عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 25-09-2022, 02:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نظرية الفقهاء المسلمين في الحب

د – نظرية الحب عند الإمام ابن القيم:


يقول الإمام ابن القيم في كتابه “نزهة المشتاقين”: الداعي إلى الحب قد يراد به الشعور الذي تتعبه الإرادة والميل؛ فذلك قائم بالمحب. وقد يُراد به السبب الذي لأجله وُجدت المحبة وتعلقت به، وذلك قائم بالمحبوب. ونحن نريد بالداعي مجموع الأمرين وهو ما قام بالمحبوب من الصفات التي تدعو إلى محبته، وما قام بالمحب من الشعور بها، والموافقة التي بين المحب والمحبوب وهي الرابطة بينهما.
فهاهنا أمور: وصف المحبوب وجماله، وشعور المحب به، والمناسبة: وهي العلاقة والملاءمة التي بين المحب والمحبوب؛ فمتى قويت الثلاثة وكملت قويت المحبة واستحكمت. ويكون نقصان المحبة وضعفها بحسب ضعف هذه الثلاثة أو نقصها.. فمتى كان المحبوب في غاية الجمال وشعور المحب بجماله أتم شعور والمناسبة التي بين الزوجين قوية؛ فذلك الحب اللازم الدائم. وقد يكون الجمال في نفسه ناقصًا لكنه في عين المحب كامل؛ فتكون قوة محبته بحسب ذلك الجمال عنده، فإن حبك للشيء يُعمي ويصم، فلا يرى المحب أحدًا أحسن من محبوبه.
وقد يكون الجمال موفورًا، لكنه ناقص الشعور به فتضعف محبته له [أي قد يكون أحدهما ناقص الشعور بجمال الآخر فتقل محبته له]. وإذا وُجد ذلك كله وانتفت المناسبة والعلاقة التي بينهما لم تستحكم المحبة، وربما لم تقع ألبتة. فإن التناسب الذي بين الأرواح من أقوى أسباب المحبة فكل امرئ يصبو إلى ما يناسبه. وهذه المناسبة [أي الشيء الذي يقارب بينهما] إما أصلية: من أصل الخلقة [أي أصيلة متعلقة بنفسه] أو عارضة بسبب المجاورة أو الاشتراك في أمر من الأمور [أي غير متعلقة بالنفس وإنما هي أمر خارجي اشترك بينهما]. فأما التناسب الأصلي فهو اتفاق أخلاق، وتشاكل أرواح، وشوق كل نفس إلى مشاكلها. فإن شبيه الشيء ينجذب إليه بالطبع؛ فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلق؛ فتنجذب كل منهما إلى الأخرى بالطبع.
وقد يقع الانجذاب والميل بالخاصية [بخصوصية معينة] وهذا لا يُعلَّل ولا يُعرف سببه كانجذاب الحديد إلى الحجر المغناطيس. ولا ريب أن وقوع هذا القدر بين الأرواح أعظم من وقوعه بين الجمادات. وهذا الذي حمل بعض الناس على أن قال: “إن العشق لا يقف على الحسن والجمال، ولا يلزم من عدمه [أي لا يلزم من يفقد الجمال ألا يُحب]، إنما هو تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوقة [أي تشابه النفوس في طباعها، وهذا أهم تحديد في سبب الحب عند الإمام ابن القيم]. وقد قال بعضهم لمحبوبه: صادفت فيك جوهر نفسي، وشاكلتها في كل أحوالها؛ فانبعثت نفسي إليك، وكأنما هويت نفسي.
فإذا كانت المحبة بالمشاكلة والمناسبة ثبتت وتمكنت ولم يزلها إلا مانع أقوى من السبب، وإذا لم تكن بالمشاكلة [التشابه بينها في الصفات الداخلية] فإنما هي محبة لغرض من الأغراض تزول عند انقضائه وتضمحل. فمن أحبك لأمر ولى عنك عند انقضائه فداعي المحبة وباعثها إن كان غرضًا للمحب لم يكن لمحبته بقاء، وإن كان أمرا قائما بالمحبوب سريع الزوال والانتقال زالت محبته بزواله، والمقصود أن المحبة تستدعي مشاكلة ومناسبة.
وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها أن امرأة كانت تدخل على قريش فتضحكهم، فقدمت المدينة فنزلت على امرأة تضحك الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على من نزلت فلانة، فقالت: على فلانة المضحكة، فقال: “الأرواح جنود مجندة.. ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف”، وأصل الحديث في الصحيح. وأنت إذا تأملت الوجود لا تكاد تجد اثنين يتحابان إلا بينهما مشاكلة أو اتفاق في فعل أو حال أو مقصد. فإذا اختلفت المقاصد والأوصاف والأفعال والطرائق لم يكن هناك إلا النُفرة والبعد بين القلوب.
وأما عن مصدر المشاكلة والاتفاق بين الزوجين فهذا لا يكون إلا من الجانبين ولا بد. فلو فتش المحب -المحبة الصادقة- قلب المحبوب لوجد عنده من محبته نظير ما عنده أو دونه أو فوقه (لاحظ مدى إصرار الإمام ابن القيم ومن قبله الإمام ابن حزم على مسألة حتمية حب المحبوب لمحبه).
ودواعي المحبة تجتمع معًا فمتى كان جميل الصورة جميل الأخلاق والشيم والأوصاف كان الداعي منه أقوى. وداعي الحب من المحب أربعة أشياء:
أولها النظر. والنظر إما بالعين، وإما بالقلب إذا وُصف له. فكثير من الناس يحب غيره، وفني فيه محبة وما رآه، لكن وُصف له. ولهذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة أن تنعت لزوجها المرأة حتى كأنه ينظر إليها، والحديث في الصحيح.
وثانيها: الاستحسان. فإن لم يورث نظره استحسانا لم تقع المحبة.
وثالثها: الفكر في المنظور وحديث النفس به، فإن شغل عنه بغيره مما هو أهم عنده منه لم يعلق حبه بقلبه، وإن كان لا يعدم خطرات وسوائح [أيتبقى له من حبه خطرات وسوائح].
ورابعها: الطمع في وصل هذا المحبوب.
فإذا وجد النظر والاستحسان والفكر والطمع؛ هاجت بلابله وأمكن من معشوقه مقاتله واستحكم داؤه، وعجز عن الأطباء دواؤه.
وفي سياق شرح الإمام ابن القيم لنظريته في الحب يورد مسألة أثر الجماع [والمقصود به هنا العملية الجنسية على وجه التحديد] في الحب هل يطفئه؟ أم يزيد من قوته؟
وبعد أن يورد الرأيين المتعارضين في ذلك يقول: “الخطاب بين الفريقين أن الجماع الحرام يفسد الحب، ولا بد أن تنتهي المحبة بينهما إلى المعاداة والتباغض والقلى، كما هو مشاهد بالعيان. فكل محبة لغير الله آخرها قلى وبغض؛ فكيف إذا قارنها ما هو من أكبر الكبائر، وهذه عداوة بين يدي العداوة الكبرى التي قال الله تعالى فيها: {الأخلاَّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} (الزخرف:67).
وأما الجماع المباح فإنه يزيد الحب إذا صادف مراد المحب فإنه إذا ذاق لذته وطعمه أوجب له ذلك رغبة أخرى لم تكن حاصلة قبل الذوق”.
هـ – ما نذهب إليه في نظرية الحب:

نعم، المشابهة هي علة الحب، ولكن المشابهة في أي شيء.. هذا هو السؤال؟ فالذي نذهب إليه أن هناك عدة مشابهات قد تكون هي علة الحب بين نفسي العاشقين. ولكن أهم هذه المشابهات هي المشابهة في قوة نفس المحبوبين لا من حيث نظر المجتمع ولكن من نظر المحبوب، وكذلك من حيث نظر محبوبه إلى نفسه وإليه، سواء اتفقت هذه الرؤية مع رؤية الواقع الاجتماعي لها أو لم تتفق. أي إن الفيصل في تقرير هذه الحالة هما العاشقان فقط لا بدافع من بيئة تحيط بهما.
والقاعدة الأساسية أن النفس الأولى تجذب حولها النفس المماثلة لها في القوة، والنفوس الأقل منها قوة. وهذا هو تفسير أن النفس الواحدة قد تحبها عدة نفوس كما يحدث في الواقع، ولكن الطبيعي ألا تحب هي من بينها إلا نفسًا واحدة.
هذه المشاهدة الواقعية هي التي تجعلنا ندفع تلك النظرية التي تقول إن المحبوب لا بد أن يكون محبًا لمن يحبه. وفي الحقيقة فإن هذه النظرية ليست نظرية ابن حزم فقط ومن وافقه على ذلك من الإسلاميين، ولكنها نظرية لها مؤداها في الفكر الإنساني بوجه عام. فدوستويفسكي وهو واحد من أهم الروائيين في تاريخ الإنسانية، وكازانوفا وهو واحد من أكثر الناس خبرة بالنساء يذهبان إلى أنه لا توجد امرأة في الوجود تستطيع أن تقاوم رجلاً يديم النظر إليها. فالناتج عن كون أن النفس الواحدة قد تكون محبوبة من أكثر من نفس بينما هي تحب من بينها إلا نفسًا واحدة أن هناك من يحب ولا يُحب في نفس الوقت.
والمحبوب بدوره يحب إما نفسًا تماثله في القوة، وإما نفسًا أقوى منها. فإذا وقع التماثل تحقق السكن، وإلا فإن النفس الأقل قوة تسعى لتحقيق التماثل مع النفس الأولى، وإن كانت هي نفسها ترى أنها تماثلها في القوة. ومن هنا يأتي المعنى الذي قاله البعض بأن العاشق يحقق صورة نفسه؛ لأنه يسعى لتحقيق قوة ذاته كما يمكن أن تكون، وهو يرى أن هذه الصورة هي التي تماثل المعشوق في القوة، فيكون سعيه إلى التماثل مع قوة محبوبه هو في نفس الوقت سعيه إلى تحقيق صورة ذاته التي يرى إمكانية تحقيقها، وكلما اقترب التماثل تحقق السكن، فإذا تحقق التآلف والسكن تقاربت صفات المحبوبين، ويثور بينهما التساؤل: هل صفاته هي صفاته هو نفسه أم صفات محبوبه؛ لأن المزج جعل من ذاتيهما كينونة واحدة، وداخل هذه الكينونة الواحدة لا يعود أحدهما يدري الفرق بين صفاته وصفات محبوبه.
من الذي وضع هذا في طريق ذاك؟ ومن الذي وضع ذاك في طريق هذا؟ ومن الذي جعلهما يعتقدان أنهما متماثلان في قوة ذات كل منهما هذا التماثل مع أن ذلك أمر ذاتي وليس موضوعيًا؟ الإجابة عن ذلك مستحيلة؛ لأن هذه الأمور أمور قدرية لا يعلمها إلا الله.
وعملية اكتمال التماثل في الصفات الأخرى حتى يتحقق المزج بين نفسي العاشقين أمر عجيب، لأنه بعد حدوث التآلف بين المحبوبين فإن كل محب يكون منجذبًا إلى أن تشابه صفاته صفات محبوبه؛ حتى يقتربا في كل صفة إلى نقاط التماس، ثم إلى المطابقة الجزئية، ثم إلى التطابق التام في كل الصفات.
فإن كان أحدهما شرسًا والآخر موادعًا وجدتهما يلتقيان عند نقطة ما بين الشراسة والوداعة.
وإذا ثبت أحدهما على صفة من الصفات نتيجة اقتناع ما وجدت الآخر ينتقل إليها ولو بعد عنتٍ، خصوصا إذا كانت أقرب إلى الروحية. بل الذي يحدث أن صدق الحب بينهما وتعمقه يؤديان بهما إلى أن حدوث طفرة روحية لهما معا فتطهرهما وتسمو بهما إلى مدارج عليا من الإيمان. فإذا كان أحدهما متكبرًا والآخر متواضعًا؛ وجدت المتكبر يغدو متواضعًا والمتواضع يغدو أكثر ترفعًا، أو جدت المتكبر غدا متواضعًا إذا ثبت الثاني على حاله، وربما انتقل الاثنان إلى درجات أكبر من التواضع.
والحكاية أظهر بالنسبة للانهماك على ماديات الدنيا. فإذا كان أحدهما متكالبًا على ماديات الدنيا وبهرجها والآخر زاهدًا وجدت الأول اقترب من الثاني وصار أكثر زهدًا، ووجدت الثاني اقترب من الأول وصار أكثر تنعمًا. فإذا ثبت الثاني على موقفه وجدت الأول انتقل إلى موقف الثاني، بل قد يرقيان معا إلى درجات أكبر من الزهد والروحانية.
هذا التآلف بين المحبوبين يصنع هذه الدرجة الرائعة من التماثل في الصفات الروحية؛ حتى يحدث المزج التام بينهما؛ فلا تعلم ما هي الصفات الخاصة بهذا أو بذاك وبماذا يتشابه أحدهما بالآخر.
بل الأغرب من ذلك أن التشابه بينهما يكون أيضًا في حركة الأعضاء وعاداتها فتجدهما يتشابهان في طريقة السير والأكل والكلام والضحك بل في كل التصرفات والأفعال.
ولكن العجب العجاب هو تشابههما في الشكل أيضًا، وتفسير ذلك أن صفات النفس الداخلية للإنسان تنعكس على ملامحه إلى الدرجة التي يبلغ معها الأمر أن تترك آثارها المادية عليها؛ ولذلك فإنه عند حدوث العشق والتآلف والتماثل الداخلي بين روحي العاشقين، فإن هذا التماثل النفسي ينعكس على ملامحهما ويترك آثاره عليهما.
كيف أدرك أئمة المسلمين ظاهرة الحب؟

أ – نظرة الإمام محمد بن داود الظاهري:

ذكر أحد أتباع الإمام الظاهري أن الإمام محمد بن داود الظاهري كان يدخل الجامع دومًا من باب الوراقين، فعدل عن ذلك، وجعل دخوله من غيره، وكنت مجترئًا عليه فسألته عن ذلك، فقال: يا بني، السبب فيه أني في الجمعة الماضية أردت الدخول منه فصادفت عند الباب عاشقين يتحدثان فلما رأياني قالا: “أبو بكر قد جاء” فتفرقا فجعلت في نفسي ألا أدخل من باب فرقت فيه بين عاشقين.
وقال ابن القيم عنه في كتابه الداء والدواء: “وهذا أبو بكر محمد بن داود الظاهري العالم المشهور في فنون العلم من الفقه والحديث والتفسير والأدب، وله قوله في الفقه وهو من أكابر العلماء وعشقه مشهور”.
وقال نفطويه: “دخلت عليه في مرضه الذي مات فيه فقلت: كيف تجدك؟ فقال: حب من تعلم أورثني ما ترى، فقلت: وما يمنعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين: أحدهما النظر المباح، وآخر اللذة المحظورة. فأما النظر المباح فهو الذي أورثني ما ترى، وأما اللذة المحظورة فقد منعي منها ما حدثني أبي حدثنا أبو سويد بن سعيد حدثنا مسهر عن أبي يحيى القتاب عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: “من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة”.
وجاءته يوما فتيا مضمونها ما يلي:
يا بن داود، يا فقيه العراق
أفتنا في قواتل الأحداق
هل عليها بما أتت من جناح
أم حلال لها دم العشاق؟
فكتب الجواب بخطه تحت البيتين:
عندي جواب مسائل العشاق
فاسمعه من قرح الحشا مشتاق
لما سألت عن الهوى هيجْتني
وأرقت دمعًا لم يكن بمراق
إن كان معشوقًا يعذب عاشقًا
كان المعــذب أنعم العشاق

ب – موقف الإمام ابن حزم:

يقول الإمام ابن حزم في طوق الحمامة: “الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالها عن أن تُوصف فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وهو ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة؛ إذ القلوب بيد الله عز وجل. وقد أحب من الخلفاء المهديون والأئمة الراشدون وكثير من الصالحين والفقهاء في الدهور الماضية والأزمان القديمة من قد أستغني بأشعارهم عن ذكرهم. وقد ورد من خبر عبد الله ابن عتبة بن مسعود، ومن شعره ما فيه الكفاية، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة وقد جاء من فتيا يقصد إفتاء ابن عباس رضي الله عنه ما لا يحتاج معه إلى غيره حين يقول: “هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود”.
ويستدل الإمام ابن حزم على موقفه من الحب بما رواه بسنده في موضع آخر من كتابه طوق الحمامة من أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: “يا أمير المؤمنين، إني رأيت امرأة فعشقتها، فقال عمر: ذاك مما لا يملك”.
ومن الواضح أن الأمام ابن حزم تعامل مع موضوع الحب كبديهة لا تحتاج إلى جدل كبير، ولذلك لم يهتم بحشد أكبر قدر من النصوص للدفاع عنه والاستدلال عليه وإباحته.
ونحن لا نتفق مع الذين ذهبوا إلى اتهام الإمام ابن حزم بانتهاك أحكام الدين بسبب ما أورده عن أفعال العشاق في كتابه طوق الحمامة؛ لأنه كما نعلم من قواعد الدين أن ناقل الكفر ليس بكافر. والإمام ابن حزم كتب هذا الكتاب بروح المفكر والأديب، كما كتبه بروح الفقه. والصفتان الأوليان تقتضيان عليه استقصاء الأمور في كل ما يتعلق بالعشق، أو ما يشتبه به من أمور أخرى، سواء كان هذا عفافًا أم فجورًا أم ضلالاً، وهذا ما فعله الإمام ابن حزم دون أن يعني ذلك موافقته على الأمور الخارجة عن أحكام الدين فيما ذكره، وإن كنا نذهب إلى أن روح التسامح بوجه عام كانت غالبة على الإمام ابن حزم في نظرته إلى الأحكام المتعلقة بالعشق، ونستشف ذلك بوجه خاص في موقفه المتشدد من الوشاة. ولكن على التوازي مع ذلك التسامح فقد شدد الإمام ابن حزم على إظهار فضل العفاف والتشنيع من جريمة الزنى، فوازن بذلك بين التسامح مع العشق كحالة خاصة ترتبط أساسًا بالعاطفة القلبية، وبين التشدد على ابتغاء الشهوات والسقوط في الفجور.
جـ – موقف الإمام ابن الجوزي من الحب:

يقول الإمام ابن الجوزي في كتابه “ذم الهوى”: “اختلف الناس في العشق هل هو ممدوح أو مذموم؟ فقال قوم هو ممدوح؛ لأنه لا يكون إلا من لطافة الطبع، ورِقَّة عند جامد الطبع حبيسة، ومن لم يجد منه شيئا فذلك من غلظ طبعه. فهو يجلو العقول ويصفي الأذهان ما لم يفرط فإذا أفرط عاد سُمًّا قاتلاً. وقال آخرون بل هو مذموم لأنه يستأثر العاشق ويجعله في مقام المستعبد.
قلت وفصل الحكم في هذا الفصل أن نقول: أما المحبة والود والميل إلى الأشياء المستحسنة والملائمة فلا ينعم ولا يدعم ذلك إلا الحبيس من الأشخاص.
فأما العشق الذي يزيد على حد الميل والمحبة؛ فيملك العقل، ويصرف صاحبه على غير مقتضى الحكمة فذلك مذموم ويتحاشى من مثله الحكماء. وأما القسم الأول فقد وقع فيه خلق كثير من الأكابر ولم يكن عيبًا في حقهم.
إذ أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فأنت وعيرٌ بالفلاة سواء

وقد روى أبو عبد الله المرزباني أن أبا نوفل سُئل عن خلوِّ أحد من العشق؛ فقال: نعم، الجلف الجافي الذي ليس فيه فضل، وليس عنده فهم. وأما من في طبعه أدنى ظرف، أو معه دماثة أهل الحجاز، ورقة أهل العراق فهيهات.
قال اليمان بن عمرو مولى ذي الرياستين: كان ذو الرياستين يبعثني، وبعث أحداث أهله إلى شيخ بخراسان له أدب وحسن معرفة بالأمور، وكان يقول لنا تعلموا منه الحكمة فإنه حكيم. فكنا نأتيه. فإذا انصرفنا من عنده سألنا ذا الرياستين، واعترض ما حفظناه فيخبرونه. فقصدنا ذات يوم إلى الشيخ فقال: أنتم أدباء، وقد سمعتم، ولكم جدات ونعم، فهل فيكم عاشق؟ فقلنا: لا. فقال: اعشقوا؛ فإن العشق يطلق اللسان العي، ويفتح حيلة البليد والمختل، ويبعث على التنظيف وتحسين اللباس وتطبيب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء وتشرف الهمة، وإياكم والحرام. فانصرفنا من عنده إلى ذي الرياستين فسألنا عما أخذنا في يومنا ذلك؛ فهبناه أن نخبره؛ فعزم علينا؛ فقلنا إنه أمرنا بكذا وكذا، قال صدق الله أخذ هذه؟ فقلنا لا.
وأما القسم الثاني من العشق فمذموم لا شك فيه. وبيان ذلك أن الشيء إنما يُعرف ممدوحا أو مذموما بتأمل ذاته وفائدته في العشق للنفس الناطقة، وإنما هو أثر غلبة النفس الشهوانية؛ لأنها لما قويت أحبت ما يليق بها.
د – موقف الإمام ابن القيم من الحب:

يقول الإمام ابن القيم في كتابه “روضة المحبين ونزهة المشتاقين”: “اختلف الناس في العشق: هل هو اختياري أو اضطراري خارج عن مقدور البشر؟ وفصل النزاع بين الفريقين أن مبادئ العشق وأسبابه اختيارية داخلة تحت التكليف (أي أن الأسباب الأولى للعشق اختيارية). فإن النظر والتفكر والتعرض للمحبة أمر اختياري فإذا أُتي بالأسباب كان ترتب المسبب عليها بغير اختياره (أي أن النتيجة المترتبة على هذه الأسباب من وقوع المحبة غير اختيارية). ولهذا؛ إذا حصل العشق بسبب غير محظور لم يُلَم عليه صاحبه (أي أنه لو كانت الأسباب الأولى للعشق مباحة فإن وقع العشق بعد ذلك لا يُلام عليه صاحبه) كمن كان يعشق امرأته أو جاريته. ويُقاس على نفس الأمر من خطب امرأة أو أراد خطبتها ونظر منها ما يشجعه على خطبتها كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم فارقها وبقي عشقها غير مفارق له فهذا لا يُلام على ذلك كما في قصة بريرة ومغيث. وكذلك إذا نظر نظرة فاجأته (أي النظرة الأولى) ثم صرف بصره وقد تمكن العشق من قلبه بغير اختياره. ومن الواضح أن عليه مدافعته وصرفه عن قلبه بضده، فإذا جاء أمر يغلبه فهناك لا يلام بعد بذل الجهد في دفعه”.
ويقول في موضع آخر: “العشق لا يُحمد مطلقًا ولا يُذم مطلقًا، وإنما يحمد ويذم باعتبار متعلقه؛ فإن الإرادة تابعة لمرادها، والحب تابع للمحبوب. فمتى كان المحبوب مما يُحبُّ لذاته، أو وسيلة توصله إلى ما يُحبُّ لذاته، لم تذم المبالغة في محبته، بل وتُحمد. وصلاح حال المحب كذلك بحسب قوة محبته.
والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقًا ممدوحًا مثابًا عليه. وذلك أنواع أحدها محبة القرآن، وكذلك محبة ذكره سبحانه وتعالى، وكذلك عشق العلم النافع، وعشق أوصاف الكمال من الكرم والجود والعفة والشجاعة والصبر وسائر مكارم الأخلاق.
بقيت هاهنا أوصاف قسم آخر وهو عشق محمود يترتب عليه مفارقة المعشوق؛ كمن يعشق امرأته أو أمته فيفارقها بموت أو غيره، فيذهب المعشوق ويبقى العشق كما هو، فهذا نوع من الابتلاء؛ إن صبر صاحبه واحتسب نال ثواب الصابرين، وإن سخط وجزع فاته معشوقه كما فاته ثوابه. وإن قابل هذا البلوى بالرضا والتسليم فدرجته فوق درجة الصبر.
تعليق على موقف الإمام ابن القيم من الحب :

من يتابع الإمام ابن القيم في كتبه يجد أنه قد اهتم بالحب اهتمامًا عظيمًا حتى إنك لا تكاد تجد له كتابًا من كتبه الشهيرة إلا وقد تناول فيه هذا الموضوع، ومنها: “زاد المعاد“، و”إغاثة اللهفان”، و”الداء والدواء”، و”أخبار النساء”، حتى توج ذلك بأن أفرد لهذا الموضوع مجلدًا كبيرًا هو كتابه: “نزهة المشتاقين وروضة المحبين”. ومع أن ابن القيم يدافع عن الحب دفاعًا عظيمًا، إلا أن البعض يجدون في كتبه أيضًا مادة عظيمة يستندون عليها في اتهاماتهم للعشاق بأشنع التهم التي قد تصل إلى حد الكفر.
ومرد ذلك هو تعميمهم ما خص به الإمام ابن القيم أنواعًا معينة من العشق بهذا الهجوم الشديد. فالعشق كما يقول الإمام ابن القيم لا يُمدح مطلقًا ولا يُذم مطلقًا، وإنما هو بحسب متعلقه من حيث الحل والحرمة. فإذا هاجم ابن القيم الأقسام المذمومة في العشق أخذوا هجومه الضاري هذا وهاجموا به الحب بوجه عام.
وإذا تحدثنا عما جاء في كتبه من آراء في هذا الموضوع قلنا إنه في كتابه “زاد المعاد” أدرج الموضوع في باب الأمراض، ومن ثم فقد تناوله من ذلك الجانب من حيث التحذير من المخاطر التي تنجم عنه، وكذلك من حيث محاولة علاجه أو التخفيف من آثاره.
أما في كتابه “إغاثة اللهفان” فقد شن هجومه الضاري على العشق، ولكن مع ذلك فقد كان الواضح لمن يبحث عن الحقائق في تناول الأمور أن هجومه هذا انصب على مدى شناعة الأمور التي عناها بهذا الهجوم، وهي كما أوردها:
أ – شيوع ذلك الفعل الشنيع من عشق المردان (الصبيان)، ومحاولة البعض التحايل على الشريعة؛ وادعاء إباحته. وقد أكد الإمام ابن القيم على أن الفعل نفسه من أكبر الفواحش، أما ادعاء إباحته فهو كفر صريح.
ب – أن يكون متعلق العاشق من المعشوق هو فعل الفاحشة فيه. وفي الحقيقة فإن هذا النوع من العشق لا علاقة له بالموضوع الذي نتناوله في هذا الكتاب؛ لأن به هذا التعلق الحسي والجرأة على فعل الفاحشة لا يحتاج إلى أن يُفرَد له كتاب.
جـ – أن يتحول الأمر إلى عبودية إلى الدرجة التي يصرخ فيها العاشق لمن يعشقه أني أعبدك، وهذا أمر تالله عظيم، ويخرج بالإنسان من دائرة الإيمان والتوحيد إلى دائرة الكفر والشرك.
محمد إبراهيم مبروك ( 14/09/2002 )

[1] الأهمية الشديدة التي يقصدها الكاتب هنا تتمثل في أن النبي صلى الله عليه وسلم روى هذه الرواية بتفاصيلها دون أن يهاجم حالة الحب نفسها، بل كان التركيز فقط على رفض الفاحشة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.34 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.71 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.78%)]