عرض مشاركة واحدة
  #21  
قديم 03-04-2024, 03:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,671
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة

الدرس الحادي والعشرون: عقوبات أكل الميراث

السيد مراد سلامة

الحمد لله لم يزل عليًّا، ولم يزل في علاه سميًّا، قطرة من بحر جوده تملأ الأرض ريًّا، نظرة من عين رضاه تجعل الكافر وليًّا، الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًّا، والنار لمن عصاه ولو شريفًا قرشيًّا، أنزل على نبيه ومصطفاه قولًا بهيًّا، ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 63].

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثاتها بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

اللهم لا تعذِّب جمعًا التقى فيك ولك، ولا تعذب ألسنًا تُخبر عنك، ولا تعذب قلوبًا تشتاق إلى لذة النظر إلى وجهك الكريم.

أمة الإسلام، إن الأمر ليس باليسير، فبعض الناس يظنه هينًا وهو عند الله تعالى عسير، فيا آكِلَ الميراث، اسمع إن كان لك قلب تلك العقوبات التي توعَّدك بها ربُّ الأرض والسماوات.

أولًا: أنه متعدٍّ لحدود الله:
اعلم - هداني الله تعالى وإياك - أن أكلك للميراث فيه تعدٍّ لحدود الله تعالى، وانتهاك لحرماته فالله سبحانه بعد أن بين الأنصبة؛ قال: ﴿ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ﴾، ولا تُجاوزوها، ولهذا قال: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾؛ أي: فيها، فلم يزِد بعض الورثة، ولَم ينقص بعضًا بحيلة ووسيلة، بل ترَكهم على حُكم الله وفريضته وقِسمته، ﴿ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 13، 14]؛ أي: لكونه غيَّر ما حكَم الله به، وضادَّ الله في حُكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسَم الله وحَكَم به، ولهذا يُجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المُقيم.

ولا شك أن من منع امرأة - أختًا كانت، أم أمًّا، أم جدة أم زوجة - ميراثها، فقد ‏تعدى حدود الله، وتعرَّض لعقوبته، والله قد قسَّم الميراث قسمة عدلٍ لا جور فيها ولا ‏حيف؛ أخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوْصَى حافَ في وصيَّته، فيُختم له بشرِّ عمله، فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيَعدل في وصيَّته، فيُختم له بخير عمله، فيدخل الجنة))، قال: ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ﴾ إلى قوله: ﴿ عَذَابٌ مُهِينٌ[1].

ثانيًا: أنه آكل حق الضعيفين:
ونقولُ لهؤلاء الذين فرَّقوا دينهم، وطبَّقوا آية وعطَّلوا أخرى، وصلَّوا ثم ظلموا، وزكَّوا ثم بَخِلوا، وصاموا ثم تركوا، وحجُّوا ثم ختموا حياتَهم بحجة إلى الشيطان: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ)[2].

ثالثًا: أنه قاطع لأرحامه:
فالله تعالى يجازي أهل الصلة بالصلة في الدنيا والآخرة، ويجازي أهل القطيعة بالقطية في الدنيا والآخرة، والجزاء من جنس العمل؛ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا من ذَنْب أَجْدَر أَن يعجل لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخرة مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْبَغْيِ"[3].

يعني: أنه تحصُل له عقوبة في الدنيا والآخرة، فيجمع له بين العقوبة الدنيوية والأخروية؛ حيث يجعل له الله العقوبة في الدنيا مع ما يدَّخر له في الآخرة، فيجمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، والضرر الذي يحصل في الدنيا، والضرر الذي يحصل في الآخرة، وهذا يدل على عِظم وخطورة شأن البغي وقطيعة الرحم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن صاحبهما جدير بأن يحصل له هذا وهذا، وأن يجمع له بين هذا وهذا، وهذا يدل على خطورة أمر البغي وقطيعة الرحم.

الحجب والحرمان من دخول الجنان:
فالجنة هي صلة الله التي جعلها لأهل كرامته ولأهل طاعته، فإذا قطَع المسلم رحمه حجبه الله من جنته؛ عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ»؛ يعني قاطع رحم (مسلم)، ولفظ أبي داود: ((لا يدخل الجنة قاطعُ رحمٍ)[4].

وفي معنى هذا الحديث قولان:
أنه لا يدخلها من أول وهلة؛ أي: إنه يتأخر في دخول الجنة، وأنه يدخل النار ويعذَّب بها، ولكنه إذا دخل النار لا يستمر فيها أبدًا، بل لابد أن يخرج منها، وأن يدخل الجنة ما دام أنه مرتكبٌ لكبيرة فقط، ولا يُمنع من دخول الجنة أبدًا إلا الكفار الذين هم أهل النار، فلا سبيل لهم إلى الخروج منها أبدًا.

أنه لا يدخلها أبدًا إذا كان مستحلًّا؛ لأن استحلال الذنب كفرٌ، فيكون ذلك مانعًا من دخول الجنة أبدًا؛ لأنه يكون بذلك كافرًا، والكافر لا يخرج من النار ولا يدخل الجنة أبدًا.

صلة الله للواصل وقطعه للقاطع والطرد من رحمته:
عَنْ أبِي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِن الرَّحِمَ شُجْنة من الرَّحْمَنِ، فقال الله: من وَصَلكِ وصلتُه، ومن قَطَعَكِ قطعتُه»، وفي رواية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن اللهَ خَلَقَ الخلق، حتى إِذا فَرَغَ منهم قامَتِ الرَّحِمُ، فأخذت بحَقْوِ الرحمن، فقال: مَهْ؟ قالت: هذا مقامُ العائِذ [بكَ] من القطيعة، قال: نعم، أَمَا تَرضينَ أن أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وأقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قالت: بلى، قال: فذلك لكِ، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إِن شئتم: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرضِ وَتُقَطِّعُوا أرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذينَ لَعَنَهُمُ اللهُ، فَأصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ، أَمْ على قُلُوب أقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 23، 24]»[5].

فهذا وعد من الله تبارك وتعالى أنه يصل مَن وصل الرحم، فيجب على الإنسان أن يصل أقرباءه كأبيه وعمه وخاله وأخته وعمته وخالته وأبناء أخواته وأبنائه، ولا يقطع رحمه، فالإنسان الذي يرتكب الذنوب والمعاصي، ولكنه يصل رحمه، فإن الله تعالى قد يغفر له؛ لأن صلة الرحم عظيمة جدًّا؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد:22 -23].

فالذين أفسدوا في الأرض وقطعوا أرحامهم، أصمَّ الله عز وجل آذانهم وأعمى أبصارهم.

رابعًا: الإفلاس يوم القيامة:
يا آكلًا للميراث، لا تظُنَّ أن ذلك فيه الغنى، كلا بل فيه الإفلاس، ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].

توهَّم نفسك وقد بُعثر ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور، وقد أُوتيتَ بصلاة وزكاة وصوم وحج، ولكنك قد أكلت المواريث، انظر إلى نفسك في عرصات يوم القيامة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار، قال: المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال، فيأتي وقد شتم هذا، وأخذ مال هذا وسفك دم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، فيقتص هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنِيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طرح في النار"[6].

خامسًا: الإثم الكبير:
اعلم علَّمني الله وإياك: أن التعدي على المواريث جُرمٌ عظيم وإثم مبين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 2].

والمعنى: إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثمٌ عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه.

سادسًا: أكلة الميراث أكلة النار:
أيها الأحباب، الذين يأكلون الميراث هم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10].

إن اليتامى مَظنة أن يُبخسوا في الميراث، فأكل مالهم هنا ظلمًا هو بخسُهم حظَّهم في الميراث، أو أكل الأوصياء أموالهم والأخذ من مال اليتيم، سماه الله تعالى أكلًا؛ لما فيه من معنى الأخذ، وأن يَقصِد به تنميةَ ماله كما ينمِّي جسمه بالأكل، ولكنها تنمية آثمة مالها البوار، "ومن نبت لحمه من حرام فالنار أَولى به"، وقال سبحانه: (ظُلْمًا) لكمال التشنيع على الأكل؛ إذ هم يظلمون ضعيفًا لا يقوى على الانتصاف منهم، وقد ذكر سبحانه إثم ذلك الأكل بقوله: ﴿ إِنَّمَا يَأْكلُونَ في بُطُونِهِمْ ﴾، وهذا تصويرٌ لضرر الأكل عليهم؛ لأنه يكون أكلهم كمن يأكل النار ويضعها في بطنه؛ أي: يملأ بطنه بها، فهو في ألَمٍ دائم حتى يهلك، وكذلك دائمًا من يأكلون أموال اليتامى لَا يأكلون أكلًا هنيئًا ولا مريئًا، بل هم في وسواس دائم حتى يقضى الله عليهم، وقد رأينا بيوتًا خرِبت؛ لأنها أكلت مال اليتيم، وهذا عقابهم في حاضرهم، أما العقاب الذي ينتظرهم في الآخرة، فقال: ﴿ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾؛ أي ستوقد بهم نار شديدة الأوار، يستمرون في بلاء شديد منها.

قال القاسمي رحمه الله: ما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته تعالى، وكثرة عفوه وفضله؛ لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى، بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى.

سابعًا: الفضيحة يوم القيامة:
ألا فلتعلم أن ما أكلتَ من حق أختك - من مال وعقار - ستُطوقه يومَ القيامة بإذن الله، لو ظلمتها جنيهًا سيأتي عليك نارًا، ولو ظلمتها شبرًا من أرضِ، فسيأتي حول عنقك يومَ القيامة نارًا من سبع أرضين، قال الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الأرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"[7].

وهذا الحديثُ له قصةٌ عجيبة في صحيح مسلم، وذلك أَنَّ أَرْوَى بِنْتَ أُوَيْسٍ ادَّعَتْ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهَا فَخَاصَمَتْهُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالَ سَعِيدٌ - وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة -: أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الأرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ"، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا! فَقَالَ سَعِيدُ بْن زَيْدٍ ـ رضي الله عنه ـ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً؛ فَعَمِّ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا! قال بعض الرواة: فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، ثُمَّ بَيْنَا هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ)[8]؛ أخرجه مسلم.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "َخَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ نَهْبُ مُؤْمِنٍ، أَوْ الْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، أَوْ يَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ"[9].

ثامنًا: أن أكل الميراث يدخل في السبع الموبقات:
قال - صلى الله عليه وسلم -: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ"!، "قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ)[10].

روائع من تاريخ المرأة المسلمة:
ونختم خطبتنا بروائع من تاريخ أمتنا تبيِّن العدل وتُبرز الخوف من الله تعالى، وهذه القصص هي لنسوة عرفنَ الله تعالى وقالوا: ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].

القصة الأولى: استَمِع لهذه القصة، ومُلَخَّصها أنَّ رجلًا كان ببغداد يعمل بزَّازًا - يَبيع البزَّ؛ أي: الثياب؛ يعني: قمَّاش - له ثروة، فبينا هو في حانوته، أقْبَلَت إليه صبيَّة، فالْتَمَست منه شيئًا تَشتريه، فبينما هي تُحادثه، كشَفَت وجهها في خلال ذلك، فتحيَّر، وقال: قد والله تحيَّرت مما رأيت، فقالت: ما جِئْت لأشتري شيئًا، إنما لي أيَّام أتردَّد إلى السوق؛ ليقع بقلبي رجلٌ أتزوَّجه، وقد وقَعْت أنت بقلبي ولي مالٌ، فهل لكَ في التزوُّج بي؟ فقال لها: لي ابنة عم وهي زوجتي وقد عاهَدتها ألاَّ أُغَيِّرها، ولي منها ولد، فقالت: قد رَضِيت أن تَجِئ إليّ في الأسبوع نوبتين، فرَضِي، وقام معها فعَقَد العقد، ومضى إلى منزلها، فدخَل بها، ثم ذهب إلى منزله، فقال لزوجته: إنَّ بعض أصدقائي قد سألني أن أكون الليلة عنده، ومضى فبات عندها، وكان يمضي كلَّ يوم بعد الظهر إليها، فبَقِي على هذا ثمانية أشهر، فأنْكَرَت ابنه عمه أحوالَه، فقالت لجارية لها: إذا خرَج، فانظري أين يمضي؟ فتَبِعتْه الجارية وهو لا يدري، إلى أن دخل بيت تلك المرأة، فجاءَت الجارية إلى الجيران، فسألتْهم: لِمَن هذه الدار؟ فقالوا لصبيَّة قد تزوَّجت برجلٍ تاجر بزَّاز، فعادَت إلى سيدتها، فأَخْبَرَتْها فقالت لها: إيَّاكِ أن يعلمَ بهذا أحد، ولَم تُظهر لزوجها شيئًا، فأقام الرجل تمام السنة، ثم مَرِض ومات، وخلَّف ثمانية آلاف دينار، فعَمدت المرأة التي هي ابنة عمه إلى ما يستحقُّه الولد من التركة - وهو سبعة آلاف دينار - فأفْرَدَتْها، وقَسَمت الألف الباقية نصفين، وتَرَكت النصف في كيس، وقالت للجارية: خذي هذا الكيس واذْهَبي إلى بيت المرأة، وأعْلِميها أنَّ الرجل مات وقد خلَّف ثمانية آلاف دينار، وقد أخَذ الابن سبعة آلاف بحقِّه، وبَقِيَتْ ألف، فقَسَمتُها بيني وبينك، وهذا حقُّك، وسَلِّميه إليها، فمَضَت الجارية، فطَرَقت عليها الباب ودخَلت، وأَخْبَرَتها خبرَ الرجل، وحَدَّثتها بموته، وأَعْلَمتها الحال، فبَكَت وفتَحَت صندوقها، وأخْرَجَت منه رقعة، وقالت للجارية: عودي إلى سيِّدتك، وسَلِّمي عليها عني، وأَعْلميها أنَّ الرجل طَلَّقني، وكتَب لي براءة، ورُدِّي عليها هذا المال؛ فإني ما أستحقُّ في تَرِكته شيئًا، فرَجَعت الجارية، فأَخْبَرَتها بهذا الحديث[11].

القصة الثانية: ومن ورع نساء السلف ما حكاه الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: أن امرأة من الصالحات كانت تعجن عجينة، فبلغها - وهي تعجن - موت زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء[12]؛ أي: إن مال الرجل إذا توفِّي انتقل وصار ملكًا لورثته الشرعيين، فلم يُصبح لها وحدها، فلذلك رفَعت يدها من العجين، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء.

القصة الثالثة: وأخرى كانت تستصبح بمصباح - يعني: بالزيت أو شيء من هذا - فجاءها خبرُ زوجها، فأطفأت المصباح، وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء[13]؛ يعني: ما يجوز لها أن تستقل بالانتفاع به.

فيا ويل من يأكلون أموال الميراث! وينفقون أموال الطفل اليتيم في السرادقات والتفاخر، وهم لا يخافون الله سبحانه وتعالى من أكل أموال اليتامى ظلمًا، ويتلفون أموالهم في أشياء حرَّم الله أن تنفق فيها كالمباهاة والفخر.

[1] أخرجه أحمد (2 /278، رقم 7728)، وابن ماجه (2 /902، رقم 2704) (ضعيف) انظر حديث رقم: 1458 في ضعيف الجامع.

[2] أخرجه ابن ماجه (2 /1213، رقم 3678)، قال البوصيري (4 /103): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. والحاكم "الصحيحة" برقم (1015).

[3] أخرجه أحمد (5 /36) والبخاري في الأدب المفرد (29)، وأبو داود (4902)، وابن ماجه (4211) والترمذي (2511) الصحيحة 915، 978.

[4] رواه البخاري 10 / 347 في الأدب، باب إثم القاطع، ومسلم رقم (2556) في البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، وأبو داود رقم (1696) في الزكاة، باب صلة الرحم.

[5] أخرجه أحمد (2 /330، رقم 8349)، والبخاري (5 /2232، رقم 5641) ، ومسلم (4 /1980، رقم 2554).

[6] أخرجه أحمد (1 /38) (3626) والبخاري في الأدب المفرد (154 و155). ومسلم (8 /30).

[7] أخرجه أحمد (6 /64، رقم 24398)، والبخاري (3 /1167، رقم 3023)، ومسلم (3 /1231، رقم 1612).

[8] أخرجه أحمد 1 /188(1633) والبخاري" 4/130 (3198) و"مسلم" 5/58 (4141).

[9] أخرجه أحمد (2 /361 رقم 8722) صحيح الترغيب والترهيب (2/ 59) (حسن لغيره).

[10] أخرجه البخاري (3 /1017، رقم 2615)، ومسلم (1 /92، رقم 89).

[11] صفة الصفوة (2/ 533).

[12] صفة الصفوة (4/ 439).

[13] صفة الصفوة (4/ 440).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.10 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.98%)]