عرض مشاركة واحدة
  #142  
قديم 17-08-2022, 10:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (3)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 115الى صــ 122
الحلقة (142)






التاسعة : لفظ الرد يقتضي زوال العصمة ، إلا أن علماءنا قالوا : إن الرجعية محرمة الوطء ، فيكون الرد عائدا إلى الحل . وقال الليث بن سعد وأبو حنيفة ومن قال بقولهما - في أن الرجعة محللة الوطء : إن الطلاق فائدته تنقيص العدد الذي جعل له خاصة ، وأن أحكام [ ص: 115 ] الزوجية باقية لم ينحل منها شيء - قالوا : وأحكام الزوجية وإن كانت باقية فالمرأة ما دامت في العدة سائرة في سبيل الزوال بانقضاء العدة ، فالرجعة رد عن هذه السبيل التي أخذت المرأة في سلوكها ، وهذا رد مجازي ، والرد الذي حكمنا به رد حقيقي ، فإن هناك زوال مستنجز وهو تحريم الوطء ، فوقع الرد عنه حقيقة ، والله أعلم .

العاشرة : لفظ ( أحق ) يطلق عند تعارض حقين ، ويترجح أحدهما ، فالمعنى : حق الزوج في مدة التربص أحق من حقها بنفسها ، فإنها إنما تملك نفسها بعد انقضاء العدة ، ومثل هذا قوله عليه السلام : الأيم أحق بنفسها من وليها . وقد تقدم .

الحادية عشرة : الرجل مندوب إلى المراجعة ، ولكن إذا قصد الإصلاح بإصلاح حاله معها ، وإزالة الوحشة بينهما ، فأما إذا قصد الإضرار وتطويل العدة والقطع بها عن الخلاص من ربقة النكاح فمحرم ، لقوله تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ، ثم من فعل ذلك فالرجعة صحيحة ، وإن ارتكب النهي وظلم نفسه ، ولو علمنا نحن ذلك المقصد طلقنا عليه .

قوله تعالى : ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : ولهن أي لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن ، ولهذا قال ابن عباس : إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي ، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها علي ؛ لأن الله تعالى قال : ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف أي زينة من غير مأثم . وعنه أيضا : أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن . وقيل : إن لهن على أزواجهن ترك مضارتهن كما كان ذلك عليهن لأزواجهن . قاله الطبري : وقال ابن زيد : تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله عز وجل فيكم ، والمعنى متقارب . والآية تعم جميع ذلك من حقوق الزوجية .

الثانية : قول ابن عباس : ( إني لأتزين لامرأتي ) . قال العلماء : أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم ، فإنهم يعملون ذلك على اللبق والوفاق ، فربما كانت زينة تليق في وقت ولا تليق في وقت ، وزينة تليق بالشباب ، وزينة تليق بالشيوخ ولا تليق بالشباب ، ألا ترى أن الشيخ والكهل إذا حف شاربه ليق به ذلك وزانه ، والشاب إذا فعل ذلك سمج ومقت . لأن اللحية لم توفر بعد ، فإذا حف شاربه في أول ما خرج وجهه سمج ، وإذا وفرت لحيته وحف شاربه زانه [ ص: 116 ] ذلك . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : أمرني ربي أن أعفي لحيتي وأحفي شاربي . وكذلك في شأن الكسوة ، ففي هذا كله ابتغاء الحقوق ، فإنما يعمل على اللبق والوفاق ليكون عند امرأته في زينة تسرها ويعفها عن غيره من الرجال . وكذلك الكحل من الرجال منهم من يليق به ومنهم من لا يليق به . فأما الطيب والسواك والخلال والرمي بالدرن وفضول الشعر والتطهير وقلم الأظفار فهو بين موافق للجميع . والخضاب للشيوخ والخاتم للجميع من الشباب والشيوخ زينة ، وهو حلي الرجال على ما يأتي بيانه في سورة " النحل " . ثم عليه أن يتوخى أوقات حاجتها إلى الرجل فيعفها ويغنيها عن التطلع إلى غيره . وإن رأى الرجل من نفسه عجزا عن إقامة حقها في مضجعها أخذ من الأدوية التي تزيد في باهه وتقوي شهوته حتى يعفها .

الثالثة : قوله تعالى : وللرجال عليهن درجة أي منزلة . ومدرجة الطريق : قارعته ، والأصل فيه الطي ، يقال : درجوا ، أي طووا عمرهم ، ومنها الدرجة التي يرتقى عليها . ويقال : رجل بين الرجلة ، أي القوة . وهو أرجل الرجلين ، أي أقواهما . وفرس رجيل ، أي قوي ، ومنه الرجل ، لقوتها على المشي . فزيادة درجة الرجل بعقله وقوته على الإنفاق وبالدية والميراث والجهاد . وقال حميد : الدرجة اللحية ، وهذا إن صح عنه فهو ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها . قال ابن العربي : فطوبى لعبد أمسك عما لا يعلم ، وخصوصا في كتاب الله تعالى! ولا يخفى على لبيب فضل الرجال على النساء ، ولو لم يكن إلا أن المرأة خلقت من الرجل فهو أصلها ، وله أن يمنعها من التصرف إلا بإذنه ، فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا معه . وقيل : الدرجة الصداق ، قاله الشعبي . وقيل : جواز الأدب . وعلى الجملة ف ( درجة ) تقتضي التفضيل ، وتشعر بأن حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه ، ولهذا قال عليه السلام : ولو أمرت أحدا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها . وقال ابن عباس : ( الدرجة إشارة إلى [ ص: 117 ] حض الرجال على حسن العشرة ، والتوسع للنساء في المال والخلق ، أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه ) . قال ابن عطية : وهذا قول حسن بارع . قال الماوردي : يحتمل أنها في حقوق النكاح ، له رفع العقد دونها ، ويلزمها إجابته إلى الفراش ، ولا يلزمه إجابتها .

قلت : ومن هذا قوله عليه السلام : أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح . " والله عزيز " أي منيع السلطان لا معترض عليه . " حكيم " أي عالم مصيب فيما يفعل .
قوله تعالى : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون

قوله تعالى : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فيه سبع مسائل : الأولى : قوله تعالى : الطلاق مرتان ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد ، وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة ، وكان هذا في أول الإسلام برهة ، يطلق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق ، فإذا كادت تحل من طلاقه راجعها ما شاء ، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم : لا آويك ولا أدعك تحلين ، قالت : وكيف ؟ قال : أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك . فشكت المرأة ذلك إلى عائشة ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي ، ونسخ ما كانوا عليه . قال معناه عروة بن الزبير وقتادة وابن زيد وغيرهم . وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم : ( المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق ، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة ، فإما [ ص: 118 ] تركها غير مظلومة شيئا من حقها ، وإما أمسكها محسنا عشرتها ، والآية تتضمن هذين المعنيين ) .

الثانية : الطلاق هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة . والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها ، وبقوله عليه السلام في حديث ابن عمر : فإن شاء أمسك وإن شاء طلق وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها ، خرجه ابن ماجه . وأجمع العلماء على أن من طلق امرأته طاهرا في طهر لم يمسها فيه أنه مطلق للسنة ، وللعدة التي أمر الله تعالى بها ، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولا بها قبل أن تنقضي عدتها ، فإذا انقضت فهو خاطب من الخطاب . فدل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن الطلاق مباح غير محظور . قال ابن المنذر : وليس في المنع منه خبر يثبت .

الثالثة : روى الدارقطني حدثني أبو العباس محمد بن موسى بن علي الدولابي ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش بن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله تعالى شيئا على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا استثناء له وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه . حدثنا محمد بن موسى بن علي حدثنا حميد بن الربيع حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه . قال حميد قال لي يزيد بن هارون : وأي حديث لو كان حميد بن مالك اللخمي معروفا! قلت : هو جدي! قال يزيد : سررتني ، الآن صار حديثا! . قال ابن المنذر : وممن رأى الاستثناء في الطلاق طاوس وحماد والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي . ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والأوزاعي ، وهو قول الحسن وقتادة في الطلاق خاصة . قال : وبالقول الأول أقول .

الرابعة : قوله تعالى : فإمساك بمعروف ابتداء ، والخبر أمثل أو أحسن ، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء محذوف ، أي فعليكم إمساك بمعروف ، أو فالواجب عليكم إمساك بما [ ص: 119 ] يعرف أنه الحق . ويجوز في غير القرآن " فإمساكا " على المصدر . ومعنى " بإحسان " أي لا يظلمها شيئا من حقها ، ولا يتعدى في قول . والإمساك : خلاف الإطلاق . والتسريح : إرسال الشيء ، ومنه تسريح الشعر ، ليخلص البعض من البعض . وسرح الماشية : أرسلها . والتسريح يحتمل لفظه معنيين : أحدهما : تركها حتى تتم العدة من الطلقة الثانية ، وتكون أملك لنفسها ، وهذا قول السدي والضحاك . والمعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيسرحها ، هذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما ، وهو أصح لوجوه ثلاثة :

أحدها : ما رواه الدارقطني عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله ، قال الله تعالى : الطلاق مرتان فلم صار ثلاثا ؟ قال : " إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان - في رواية - هي الثالثة " . ذكره ابن المنذر .

الثاني : إن التسريح من ألفاظ الطلاق ، ألا ترى أنه قد قرئ " إن عزموا السراح " .

الثالثة : أن فعل تفعيلا يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية ، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل ، قال أبو عمر : وأجمع العلماء على أن قوله تعالى : أو تسريح بإحسان هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين ، وإياها عنى بقوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . وأجمعوا على أن من طلق امرأته طلقة أو طلقتين فله مراجعتها ، فإن طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وكان هذا من محكم القرآن الذي لم يختلف في تأويله . وقد روي من أخبار العدول مثل ذلك أيضا : حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت قول الله تعالى : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فأين الثالثة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . ورواه الثوري وغيره عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مثله .

قلت : وذكر الكيا الطبري هذا الخبر وقال : إنه غير ثابت من جهة النقل ، ورجح قول الضحاك والسدي ، وأن الطلقة الثالثة إنما هي مذكورة في مساق الخطاب في قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . فالثالثة مذكورة في صلب هذا الخطاب ، مفيدة للبينونة الموجبة للتحريم إلا بعد زوج ، فوجب حمل قوله : أو تسريح بإحسان [ ص: 120 ] على فائدة مجددة ، وهو وقوع البينونة بالثنتين عند انقضاء العدة ، وعلى أن المقصود من الآية بيان عدد الطلاق الموجب للتحريم ، ونسخ ما كان جائزا من إيقاع الطلاق بلا عدد محصور ، فلو كان قوله : أو تسريح بإحسان هو الثالثة لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث ، إذ لو اقتصر عليه لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها إلا بعد زوج ، وإنما علم التحريم بقوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . فوجب ألا يكون معنى قوله : أو تسريح بإحسان الثالثة ، ولو كان قوله : أو تسريح بإحسان بمعنى الثالثة كان قوله عقيب ذلك : فإن طلقها الرابعة ؛ لأن الفاء للتعقيب ، وقد اقتضى طلاقا مستقبلا بعد ما تقدم ذكره ، فثبت بذلك أن قوله تعالى : أو تسريح بإحسان هو تركها حتى تنقضي عدتها .

الخامسة : ترجم البخاري على هذه الآية " باب من أجاز الطلاق الثلاث بقوله تعالى : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وهذا إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم ، فمن ضيق على نفسه لزمه . قال علماؤنا : واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة ، وهو قول جمهور السلف ، وشذ طاوس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة ، ويروى هذا عن محمد بن إسحاق والحجاج بن أرطاة . وقيل عنهما : لا يلزم منه شيء ، وهو قول مقاتل . ويحكى عن داود أنه قال لا يقع . والمشهور عن الحجاج بن أرطاة وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثا . ولا فرق بين أن يوقع ثلاثا مجتمعة في كلمة أو متفرقة في كلمات ، فأما من ذهب إلى أنه لا يلزم منه شيء فاحتج بدليل قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء . وهذا يعم كل مطلقة إلا ما خص منه ، وقد تقدم . وقال : الطلاق مرتان والثالثة فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . ومن طلق ثلاثا في كلمة فلا يلزم ، إذ هو غير مذكور في القرآن . وأما من ذهب إلى أنه واقع واحدة فاستدل بأحاديث ثلاثة : أحدها : حديث ابن عباس من رواية طاوس وأبي الصهباء وعكرمة . وثانيها : حديث ابن عمر على رواية من روى ( أنه طلق امرأته ثلاثا ، وأنه عليه السلام أمره برجعتها واحتسبت له واحدة ) . وثالثها : ( أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها ، والرجعة تقتضي وقوع واحدة ) . والجواب عن الأحاديث ما ذكره الطحاوي أن سعيد بن جبير ومجاهدا وعطاء وعمرو بن دينار ومالك بن الحويرث ومحمد بن [ ص: 121 ] إياس بن البكير والنعمان بن أبي عياش رووا عن ابن عباس ( فيمن طلق امرأته ثلاثا أنه قد عصى ربه وبانت منه امرأته ، ولا ينكحها إلا بعد زوج ) ، وفيما رواه هؤلاء الأئمة عن ابن عباس مما يوافق الجماعة ما يدل على وهن رواية طاوس وغيره ، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه . قال ابن عبد البر : ورواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق والمشرق والمغرب ، وقد قيل : إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس . قال القاضي أبو الوليد الباجي : " وعندي أن الرواية عن ابن طاوس بذلك صحيحة ، فقد روى عنه الأئمة : معمر وابن جريج وغيرهما ، وابن طاوس إمام . والحديث الذي يشيرون إليه هو ما رواه ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ( كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر رضي الله عنه : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم ) . ومعنى الحديث أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس الآن ثلاث تطليقات ، ويدل على صحة هذا التأويل أن عمر قال : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو كان حالهم ذلك في أول الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله ، ولا عاب عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة . ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه ( أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة ) ، فإن كان هذا معنى حديث ابن طاوس فهو الذي قلناه ، وإن حمل حديث ابن عباس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع ، ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يلزمه ، أصل ذلك إذا أوقعه مفردا " .

قلت : ما تأوله الباجي هو الذي ذكر معناه الكيا الطبري عن علماء الحديث ، أي إنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة هذا الذي يطلقون ثلاثا ، أي ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة ، وإنما كانوا يطلقون في جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضي العدة . وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : معناه أن الناس كانوا يقتصرون على طلقة واحدة ، ثم أكثروا أيام عمر من إيقاع الثلاث . قال القاضي : وهذا هو الأشبه بقول الراوي : إن الناس في أيام عمر استعجلوا الثلاث فعجل عليهم ، معناه ألزمهم حكمها . وأما حديث ابن عمر فإن الدارقطني روى عن أحمد بن صبيح عن طريف بن ناصح عن معاوية بن عمار الدهني عن أبي الزبير قال : سألت ابن عمر [ ص: 122 ] عن رجل طلق امرأته ثلاثا وهي حائض ، فقال لي : أتعرف ابن عمر ؟ قلت : نعم ، قال : طلقت امرأتي ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة . فقال الدارقطني : كلهم من الشيعة ، والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض . قال عبيد الله : وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة . وكذلك قال صالح بن كيسان وموسى بن عقبة وإسماعيل بن أمية وليث بن سعد وابن أبي ذئب وابن جريج وجابر وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن نافع : أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة . وكذا قال الزهري عن سالم عن أبيه ، ويونس بن جبير والشعبي والحسن . وأما حديث ركانة فقيل : إنه حديث مضطرب منقطع ، لا يستند من وجه يحتج به ، رواه أبو داود من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع ، وليس فيهم من يحتج به ، عن عكرمة عن ابن عباس . وقال فيه : إن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أرجعها ) . وقد رواه أيضا من طرق عن نافع بن عجير أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته البتة فاستحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد بها ؟ فحلف ما أراد إلا واحدة ، فردها إليه . فهذا اضطراب في الاسم والفعل ، ولا يحتج بشيء من مثل هذا .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.07 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.44 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.39%)]