عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 15-08-2021, 03:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي دور الأنصار في نصرة النبي المختار وصحبه الأبرار

دور الأنصار في نصرة النبي المختار وصحبه الأبرار
طه الحمداني



المقـدمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمَّ التسليم على النبي الهادي إلى الصراط المستقيم محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
لقد استطاع نبي الإسلام -عليه الصلاة والسلام- بعقيدة الإسلام السمحة الواضحة، أن يذيب حواجز الطواغيت، عرقية كانت أو طبقية، ليدع الناس أخوة يعيشون على أرض الله -تعالى-، وليحققوا خلافة الله - تعالى - في الأرض نوراً وعدلاً وإخاءً.
شكَّل الأنصار فيها دوراً رائداً في نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إزاء طواغيت الكفر والعدوان مِساحة طيبّة في الجهاد والقتال في سبيل الله - تعالى -، ومن المسلم به أنَّ السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين - رضي الله عنها - وابن عمِّها ورقة بن نوفل، ومن كانت له سابقة في الإسلام، ممّن آمنوا في بدايات الدعوة الإسلامية شكلوا بحق حجر الزاوية في نصرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعد أن نصر الله - تعالى - نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، وأتم دينه، وفي هذا يقول الله - تعالى -: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)[التوبة: من الآية40].
كانت للأنصار إسهامات فاعلة، ومشاركات مشهودة في حمل تعاليم الإسلام ونشرها في بقاع الأرض، فسطَّروا بمواقفهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومشاهدهم، وسيرهم سطوراً من نور على هام التاريخ لا تزال شامخة تلألأ على مرِّ العصور، وإلى أن يرث الله - تعالى -الأرض ومن عليها، عرفوا أنَّ مصدر قوتهم، وعزتهم هو دينهم، والالتفاف حول نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم -، فخرجت أعظم أمة عسكرية حضارية عرفتها البشرية، وحفظها التاريخ، وشهد بفضلها الأعداء.
عاشت في ظلال القرآن الكريم، وفي رحاب النبوّة، فكانت حقّاَ سيدة الأمم والعالم، ففتحت البلاد شرقاً وغرباً، فتحت القلوب قبل البلاد، وأخرجت الناس من عبادة العُبّاد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضَيْق الدنيا إلى سعة الآخرة.
وليس جديداً علينا ما قامت وتقوم به قوى الشر والكفر من المحاولات للنيل من شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو رسالته أو صحابته، فكان مدعاة لي للكتابة عن ثلة مؤمنة كان لها الحظ الأوفر في نصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بحث عنونته "دور الأنصار في نصرة النبي المختار وصحبه الأبرار"، إذ كان للأنصار الفضل الكبير والقدح المُعّلى في حمل تعاليم الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، أليسوا هم أهل البيعتين وهم أهل دار الهجرة والسُنّة والسلاّمة، أليسوا هم من خاض بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفرقان حيث فرق الله به بين الحق والباطل، أليسوا هم عيْبَة رسول الله وركنه المتين، أليسوا هم من قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إلا مُؤْمِنٌ ولا يُبْغِضُهُمْ إلا مُنَافِقٌ فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ الله وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ الله) [البخاري 3572]، وقال- صلى الله عليه وسلم - فيهم أيضاً: ((لو أَنَّ الأنْصَارَ سَلَكُوا وَادِيًا أو شِعْبًا لَسَلَكْتُ في وَادِي الأنْصَارِ وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً من الأنْصَارِ)) [البخاري (3568)]، وقال - صلى الله عليه وسلم - فيهم أيضاً: ((وَالَّذِي نَفْسِي بيده إِنَّكُمْ أَحَبُّ الناس إليَّ مَرَّتَيْنِ))[البخاري (3575)].
ولم يكن دور المهاجرين في النصرة أقل شأناً مما قام به الأنصار لكنني وددت أن أسلط الضوء على دور الأنصار في نصرتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكي أشحذ الهمم وأبعث الأمل في نفوس المسلمين من أجل بذل الغالي والنفيس في نصرة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، حتى يكونوا مثالاً يحتذى بهم مع مرِّ العصور.
وأمّا خطتي في هذه الدراسة فقد اقتضت أن أقسمها إلى مقدمة، وثلاثة مباحث، وخاتمة استنتاجية، ففي المبحث الأول تناولت دور الأنصار في نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البيعة الأولى والثانية، وأما المبحث الثاني فعقدته في دور الأنصار في إيواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الأبرار - رضي الله عنهم - والذبَّ عنهم، وأما المبحث الثالث فكرست الحديث فيه عن دور الأنصار في غزوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسراياه، ثم أنهيت بحثي بخاتمة توصلت فيها إلى نتائج و ملاحظات، ثم ذكرت المصادر والمراجع التي اعتمدت عليها.
وقد حاولت ما استطعت أن أتبسط في القول، وأنْ أتجنب الخوض في خلافات جانبية، وأن أقتصر - في الغالب الأعم - على ذكر ما اتفق عليه جمهور علماء المسلمين، وعلى دور الأنصار في نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، وأرجو أن تكون هذه الدراسة على مستوى الطموح.
وكل ما كان مني هو بفضل من الله ومنة منه، ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
المبحث الأول: دور الأنصار في نصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيعة الأولى والثانية.
تعد بيعة العقبة الأولى أول نُصْرَة للأنصار من الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بعد أن ضاقت الأرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - بما رحبت، وتكالبت عليه الآلام والأحزان حتى عرف العام العاشر للبعثة بعام الحزن ذلك العام الذي توفيت فيه أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها -، والتي تعد أول من قدَّمت النصرة لرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أن نزل عليه الوحي وجاءها وَجِلاً مرتعباً مما لاقاه في غار حِراء الذي كان يتحنث فيه، وكذلك فيه وفاة عمه أبي طالب الذي تحمل الكثير من أجل نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يتوانَ لحظة في الدفاع عنه - صلى الله عليه وسلم -.
وشدة الإيذاء من قريش وغيرها، ما تركت للنبي - صلى الله عليه وسلم - من سبيل إلاّ أن يبحث عن قبائل أخرى سوى قريش يدعوهم إلى الله - عز وجل -، فقام بعرض نفسه في المواسم على القبائل القادمة إلى مكة يشرح لهم الإسلام، ويطلب منهم الإيواء والنُّصرة سواء أكان في موسم الحج أم في غيره حتى تحقق ما كان يرجوه بعد أن قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خِلافه وفراق دينه إلاّ قليلاً من المستضعفين ممن آمن به، فيدعوهم إلى الله ويخبرهم أنه نبيٌّ مرسل ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبيّن لهم ما بعثه الله به[1].
وقال ابن سعد: فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي المواسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم في المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة فلا يجد أحداً ينصره ولا يجيبه، حتى أنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول: (يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)[2]، تملكوا بها العرب وتذل لكم العجم وإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة، وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب (حاشاه)، فيردون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبح الرد ويؤذونه ويقولون: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك ويكلمونه ويجادلونه ويكلمهم ويدعوهم إلى الله ويقول: (اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا)، فكان من سمي لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاهم وعرض نفسه عليهم: بنو عامر بن صعصعة ومحارب بن خصفة وفزارة وغسان ومرة وحنيفة وسليم وعبس وبنو نضر وبنو البكاء وكندة وكلب والحارث بن كعب وعذرة والحضارمة فلم يستجيب منهم أحد[3].
إنَّ ردود الأفعال السابقة كان لها أثر مؤلم في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما جعله يفكر في أن يجد موطناً آخر قريباً إلى مكة يدعو الناس فيه ويجد عندهم النُصرة والمَنَعَة، ويبدو أن الأوضاع في يثرب كانت واضحة في ذهن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث كان الوضع الذي يعيشه يفرض عليه متابعة الأوضاع في المدن القريبة من مكة عسى أن يفلح في اجتذاب أهلها إلى قضيته، بالإضافة إلى أنَّ لمدينة يثرب مكانة خاصة في نفسه، وذلك لأنَّ أخوال أبيه كانوا من أهلها، كما أن أباه عبدالله كان قد توفي ودفن فيها[4].
ويبدو أن أقرب أبناء القبائل الذين اتصل بهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الدعوة كانوا من أهل يثرب بعد أن جرب الطائف وأهلها، فقد ذكر أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قابل في مكة سويد بن الصامت أخي بني عمرو بن عوف حاجاً أو معتمراً، وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم "الكامل" لجَلَده وشعره وشَرفه ونَسبه وهو القائل:
ألا رُبّ مَن تَدعو صديقاً ولو ترى *** مقالَته بالغيب ساءك ما يَفري
مقالتُهُ كالشهد ما كان شاهداً *** وبالغيب مأثورٌ على ثُغرة النّحر
يسرّك باديه وتحتَ أديمهِ *** نَميمة غِشّ تبتري عَقَبَ الظّهر [5]
...فتصدى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سمع به فدعاه إلى الله والى الإسلام فقال له سويد: فلعلّ الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وما الذي معك) قال: مَجلَّة لُقمان[6] يعني - حكمة لقمان - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اعرضها علي)، فعرضها عليه، فقال له: (إن هذا لكلام حسن والذي معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله - تعالى -علي هو هدى ونور)، فتلا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسن، ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج فإذا كان رجال من قومه ليقولون إنا لنراه قد قتل وهو مسلم وكان قتله قبل يوم بُعاث[7].
وذكرت المصادر أنَّ فتية من بني عبد الأشهل من الأوس قدموا مكة يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، وهذا نصه: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم: (هل لكم في خير مما جئتم له) فقالوا له: وما ذاك قال: (أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل علي الكتاب) قال: ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن قال: فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثاً: أي قوم هذا والله خير مما جئتم له، قال: فيأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا قال: فصمت إياس، وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك قال محمود بن لبيد فأخبرني من حضره من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل[8]، وقال ابن إسحاق: "فلما أراد الله - عز وجل - إظهار دينه وإعزاز نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإنجاز موعده له خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار"[9] فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً.. فلما لقيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: (من أنتم)، قالوا: نفر من الخزرج، قال: (أمن موالي يهود)[10]، قالوا: نعم قال: (أفلا تجلسون أكلمكم)، قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله - عز وجل - وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن[11]... فلما كلّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبيّ الذي توعّدكم به يهود فلا تسبقَنَّكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام...، ثم انصرفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدّقوا[12].
كان لقاء هؤلاء النفر من الأنصار مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غير موعد، لكنه لقاء هيأه الله - سبحانه وتعالى - ليكون نبع الخير المتجدد الموصول، ونقطة التحول الحاسم في التاريخ... وساعة الخلاص المحقق من عبادة الأحجار، بل إنها على التحقيق ساعة الحسم في مصير العالم كله ونقل الحياة من الظلمات إلى النور[13]، هكذا إذن انبلجت شعلة الإيمان توهجاً وانتقلت إلى رحاب يثرب بإيمان هؤلاء النفر من الأنصار - رضي الله عنهم - ولم يكن الأنصار اسماً لهم في الجاهلية حتى سماهم الله - سبحانه وتعالى - به في الإسلام وهم بنو الأوس والخزرج وقال الله - تعالى -في ذكرهم: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[15].
وقد أطلق البعض على ما جرى في هذا اللقاء بالبيعة الأولى، خلافاً لما هو متعارف عليه عند المؤرخين، بل الواضح من لقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع النفر الستة أنه كان عابراً بدليل دعوتهم إلى الجلوس كي يكلمهم، فدعاهم إلى الله - عز وجل - وعرض عليهم الإسلام وكان الخزرجيون مهيئين نفسياً لسماع هذا الحديث لأنهم كانوا يشعرون بالحسرة أمام اليهود به... كما لم تذكر المصادر وقوع البيعة منهم[16]، ولا أدري ما الذي دعاه إلى أن يتبنى هذا الرأي الذي خالف فيه من هو أوثق منه في النقل والحكم[17]، وها هو قول ابن هشام الذي نص على ما جرى في العام الذي بعد هذا اللقاء بالبيعة الأولى بقوله: حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة. قال: وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة النساء[18] وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب[19].
وذهب هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى ومعهم مصعب بن عمير - رضي الله عنه - يعلمهم القرآن وأمور دينهم، ففتح الله له وعلى بني الأنصار فكانوا خير آخذ وخير مجيب، ثم مرت الأيام بعدها ليأتي عام آخر يعود على المسلمين بخير ونعمة، فيعود مصعب بن عمير - رضي الله عنه - إلى مكة خرج معه من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبة، من أوسط أيام التشريق حين أراد الله بهم ما أراد من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله[20]، وتمت بيعة العقبة الثانية بعد أن نام المسلمون من الأنصار تلك الليلة مع قومهم في رحالهم، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجوا من رحالهم لمعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتسللون تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعوا في الشعب عند العقبة وكان عددهم ثلاثة وسبعون رجلاً ومعهم امرأتان... حتى قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعه عمه العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - فقال: يا معشر الخزرج إن محمداً منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلاّ الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون إنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. قال: فقلنا له قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. قال: فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال: (أبايعكم على أن تَمْنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم). قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أُزُرَنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحَلقة[21] ورثناها كابِراً عن كابر[22].
لقد أدخلت اللحظات الحاسمة السرور والبهجة على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي تعد النصرة الحقيقية للأنصار حين بايعوا على الحرب والقتال والموت نصرة لدين الله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ما قاله أبو الهيثم بن التيهان - رضي الله عنه - حين اعترض البراء بن معرور - رضي الله عنه -، وهو يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لهو دليل واضح لتمسك الأنصار بالنبي - صلى الله عليه وسلم - للبقاء في المدينة المنورة، فقال أبو الهيثم - رضي الله عنه -: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنّا قاطعوها - يعني اليهود -، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: ((بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم))[23].
إنَّ بيعة العقبة الثانية كانت بداية النهاية للمرحلة المكية التي اتسمت بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، كما شكلت شروط البيعة بداية أسلوب جديد يسمح باستخدام القوة واللجوء إلى الحرب في مجاهدة الأعداء، ولقد أدى نجاح الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحصول على أنصار له من أهل المدينة إلى شعور مشركي قريش بالخطر وقيامهم بتشديد الخناق على المؤمنين في مكة[24]، وهذه الفتنة الأخيرة التي أصابت المسلمين حملتهم على المسارعة في الهجرة إلى المدينة وهذا ما سنبينه في نصرة الأنصار للمهاجرين قبل وبعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
يلاحظ من خلال ما مر سابقاً أنَّ النبي َّ - صلى الله عليه وسلم - كان يطلب النُّصرة لأمرين مهمين غاية الأهمية:
أولهما: حماية الدعوة، حتى تسير بين الناس محمية الجانب بعيدة عن الإساءة إلى أتباعها.
ثانيهما: إيجاد مكان آمن لدولته - صلى الله عليه وسلم - القادمة ليتسلم خلالها مقاليد الحكم والسلطان على وفق مقتضيات النبوة على أساس الدعوة[25].
المبحث الثاني: دور الأنصار في إيواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الأبرار - رضي الله عنهم -:
لم تكن الهجرة إلى المدينة حادثة عرضية دون أن يسبقها تخطيط وإعداد من قبل النبي- صلى الله عليه وسلم -، ولم تكن الهجرة نزهة أو رحلة يُرَوِح فيها الإنسان عن نفسه، ولكنها مغادرة الأهل، والمال والوطن ووشائج القربى، وأسباب الرزق، والتخلي عن كل ذلك من أجل العقيدة، ولهذا احتاجت إلى جهد كبير حتى وصل المهاجرون إلى قناعة كاملة بهذه الهجرة، وعدم إمكانية المعايشة مع الكفر، فلم تكن الهجرة تخلصاً من الفتنة والاستهزاء فحسب، بل كانت تعاوناً عاماً على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن[26]، لذلك كان نجاح النبي - صلى الله عليه وسلم - في تأسيس وطن له، وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة هو أعظم كسب حصل عليه منذ أن بدأت الدعوة، وقد تنادى المسلمون من كل مكان: هلموا إلى يثرب[27].
ولعله لم يخطر ببال المهاجرين أنَّ الهجرة إلى المدينة المنورة ستكون على الدوام بل الاعتقاد والله أعلم أنَّ طيبة ستكون محطة انتقالية حتى يُمَكِن الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض ويعودوا إلى سابق عهدهم إلى بيت الله الحرام.
كما يجب أن لا نغفل خطاب القرآن الكريم إلى المسلمين الذي مهد ونَوَه فيه لهم بالهجرة ولفت النظر إلى أنَّ أرض الله واسعة، قال - تعالى -: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[28]، كذلك ما تناقلته الصور الإيمانية من سورة الكهف بخصوص الفتية الذين آمنوا بربهم وعن هجرتهم من بلدهم إلى الكهف، (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً)[29]، ثم تلا بعد ذلك آيات صريحة تتحدث عن الهجرة في سورة النحل، فقال - تعالى -: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[30]. وفي أواخر السورة يؤكد المعنى مرة أخرى بقوله - تعالى -: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[31]، وكانت الهجرة إلى الحبشة تدريباً عملياًّ على ترك الأهل والوطن[32].
ولم يكن اختيار مدينة يثرب عفوياً بل أمر مقدر من عند الله و إرادة ربانية بعد أن أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأسباب واستطاع أن يدعوَ من أهلها من دعا واستجاب من أهلها من استجاب فجاء في قصة تحديد الوجهة التي رغب المسلمون بالهجرة إليها ما رواه ابن سعد عن عروة عن عائشة - رضي الله عنهم - قالا: لمّا صَدَر السبعون من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طابت نفسه، وقد جعل الله له مَنَعَةً وقوماً أهل حرب وعدة ونجدة، وجعل البلاء يشتدُّ على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج، فضيقوا على أصحابه وتعبثوا بهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى فشكا ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستأذنوه في الهجرة، فقال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((قد أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ رأيت سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بين لابَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ))[33]، ثم مكث أياماً ثم خرج إلى أصحابه مسروراً، فقال: ((قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج، فليخرج إليها))[34]، وقال: ((إن الله - عز وجل - قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها)) فخرجوا إرسالاً[35].
فهاجر الأصحاب بعد هذه التهيئة النفسية مكرهين إثر ازدياد أذى قريش النفسي والجسدي والذي لم يتوقف ولو للحظة حيث استخدمت قريش ما أوتيت من قوة وتفنن في الأساليب، ومن ذلك: أسلوب التفريق بين المرء وزوجه وولده فكان هذا من نصيب أبي سلمة وأم سلمة وولدهما - رضي الله عنهم -، ثم استخدموا أسلوباً آخر ألا وهو أسلوب الخطف القسري إن صح التعبير، فكان هذا من نصيب عياش بن أبي ربيعة - رضي الله عنه -، وأسلوب الحبس فطال قسماً من الصحابة ممن بقي في مكة من المستضعفين منهم هشام بن العاص وعياش بن أبي ربيعة - رضي الله عنهم -، وأسلوب آخر وهو التجريد من المال فكان هذا من نصيب صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه[36].
أولاً: طلائع المهاجرين تصل المدينة:
كان أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو سلمة بن عبد الأسد ثم قدم بعده عامر بن ربيعة معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة فهي أول ظعينة[37] قدمت المدينة ثم قدم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،... وخرج المسلمون جميعا إلى المدينة فلم يبق بمكة منهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر - رضي الله عنه - وعلي - رضي الله عنه - أو مفتون محبوس أو مريض أو ضعيف عن الخروج[38].
ثانياً: نصرة الأنصار للمهاجرين:
ترجم الأنصار ما تعاقدوا عليه من أقوال في البيعتين إلى جملة أفعال حيث فتح الأنصار أبواب بيوتهم وقلوبهم، واستعدوا لاحتضان من جاءهم مهاجراً تحت ظاهرة عظيمة من التكافل الاجتماعي، فحوى المسكن الواحد تحت سقفه الأنصاريٌّ والمهاجر وهم يتقاسمون كل شي المسكن والمال والطعام، فمن هذه البيوتات التي أوت المهاجرين هي:
1- دار مبشر بن عبد المنذر بن زنبر بقباء: ونزل بها مجموعة من المهاجرين نساءً ورجالاً، وقد ضمت هذه الدور عمر بن الخطاب، ومن لحق به من أهله، وقومه وابنته حفصة وزوجها وعياش بن ربيعة.
2- دار خبيب بن إساف أخي بني الحارث بن الخزرج بالسنحنزل بها طلحة بن عبيد الله بن عثمان وأمه وصهيب بن سنان.
3- دار أسعد بن زرارة من بني النجار، قيل: نزل بها حمزة بن عبد المطلب.
4- دار سعد بن خيثمة أخي بني النجار، وكان يسمّى بيت العزاب ونزل بها الأعزاب من المهاجرين.
5- دار عبد الله بن سلمة أخي بَلْعجلان بقباء: نزل بها عبيدة بن الحارث وأمه سخيلة، ومِسْطَح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب، والطفيل بن الحارث، وطُليب بن عُمير، والحصين بن الحارث نزلوا جميعاً على عبد الله بن سلمة بقباء.
6- دار بني جَحْجبتى، والمحتضن هو منذر بن محمد بن عقبة، نزل عنده الزبير ابن العوام، وزوجه أسماء بنت أبي بكر، وأبو سبرة بن أبي وهب وزوجته أم كلثوم بنت سهيل.
7- دار بني عبد الأشهل، والمحتضن هو سعد بن معاذ بن النعمان من بني عبد الأشهل، نزل بها مصعب بن عمير، وزوجته حَمنة بنت جحش.
8- دار بني النجار، والمحتضن هو أوس بن ثابت بن المنذر، نزل بها عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[39].
فهذه المقاسمة وهذا التكافل الاجتماعي، كان من أهم العناصر التي مهدت لإقامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته المهاجرين معه وبعده، إقامة طيبة، تنبض بالإيثار على النفس وبِوِدِّ الأخوة الصادقة المؤمنة.
وبهذه الروح العالية والإيمان الوثيق، والصدق في المعاملة والمؤاخاة بينهم تم الوفاق بين المهاجرين والأنصار، وهم بهذا قد أسسوا مجتمعاً اتسم بأعلى القيم الأخلاقية والحضارية لم يوجد له مثيل حتى وقتنا الحاضر، إنه دين الله الحق الذي جعل تقوى الله أساساً لهذا التصرف[40].
ثالثاً: نصرة الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة:
فشلت كل المحاولات في منع الصحابة من الهجرة إلى المدينة، وأيقنت قريش خطورة هذا الموقف الجديد على مصالحها الاقتصادية والاجتماعية، فاستشاطت غضباً، مما دعاها إلى دعوة زعمائها إلى اجتماع فوري في دار الندوة لاتخاذ قرار يتناسب، وهذا الحدث الجلل الذي أصبح يؤرق مضاجعهم، فتشاوروا في أمرهم وقرروا في نهاية المطاف أن يأخذوا من كل قبيلة فتىً شاباً وسيطاً يضربون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضربة رجل واحد، فيقتلوه ويتفرق دمه بين القبائل جميعاً، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً.
هذا ما توصلت إليه قريش من مكائد ومكرٍ وخديعة، لكن الله لهم بالمرصاد قال - تعالى -: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[41]، ثم جاء خبر السماء على عجالة من الأمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينبئه بما عقدت عليه قريش ويدعوه إلى عدم المبيت في بيته والهجرة إلى المدينة.
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكرهاً من داره، وهو واثق بربه - سبحانه وتعالى - الذي أعمى أبصار المشركين مهاجراً بصحبة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ليختفيا أياماً في جبل ثور تحفهما رعاية الله - عز وجل - لينتقلا بعدها إلى المدينة المنورة بعد أن - حفظهما الله - من بطش قريش.
وأما أهل المدينة، فبعدما سمعوا بهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يفدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، وجاء هذا الخبر مفصلاً عن أصحاب رسول الله أنهم قالوا: فإذا لم نجد ظلاً دخلنا وذلك في أيام حارة حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه رجل من اليهود قد رأى ما كنا نصنع وأنّا ننتظر قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا، فصرخ بأعلى صوته يا بني قَيْلة هذا جدكم قد جاء قال: فخرجنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في ظل نخلة ومعه أبو بكر - رضي الله عنه - في مثل سنه[42].
فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقُباء، في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس[43]، وأُسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة، وقيل: مكث أربع عشرة ليلة[44]، وأدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة في سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي، فكانت أول جمعة صلاها في المدينة.
ولما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج، فكان ذلك اليوم يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يوماً مثله قط، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، وقد كان حقًّا يوم عيد؛ لأنه اليوم الذي انتقل فيه الإسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة إلى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة المدينة، ومنها إلى سائر بقاع الأرض. لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشرف الذي اختصهم به أيضاً، فقد أصبحت بلدتهم موطناً لإيواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته المهاجرين، ثم لنصرة الإسلام كما أصبحت موطناً للدولة الإسلامية[45].
وتجمع الأنصار من حوله يرغبون أن ينزل عندهم حيث العدد والعدة والمَنَعة، روى الإمام مسلم بسنده عن عثمان بن عمر يوم دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فقال: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ لَيْلًا فَتَنَازَعُوا أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عليه رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أَنْزِلُ على بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِ عبد الْمُطَّلِبِ أُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ)، فَصَعِدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوْقَ الْبُيُوتِ وَتَفَرَّقَ الْغِلْمَانُ وَالْخَدَمُ في الطُّرُقِ يُنَادُونَ: يا محمد يا رَسُولَ اللَّهِ يا محمد يا رَسُولَ اللَّهِ[46]، وذكر ابن هشام الخبر مفصلاً فقال: فأتاه عتبان ابن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم بن عوف فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمَنَعة، قال: (خلّوا سبيلها، فإنها مأمورة) لناقته، فخلّوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بَيَاضة تلقاه زياد بن لَبيد وفَرْوة بن عمرو في رجال من بني بَيَاضة، فقالوا: يا رسول الله هلّم إلينا إلى العدد والعدة والمَنَعة قال: (خلّوا سبيلها، فإنها مأمورة)، فخلَوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة، فقالوا يا رسول الله: هلُّم إلينا إلى العدد والعدة والمَنَعة، قال: (خلّوا سبيلها، فإنها مأمورة)، فخلّوا سبيلها، فانطلقت... وهكذا فعلت بنو الحارث بن الخزرج و بنو عدي بن النجار وهم أخواله... حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده - صلى الله عليه وسلم -، فبركت فيه، ثم تَحَلْحَلَتْ[47] ورَزَمَتْ وألقت بِجِرَانِها[48]، فنزل عنها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد - رضي الله عنه - رحله فوضعه في بيته ونزل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -... فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبني مسجداً.. فعمل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليُرَغب المسلمين في العمل فيه فعمل فيه المهاجرون والأنصار ودأبوا فيه[49]. وبعد بناء المسجد تكون دولة الإسلام قد بنت وأسست إحدى أهم قواعدها في دَارِ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ وَالسَّلامَةِ والنُصْرَة لتبدأ من جديد في بناء حضارة إنسانية إسلامية برغم التحديات للوصول إلى مستقبل آمن وباهر.
المبحث الثالث: دور الأنصار في غزوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسراياه:
بعد أن تكامل إرساء أسس وقواعد الدولة الإسلامية ببناء مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار على أساس الحب في الله والإخاء الكامل بينهم الذي تذوب فيه عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام ثم تسقط فيه فوارق النسب واللون والوطن ليكون الشعار: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[50].
ولم يكن مبدأ التآخي مجرد شعار في كلمة أجراها على ألسنتهم، وإنما كان حقيقة عملية تتصل بواقع الحياة وبكل أوجه العلاقات القائمة بين الأنصار والمهاجرين[51]، وها هو الإمام البخاري - رحمه الله - يروي لنا حديثاً يصور فيه كيف كانت العلاقة بين المهاجرين والأنصار وخاصة بعد وصول المهاجرين إلى المدينة وقد خلفوا بيوتهم وأموالهم وأهليهم في مكة، فقال: (لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ آخَى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بين عبد الرحمن بن عَوْفٍ وَسَعْدِ بن الرَّبِيعِ قال لِعَبْدِ الرحمن: إني أَكْثَرُ الأنْصَارِ مَالًا، فَأَقْسِمُ مَالِي نِصْفَيْنِ وَلِي امْرَأَتَانِ، فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ، فَسَمِّهَا لي أُطَلِّقْهَا، فإذا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا قال: بَارَكَ الله لك في أَهْلِكَ وَمَالِكَ أَيْنَ سُوقُكُمْ، فَدَلُّوهُ على سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فما انْقَلَبَ إلا وَمَعَهُ فَضْلٌ من أَقِطٍ وَسَمْنٍ)[52]، وأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - من المؤاخاة أن تذهب عنهم وحشة الغُربة وتؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد أَزْرَ بعضهم ببعض[53]، فاستمرت هذه الأخوة وآتت ثمارها في كل أطوار الدعوة طوال حياته - صلى الله عليه وسلم -، ويعد هذا سبقاً سياسياً اتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في تأصيل المودة[54]، ويتضح مما تقدم أن السبب الرئيس للمؤاخاة كان سبباً اجتماعياً يستهدف إقامة علاقة تقوم على المساواة والمؤاساة بين المهاجرين والأنصار، وأما العامل الاقتصادي فكان عاملاً ثانوياً[55]، فكان هذا الإخاء أساساً لإخاء إسلامي عالمي فريد من نوعه، ومقدمة لنهضة أمة ذات دعوة ورسالة تنطلق لصياغة عالم جديد قائم على عقائد صحيحة معينة، وأهداف صالحة منقذة للعالم من الشقاء والتناحر والانتحار[56]، وكان الأساس الثالث أهم ما قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يتعلق بالقيمة الدستورية للدولة الجديدة، فكتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادع - صالح - فيه اليهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم[57]، ويتألف هذا الكتاب من حوالي خمسين فقرة تنظم العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية بين مختلف الفئات التي يتكون منها أهل المدينة وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصفته رسولاً ورئيساً للدولة[58].
فلما اكتملت الأسس والقواعد في بناء الدولة وقويت شوكة المسلمين أُذن لهم بالقتال حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً ويمكن لهم في الأرض فجاءت الآيات تتنزل على رسول - صلى الله عليه وسلم - تباعاً فقال - عز وجل -: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[59]، وقوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاِّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[60]، من سياق هذه الآيات وغيرها هيأ القرآن الكريم أذهان المسلمين لاستعمال القوة ضد من اعتدى عليهم، وفهم الصحابة - رضي الله عنهم - ضرورة القضاء على الباطل وتدميره، وأيقنوا أنَّ الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضي به.
إن موقف قريش في مكة من أولى الأمور التي يجب أن تعالجها قيادة المدينة؛ لأن أهل مكة لن يرضوا بأن يقوم للإسلام كيان ولو كان في المدينة، لأن ذلك يهدد كيانهم، ويقوض بنيانهم، فهم يعلمون أن قيام الإسلام معناه انتهاء وجودهم وحكمهم وعادات الآباء والأجداد، فلا بد من الوقوف في وجهه[61]، وقد بذلت قريش محاولات للنيل من المسلمين، بل زادهم غيظاً أن فاتهم المسلمون ووجدوا مأمناً ومقراً بالمدنية، فكتبوا إلى عبد الله بن أُبي بن سلول، "إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم‏".
فلما بلغ ذلك عبدالله بن أُبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيهم، فقال‏: ‏‏‏(‏لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر ما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم‏)‏، فلما سمعوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا[62]. ‏
ثم ترسل قريش تهديداً آخر تنذر وتتوعد المسلمين باستئصالهم والقضاء عليهم، ولم يكن هذا مجرد وهم أو خيال، فقد تأكد لدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكائد قريش وإرادتها على الشر ما كان لأجله لا يبيت إلا ساهراً، أو في حرس من الصحابة.
لأجل هذا شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تدريب أصحابه على فنون القتال والحرب واشترك معهم لرد من تسول له نفسه للنيل من المسلمين ومن باب: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)[63].
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 48.22 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.59 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.30%)]