بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (348)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 43 إلى صـ 50
[ ص: 43 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا يلزم الحنفية احتجاج الشافعية المذكور عليهم ; لأنهم يقولون : نعم نحن لا نعتبر مفهوم المخالفة ، ولكن نرى أن قوله : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ليس فيه تعرض لحكم الحالق لغير عذر ، لا بنفي الفدية المذكورة ، ولا بإثباتها ، وقد ظهر لنا من دليل آخر خارج عن الآية : أنه يلزمه دم ، ا هـ .
ولا خلاف بين أهل العلم أن صيام الفدية له أن يصومه حيث شاء ، والأظهر عندي في النسك ، والصدقة أيضا أن له أن يفعلهما حيث شاء ; لأن فدية الأذى أشبه بالكفارة منها بالهدي ، ولأن الله لم يذكر للفدية محلا معينا ، ولم يذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماها نسكا ولم يسمها هديا ، والظاهر أنه لا مانع من أن ينوي بالنسك المذكور الهدي ، فيجري على حكم الهدي ، فلا يصح في غير الحرم ، إلا أنه لا يجوز له الأكل منه ; لأنه في حكم الكفارة ، كما قاله علماء المالكية . وعند الحنفية ، ومن وافقهم يختص النسك المذكور بالحرم . والعلم عند الله تعالى .
أما إذا كان الذي حلقه بعض شعر رأسه لا جميعه ، أو كان شعر جسده أو بعضه ، لا شعر الرأس ، فليس في ذلك نص صريح من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ; لأن الله جل وعلا إنما ذكر في آية الفدية : حلق الرأس ، وظاهرها حلق جميعه لا بعضه ، والعلماء مختلفون في ذلك ولم يظهر لنا في مستندات أقوالهم ما فيه مقنع يجب الرجوع إليه ، والعلم عند الله تعالى .
فذهب مالك - رحمه الله - وأصحابه إلى أن ضابط ما تلزم به فدية الأذى من الحلق هو حصول أحد أمرين :
أحدهما : أن يحصل له بذلك ترفه .
والثاني : أن يزيل عنه به أذى . أما حلق القليل من شعر رأسه ، أو غيره مما لا يحصل به ترفه ، ولا إماطة أذى ، فيلزم فيه التصدق بحفنة : وهي يد واحدة ، وكذلك عندهم الظفر الواحد لا لإماطة أذى ، وقتل القملة أو القملات .
وقال ابن القاسم في المدونة : ما سمعت بحد فيما دون إماطة الأذى أكثر من حفنة من شيء من الأشياء ، وقد قال في قملة أو قملات : حفنة من طعام ، والحفنة بيد واحدة . انتهى بواسطة نقل المواق في شرحه لقول خليل في مختصره ، وفي الظفر الواحد ، لا لإماطة الأذى حفنة ، ا هـ .
[ ص: 44 ] وذهب الشافعي وأصحابه : إلى أن حلق ثلاث شعرات فصاعدا تلزم فيه فدية الأذى كاملة ، واحتجوا بأن الثلاث : يقع عليها اسم الجمع المطلق ، فكان حلقها كحلق الجميع ، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد ، وقال القاضي : إنها المذهب ، وبذلك قال الحسن ، وعطاء ، وابن عيينة ، وأبو ثور ، كما نقله عنهم صاحب المغني . أما حلق الشعرة الواحدة ، أو الشعرتين فللشافعية فيه أربعة أقوال :
الأول : وهو أصحها عند محققيهم ، وهو نص الشافعي في أكثر كتبه : أنه يجب في الشعرة الواحدة مد وفي الشعرتين مدان .
الثاني : يجب في شعرة واحدة درهم ، وفي شعرتين درهمان .
الثالث : يجب في شعرة ثلث دم وفي شعرتين ثلثاه .
الرابع : أن في الشعرة الواحدة دما كاملا . ومذهب الإمام أحمد : وجوب الفدية كاملة في أربع شعرات فصاعدا ، وهذه الرواية اقتصر عليها الخرقي ، وقد قدمنا قريبا الرواية عنه بوجوب الفدية بثلاث شعرات فصاعدا . أما ما هو أقل من القدر الذي يوجب الفدية ، وهو ثلاث شعرات ، أو شعرتان بحسب الروايتين المذكورتين ففي الشعرة الواحدة : مد من طعام ، وفي الشعرتين : مدان ، وعنه أيضا في كل شعرة : قبضة من طعام ، وروي نحوه عن عطاء .
وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن حلق ربع رأسه ، أو ربع لحيته ، أو حلق عضوا كاملا كرقبته ، أو عانته أو أحد إبطيه ، ونحو ذلك : لزمته فدية الأذى ، إن كان ذلك لعذر ، وإن كان لغير عذر : لزمه دم ، ويلزم عنده في حلق أقل مما ذكر كحلق أقل من ربع الرأس ، أو ربع اللحية ، أو أقل من عضو كامل صدقة ، والصدقة عندهم : نصف صاع من بر ، أو صاع من غيره .
وروي عن أبي حنيفة وأصحابه : أن في كل شعرة قبضة من طعام كما ذكره عنهم صاحب المغني .
وأما حلق شعر البدن غير الرأس ، فقد علمت مما ذكرنا آنفا أن مذهب أبي حنيفة فيه : أنه إن حلق عضوا كاملا ففيه الفدية أو الدم ، وإن حلق أقل من عضو ، ففيه الصدقة ، وأن حكم اللحية عنده كحكم الرأس ، وحلق الربع فيهما كحلق الجميع .
ومذهب الشافعي أن حلق شعر الجسد غير الرأس كحكم حلق الرأس ، فتلزم الفدية [ ص: 45 ] في ثلاث شعرات فصاعدا ، سواء كانت من شعر الرأس أو غيره من الجسد ، وفي الشعرة ، أو الشعرتين من الجسد عندهم الأقوال الأربعة المتقدمة ، وإن حلق شعر رأسه وشعر بدنه معا ، لزمه عند الشافعي ، وأصحابه : فدية واحدة ، خلافا لأبي القاسم الأنماطي القائل : يلزمه فديتان ، محتجا بأن شعر الرأس مخالف لشعر البدن ; لأن النسك يتعلق بشعر الرأس ، فيلزم حلقه ، أو تقصيره بخلاف شعر البدن .
واحتج الشافعية بأنهما وإن اختلف حكمهما في النسك فهما جنس واحد : فأجزأت لهما فدية واحدة .
ومذهب الإمام أحمد في هذه المسألة كمذهب الشافعي فشعر الرأس وشعر البدن حكمهما عنده سواء . وإن حلق شعر رأسه وبدنه : فعليه فدية واحدة ، وعنه رواية أخرى : أنه يلزمه دمان ، إذا حلق من كل من الرأس ، والجسد ما تجب به الفدية منفردا عن الآخر كقول الأنماطي المتقدم .
قال في " المغني " : وهو الذي ذكره القاضي ، وابن عقيل ; لأن الرأس يخالف البدن ، بحصول التحلل به دون البدن ، ولنا أن الشعر كله جنس واحد في البدن ، فلم تتعدد الفدية فيه باختلاف مواضعه كسائر البدن ، وكاللباس ، ودعوى الاختلاف تبطل باللباس فإنه يجب كشف الرأس ، دون غيره ، والجزاء في اللبس فيهما واحد .
وقال ابن قدامة في " المغني " أيضا : وإن حلق من رأسه شعرتين ، ومن بدنه شعرتين فعليه دم واحد ، هذا ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي الخطاب ، ومذهب أكثر الفقهاء . ومذهب مالك في هذه المسألة : أن شعر البدن كشعر الرأس ، فإن حلق من شعر بدنه ما فيه ترفه ، أو إماطة أذى : لزمته الفدية ، وإلا فالتصدق بحفنة بيد واحدة .
وسئل مالك : عن المحرم يتوضأ فيمر يديه على وجهه ، أو يخلل لحيته في الوضوء ، أو يدخل يده في أنفه لمخاط ينزعه ، أو يمسح رأسه ، أو يركب دابته ، فيحلق ساقه الإكاف أو السرج ؟ قال مالك : ليس عليه في ذلك كله شيء ، وهذا خفيف ، ولا بد للناس منه . انتهى بواسطة نقل الحطاب في كلامه على قول خليل : وتساقط شعر لوضوء أو ركوب ، ا هـ .
وإذا علمت أقوال الأئمة رحمهم الله في شعر الجسد . فاعلم أني لا أعلم لشيء منها مستندا من نص كتاب ، أو سنة .
[ ص: 46 ] والأظهر أنهم قاسوا شعر الجسد على شعر الرأس ، بجامع أن الكل قد يحصل بحلقه الترفه ، والتنظف ، والظاهر أن اجتهادهم في حلق بعض شعر الرأس يشبه بعض أنواع تحقيق المناط ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الرابع عشر في حكم قص المحرم أظافره أو بعضها
وقد اختلف أهل العلم في ذلك ، فالصحيح من مذهب مالك : أنه إن قلم ظفرين فصاعدا : لزمته الفدية مطلقا ، وإن قلم ظفرا واحدا ، لإماطة أذى عنه : لزمته الفدية أيضا ، وإن قلمه لا لإماطة أذى : لزمه إطعام حفنة بيد واحدة .
قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره : وفي الظفر الواحد لا لإماطة الأذى حفنة ، ما نصه : أما لو قلم ظفرين فلم أر في ابن عبد السلام والتوضيح ، وابن فرحون في شرحه ، لا ومناسكه وابن عرفة ، والتادلي ، والطراز وغيرهم خلافا في لزوم الفدية ، ولم يفصلوا كما فصلوا في الظفر الواحد ، والله أعلم . انتهى منه .
ولا ينبغي أن يختلف في أن الظفر إذا انكسر جاز أخذه ، ولا شيء فيه ; لأنه بعد الكسر لا ينمو فهو كحطب شجر الحرم . والله أعلم .
ومذهب الشافعي وأصحابه : أن حكم الأظفار كحكم الشعر ، فإن قلم ثلاثة أظفار فصاعدا ، فعليه الفدية كاملة ، وأظفار اليد والرجل في ذلك سواء ، وإن قلم ظفرا واحدا أو ظفرين ففيه الأقوال الأربعة فيمن حلق شعرة واحدة أو شعرتين ، وقد قدمنا أن أصحها عندهم أن في الشعرة مدا ، وفي الشعرتين : مدين ، وباقي الأقوال المذكورة موضح قريبا ومذهب الإمام أحمد في الأظفار كمذهبه في الشعر ، ففي أربعة أظفار ، أو ثلاثة على الرواية الأخرى : فدية كاملة ، وحكم الظفر الواحد كحكم الشعرة الواحدة ، وحكم الظفرين كحكم الشعرتين ، وقد تقدم موضحا قريبا .
ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة : أنه لو قص أظفار يديه ورجليه جميعا بمجلس واحد ، أو قص أظفار يد واحدة كاملة في مجلس ، أو رجل كذلك لزمه الدم ، وإن قطع مثلا خمسة أظفار ثلاثة من يد واثنان من رجل ، أو يد أخرى ، أو عكس ذلك : فعليه الصدقة ، وهي نصف صاع من بر عن كل ظفر ، والمعروف عند الحنفية في باب الفدية : أن ما كان لعذر ففيه فدية الأذى المذكورة في الآية ، وما كان لغير عذر ففيه الدم ، كما تقدم . أما لو [ ص: 47 ] قص أظفار إحدى يديه ، أو رجليه في مجلس ، والأخرى في مجلس آخر ، فعند أبي حنيفة ، وأبي يوسف : يتعدد الدم ، حتى إنه يمكن أن تلزمه أربعة دماء للرجلين واليدين ، إذا كانت كل واحدة في مجلس ، وعند محمد : لا يلزمه إلا دم واحد ، ولو تعددت المجالس إلا إذا تخللت الكفارة بينهما ، وقد علمت أنه لو قص أظافر أكثر من خمسة متفرقة من الرجلين واليدين : ليس عليه إلا الصدقة عندهم .
وقال زفر : يجب الدم بقص ثلاثة أظفار من اليد أو من الرجل ، وهو قول أبي حنيفة الأول ، بناء على اعتبار الأكثر ، والثلاثة أكثر من الباقي بعدها بالنسبة إلى الخمسة .
وقال ابن قدامة في " المغني " : قال ابن المنذر : وأجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره ، وعليه الفدية بأخذها في قول أكثرهم ، وهو قول حماد ، ومالك ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي . وروي ذلك عن عطاء ، وعنه لا فدية عليه ; لأن الشرع لم يرد فيه بفدية ، ولم يعتبر ابن المنذر في حكايته الإجماع قول داود الظاهري : إن المحرم له أن يقص أظفاره ، ولا شيء عليه لعدم النص ، وفي اعتبار داود في الإجماع خلاف معروف ، والأظهر عند الأصوليين اعتباره في الإجماع . والله تعالى أعلم .
ثم قال صاحب " المغني " : ولنا أنه أزال ما منع إزالته لأجل الترفه ، فوجبت عليه الفدية كحلق الشعر ، وعدم النص فيه لا يمنع قياسه . كشعر البدن مع شعر الرأس ، والحكم في فدية الأظفار كالحكم في فدية الشعر سواء ، في أربعة منها دم . وعنه في ثلاثة دم ، وفي الظفر الواحد مد من طعام وفي الظفرين : مدان على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف فيه . وقول الشافعي وأبي ثور كذلك انتهى محل الغرض منه .
وإذا عرفت مذاهب الأئمة في حكم قص المحرم أظفاره ، وما يلزمه في ذلك فاعلم أني لا أعلم لأقوالهم مستندا من النصوص ، إلا ما ذكرنا عن ابن المنذر ، من الإجماع على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره ، أما لزوم الفدية ، فلم يدع فيه إجماعا ، وإلا ما جاء عن بعض السلف من الصحابة والتابعين ، من تفسير آية الحج ، فإنه يدل على منع المحرم من أخذ أظفاره كمنعه من حلق شعره حتى يبلغ الهدي محله ، والآية المذكورة هي قوله تعالى : ثم ليقضوا تفثهم الآية [ 22 \ 29 ] .
قال صاحب " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " : وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله : ثم ليقضوا تفثهم قال : " يعني [ ص: 48 ] بالتفث : وضع إحرامهم من حلق الرأس ، ولبس الثياب ، وقص الأظفار ، ونحو ذلك " .
وقال أيضا : وأخرج ابن أبي شيبة ، عن محمد بن كعب قال : التفث : حلق العانة ونتف الإبط ، والأخذ من الشارب ، وتقليم الأظفار ، ا هـ . ونحو هذا كثير في كلام المفسرين وإن فسر بعضهم الآية بغيره .
وعلى التفسير المذكور فالآية تدل على : أن الأظفار كالشعر بالنسبة إلى المحرم ، ولا سيما أنها معطوفة بـ " ثم " على نحر الهدايا ; لأن الله تعالى قال : ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام والمراد بذكر اسمه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام التسمية عند نحر الهدايا والضحايا ، ثم رتب على ذلك قوله : ثم ليقضوا تفثهم فدل على أن الحلق وقص الأظافر ونحو ذلك ينبغي أن يكون بعد النحر كما قال تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] ، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن من حلق قبل أن ينحر لا شيء عليه . كما بيناه موضحا في سورة البقرة في الكلام على قوله : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ، ويؤيد التفسير المذكور الدال على ما ذكرنا كلام أهل اللغة .
قال الجوهري في صحاحه : التفث في المناسك : ما كان من نحو قص الأظفار ، والشارب وحلق الرأس ، والعانة ، ورمي الجمار ، ونحر البدن ، وأشباه ذلك . قال أبو عبيدة : ولم يجئ فيه شعر يحتج به انتهى منه .
قال صاحب " القاموس " : التفث محركة في المناسك : الشعث ، وما كان من نحو قص الأظفار ، والشارب ، وحلق العانة ، وغير ذلك . وككتف الشعث والمغبر ، ا هـ .
وقال صاحب " اللسان " : التفث : نتف الشعر وقص الأظفار ، إلخ .
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره في الكلام على معنى التفث : قال ابن العربي : وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعرا ، ولا أحاطوا بها خبرا ، لكني تتبعت التفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال : إنه قص الأظفار وأخذ الشارب ، وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح ، ولم يجئ فيه شعر يحتج به . وقال صاحب " العين " : التفث : هو الرمي والحلق ، والتقصير ، والذبح ، وقص الأظفار ، والشارب ، والإبط . وذكر الزجاج والفراء نحوه ، ولا أراهم أخذوه إلا من قول العلماء ، وقال قطرب : تفث الرجل : إذا كثر وسخه . قال أمية بن أبي الصلت :
[ ص: 49 ]
حلقوا رءوسهم لم يحلقوا تفثا ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا
وما أشار إليه قطرب هو الذي قاله ابن وهب عن مالك ، وهو الصحيح في التفث ، وهذه صورة إلقاء التفث لغة ، إلى أن قال : قلت : ما حكاه عن قطرب ، وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماوردي ، وذكر بيتا آخر فقال : قضوا تفثا ونحبا ثم ساروا إلى نجد وما انتظروا عليا
وقال الثعلبي : وأصل التفث في اللغة : الوسخ ، تقول العرب للرجل تستقذره : ما أتفثك أي : ما أوسخك وأقذرك .
قال أمية بن أبي الصلت :
ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا وينزعوا عنهم قملا وصئبانا
انتهى من القرطبي .
والظاهر أن قوله : ساخين آباطهم . . البيت ، من قولهم : سخا يسخو سخوا إذا سكن من حركته : يعني : أنهم ساكنون عن الحركة إلى آباطهم بالحلق ، بدليل قوله بعده :
. . . لم يقذفوا تفثا وينزعوا عنهم قملا وصئبانا
الفرع الخامس عشر : قد قدمنا في أول الكلام في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه ، ما يمنع المحرم من لبسه من أنواع الملبوس ، وسنذكر في هذا الفرع ما يلزم في ذلك عند الأئمة .
فذهب الشافعي ، وأصحابه : إلى أنه إن لبس شيئا مما قدمنا أنه لا يجوز لبسه مختارا عامدا ، أثم بذلك ، ولزمته المبادرة إلى إزالته ولزمته الفدية ، سواء قصر زمان اللبس أو طال ، لا فرق عندهم في ذلك ، ولا دليل عندهم للزوم الفدية في ذلك ، إلا القياس على حلق الرأس المنصوص عليه في آية الفدية ، واللبس الحرام الموجب للفدية عندهم محمول على ما يعتاد في كل ملبوس ، فلو التحف بقميص أو قباء ، أو ارتدى بهما ، أو ائتزر سراويل : فلا فدية عليه عندهم ; لأنه ليس لبسا له في العادة ، فهو عندهم كمن لفق إزارا من خرق وطبقتها وخاطها : فلا فدية عليه بلا خلاف ، وكذا لو التحف بقميص أو بعباءة أو إزار ونحوها ولفها عليه طاقا أو طاقين ، أو أكثر فلا فدية ، وسواء فعل ذلك في النوم أو اليقظة ، [ ص: 50 ] قاله النووي ، ثم قال : قال أصحابنا : وله أن يتقلد المصحف وحمائل السيف ، وأن يشد الهميان والمنطقة في وسطه ، ويلبس الخاتم ، ولا خلاف في جواز هذا كله ، وهذا الذي ذكرناه في المنطقة والهميان مذهبنا ، وبه قال العلماء كافة ، إلا ابن عمر في أصح الروايتين عنه فكرههما ، وبه قال نافع مولاه .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ما ذكره النووي - رحمه الله - من كون جواز شد المنطقة والهميان في وسطه ، هو قول العلماء كافة ، إلا ابن عمر في أصح الروايتين - فيه نظر ، فإن مذهب مالك ، وأصحابه : منع شد المنطقة والهميان ، فوق الإزار مطلقا ، وتجب به الفدية عندهم . أما شد المنطقة مباشرة للجلد تحت الإزار ، فهو جائز عندهم ، بشرط كونه يريد بذلك حفظ نفقته ، فلا يجوز إلا تحت الإزار ، لضرورة حفظ النفقة خاصة ، وإلا فتجب الفدية ، وشد المنطقة لغير النفقة تجب به الفدية أيضا ، عند أحمد . والهميان قريب مما تسميه العامة اليوم : بالكمر .
قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره عاطفا على ما يجوز للمحرم : وشد منطقة لنفقته على جلده . قال ابن فرحون في " شرح ابن الحاجب " : المنطقة : الهميان ، وهو مثل الكيس تجعل فيه الدراهم ، ا هـ .
وروى البيهقي بإسناده عن عائشة : أنه لا بأس بشد المنطقة لحفظ النفقة ، وما في " المغني " من رفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه نظر ، والظاهر أنه من قول ابن عباس ، والمرفوع عند الطبراني وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي ، وهو ضعيف . قاله في : " مجمع الزوائد " ، وقال في : " التقريب " في يوسف المذكور : تركوه ، وكذبوه .
وإذا علمت مما مر أن اللبس الحرام على المحرم ، تجب به الفدية عند الشافعية ، وأنه لا فرق عندهم بين اللحظة والزمن الطويل ، فاعلم أن الأصح عندهم ، وبه جزم الأكثرون : أن اللازم في ذلك هو فدية الأذى المذكورة في آية الفدية . ودليلهم القياس كما تقدم ، ولهم طريقان غير هذا في المسألة إحداهما ، وذكرها أبو علي الطبري في الإيضاح ، وآخرون من العراقيين أن في المسألة قولين :
أحدهما : أنه كالمتمتع ، فيلزمه ما استيسر من الهدي فإن لم يجد فصيام عشرة أيام ، كما هو معلوم .