الموضوع: مناسك الحج
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 14-11-2021, 08:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مناسك الحج

مناسك الحج (الحلقة الثانى)
الشيخ عبد القادر شيبة الحمد



(الحلقة الثانية)


أيها الإخوة المؤمنون، السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله تبارك وتعالى قد لفت انتباه الناس في ثنايا ذكره لحِكَمِ الحج وأحكامه إلى أن إخلاص العبادة لله، وإقامة سوق ذكره وشكره، هي من أهمِّ مقاصد الحج، وفي ذلك يقول: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا ﴾ [الحج: 26]، ثم يقول في نفس المقام بعد أن ذكر بعض مقاصد الحج وأحكامه: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ﴾ [الحج: 30، 31]، ثم يصف خطورة الشرك، والعاقبة السيئة التي يؤول إليها المشرك، والحالة البشعة التي يتمثَّلها، حيث يقول: ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 31]، ثم يثني على المخلصين له، المعظِّمين لأمره، القائمين بحدوده، فيقول: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].

ثم يختم ما ذكره عن الحج في سورة الحج ببيان أن منافع العبادة تعود على العباد؛ لأن الله غنيٌّ عن العالمين، فيقول: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 37]؛ أي إن الله تبارك وتعالى أمركم بهذه الشرائع، ومنها ذبح الهدي، ولن يرتفع إلى الله شيءٌ من لحومها ودمائها، فهو الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد؛ وإنما ترتفع إليه أعمالُكم الصالحة فيجزيكم عليها أحسن الجزاء وأعظم الأجر.

ولذلك كذلك كان الإهلال بالتوحيد عند الدخول في النُّسك هو أبرز مظاهر الحج في هذا المقام، حيث يلبي فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.


ففي هذه التلبية إعلان الاستجابة لله، وإظهار طاعته وامتثال أمره تعالى بما هو أهله من الحمد والشكر المستوجب لأنْ يخص بالتوحيد، ويُفرد بالألوهية والربوبية والأسماء الحسنى والصفات العلى؛ ولذلك لا يجوز لمن يقول: لبيك اللهم لبيك، أن يذلَّ إلا لله، فليس له أن يضرع إلا لربِّه، وأن يستغيث إلا به، وأن يلجأ إلا إليه، فتكون صلاته لله، وحجه لله، ونسكه كله لله؛ لأنه سيده ومالكه، ومصلح شأنه، ومدبر أمره، فالذي يأوي إليه يأوي إلى ركن شديد.


ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، برحمتك أستغيث، فأصلح لي شأني كله ولا تَكِلْني إلى نفسي أو إلى أحد من خلقك طرفةَ عين، إنك إنْ وكَلتَني إلى نفسي أو إلى أحد من خلقك، وكَلتَني إلى عجز وضعف وفاقة.

ولذلك يجب على الحاج أن يحذر جميع صور الشرك؛ فلا يحلف إلا بالله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع عمر رضي الله عنه في رهط وهو يحلف بأبيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت، من كان حالفًا فليحلف بالله أو لِيَذَرْ))، وفي رواية: ((من حلف بغير الله فقد أشرك))، قال عمر رضي الله عنه: فما حلَفتُ بشيء من ذلك بعد ذلك لا ذاكرًا ولا آثرًا؛ أي: لا أحلف بغير الله ولا أنقل عن غيري أنه حلف بغير الله.

كما لا يجوز للحاج أن يتمسح بجدران بعض الأماكن والمساجد، إلا ما أذن فيه الإسلام من لمس الحجر الأسود وتقبيله، ولمس الركن اليماني من غير تقبيل، أما ما عدا ذلك من الأبواب وجدران المساجد أو بعض القبور أو البيوت، فلا يحل لأحد أن يقبِّلَها؛ ولذلك لما قبَّل عمرُ رضي الله عنه الحجرَ الأسود قال: والله إني أعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتك.

كما لا يجوز أن يذبح المسلم قربانًا لغير الله، فلا يذبح لنبيٍّ ولا لولي ولا للملائكة ولا للجن؛ لأن الله تبارك وتعالى حرَّم الذبح لغيره، حيث يقول: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [الكوثر: 2]، وكما قال عز وجل لخير خلقه وسيد أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 162 - 164].

وقد أخبر الله تبارك وتعالى أنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم؛ ولذلك يقول: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 1، 2]، قال أهل العلم: أحسن العمل أن يكون خالصًا صوابًا، والخالص: ما كان لوجه الله، والصواب: ما كان على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما بيَّن الرب تبارك وتعالى أنه يحبط جميع الأعمال المشوبة بالشرك حيث يقول: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]، وأشار إلى خطورة هذا الأمر حيث خاطب المعصوم من الشرك، المحفوظ من الخطايا والسيئات؛ إمام المرسلين صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 64 - 67].

لذلك يجب على الحاج أن يحذر أشَّد الحذر من كل ألوان الشرك؛ حتى يَسلَمَ له عملُه الصالح، فيرجع مغفورَ الذنب، مشكورَ السعي، مرفوعَ الدرجات.

كما يجب عليه كذلك أن يصون جسمَه من أكل الحرام، ولسانَه من أعراض الناس، ويدَه من إيذاء أحد من خلق الله؛ فإن من غُذِيَ بالحرام لا يستجاب دعاؤه، وإذا قال: لبيك، قيل له: لا لبيك ولا سعديك، وحجُّك مردود عليك، وكما أخبَر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، أنَّى يُستجاب لذلك؟

فطِيبُ المطعم من أهمِّ أسباب سلامة القلب، وسعادة النفس، واستجابة الدعاء؛ ولذلك أُثِر أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعاء، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((أطب مطعمك تستجب دعوتك)).

وينبغي للحاج أن يستفيد من هذا التجمعِ الإسلامي العظيم بسؤال أهل العلم منهم عما يجهل، وبذل المعروف فيما يقدر، وتبادل الآراء فيما يعود على الأمة الإسلامية بالخير، وفيما يدفع عنها من الشر، وفيما يربط بين قلوبهم من الود.


إن المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وليعلم المسلم أن من دلَّ على خير فله أجر مثل فاعله، ومن سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقُصُ من أجورهم شيءٌ.

وفي حلقات قادمة إن شاء الله نتحدث عن مناسك الحج، وأفعال تلك المناسك كما تلقَّاها المسلمون جيلًا بعد جيل عن حبيب الله ورسوله وإمام أنبيائه صلى الله عليه وسلم، الذي قال: ((لتأخذوا عني مناسككم))، وأسأل الله تبارك وتعالى لنا ولكم التوفيق والهداية إلى أحسن طريق، والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال والأفعال والأقوال. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.57 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.96%)]