذلك أثرٌ قليل عند أبناء العرب إلى اليوم فمِن محاجاة الأطفال ومعاياتهم في المكاتب والمدارس الابتدائية تحدِّي بعضهم البعض بقراءة هاتين المجموعتين:
(سنستنسبنينتسبسبتشعرها) و(حججحجححجحجتين)
أما اللُّغة الفصحى ففيها بقيةٌ ضئيلة مِن هذا القبيل. غير أنَّ الأمر لا يتعدَّى الكلمتين أو الحرفين فقط، كما هو معلومٌ في باب الإدغام وغيره من عِلم الرَّسم والإملاء.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 35.20 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.75%)]