الموضوع: فقه الدعوة
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 11-12-2021, 10:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الدعوة

فـقه الدعوة (5)


د.وليد خالد الربيع








ذكرنا في الحلقة السابقة أن الدعوة إلى الله من فرائض الدين، وأشرنا إلى فضلها الكبير وأجرها على الداعي، وعرضنا بعض النصوص من الكتاب والسنة التي تؤكد أهمية الدعوة وفضلها، وقلنا: إن من فضل الدعوة أنها وظيفة الأنبياء والمرسلين، أنها صمام أمان للمجتمع من الهلاك والضلال.



-أهداف الدعوة:

بينت النصوص الشرعية الغايات السامية والمقاصد العالية للدعوة الإسلامية, ويمكن إيجاز تلك الغايات في مقصد كلي وهو هداية الناس عموما وخصوصا في الدنيا والآخرة, يظهر هذا من فاتحة الكتاب التي اشتملت على مقاصد القرآن الكلية، وفيها قال عز وجل مبينا الغاية والوسيلة: {إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم}, ثم قرر ذلك في أول سورة البقرة في قوله عز وجل: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}، ووضح تلك الهداية تفصيلا في آيات هذه السورة العظيمة, ثم أكد هذا المقصد في مطلع سورة آل عمران بقوله تعالى: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان} أي هو كذلك هدى للناس, وهكذا في كل موضع يذكر فيه القرآن تجد الإشارة إلى معنى الهداية فيه ابتداء أو انتهاء، أو بما فيه من النور والمواعظ والأحكام والأخبار التي تهدي إلى صراط الله تعالى في الدنيا وإلى الجنة في الآخرة.

وكذلك الآيات التي بينت مقصد البعثة المحمدية دلت على أن الهداية العامة والخاصة هي المصلحة العظمى من الدعوة إلى الله؛ كما قال عز وجل: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}, وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}, وقال عز وجل: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض}, وقال عز وجل: {وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم}.

ولنا وقفة مع بعض وجوه الهداية الربانية التي اشتملت عليها الدعوة الإسلامية:



-أولاً- تحقيق العبودية لله عز وجل وحده ونبذ الشرك والكفر:

من أعظم وجوه الهداية التي قررتها الدعوة الإسلامية ومن قبلها كل دعوات الأنبياء والرسل السابقين، تحقيق العبودية لله تعالى وحده ونبذ العبودية لما سواه، كما قال عز وجل: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}, وبين سبحانه أن هذا المقصد هو لب بعثة كل نبي ورسول، فقال عز وجل: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال سبحانه: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}.

والقرآن كله في تقرير هذه القضية الكبرى والغاية العظمى, فهو إما حديث عن الله تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الكاملة, وإما دعوة إلى عبادته وحده، وإما نهي عن الشرك به, وإما خبر عن نصره لأوليائه وما أعد لهم في الآخرة, وإما خبر عن أعدائه وما أعد لهم في الآخرة.

وبالنظر إلى سيرة النبي الكريم [ تجد أنها تدور حول الدعوة إلى الإيمان بالله وحده وامتثال شرعه وترك الإشراك به وعصيان دينه, وقد لخص ذلك في كلامه لقومه حين قال لهم: «قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا وتملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم»، وعندما أرسل معاذا إلى اليمن بين له أهداف الدعوة وأولويات الرسالة فقال له: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله»، وفي رواية: أن يوحدوا الله, وفي رواية: إلى التوحيد, وقد استمر [ على هذا النهج إلى أن توفاه الله وهو يدعو إلى التوحيد ويدافع عنه ويحمى حماه أن ينتقص أو ينتهك.



- ثانياً- تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق وفق المنهج الرباني:

قال الشيخ الطاهر بن عاشور: «إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة, رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم؛ قال الله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين}, فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية والجماعية والعمرانية.

فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها, ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير, ثم صلاح السريرة الخاصة, وهي العبادات الظاهرة كالصلاة, والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر.

أما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي؛ إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه, ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرفات الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات, ومواثبة القوى النفسانية, وهذا هو علم المعاملات, ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية.

وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك؛ إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي, وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع, ورعي المصالح الكلية الإسلامية, وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها, ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع» اهـ.

فتزكية النفوس من مقاصد الدين الحنيف؛ قال عز وجل: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}, وقال تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.

فالله عز وجل يمتن على عباده في هاتين الآيتين وغيرهما ببعثة النبي الكريم[ الذي أنقذهم به من الضلالة وعصمهم به من الهلاك وأخرجهم به من ظلمات الشرك والكفر والجهل إلى نور الإسلام والإيمان والإحسان, وبين أن من مهمات الرسول تعليم الناس آيات الله عز وجل ببيان ألفاظها ومعانيها وأحكامها، ومن أعظم وظائفه تزكية الناس بتخليتهم من الشرك والمعاصي والرذائل وسائر مساوئ الأخلاق.

فتزكية النفوس وتطهيرها من سوء الاعتقادات وسوء الأخلاق من أعظم غايات البعثة كما قال [: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

وتزكية النفوس هي تطهيرها وتطييبها وتنقيتها من القبائح والرذائل العقدية كالشرك والشك والشقاق والنفاق, أو الأخلاقية كالجبن والبخل والحسد والظلم والكذب, وتجميلها بالفضائل ومحاسن الصفات التي وردت بها نصوص الكتاب والسنة.

فالنفس الزكية هي النفس الطيبة البعيدة عن كل دنس, المتعالية عن كل خبث؛ ولهذا أقسم الله عز وجل بمخلوقات عديدة في قوله تعالى: {والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} على قضية واحدة وهي قوله عز وجل: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} أي فاز من طهر نفسه من الذنوب ونقاها من العيوب وجملها بالعلم النافع والعمل الصالح, وقد خسر من ترك تكميلها بالفضائل، ودنسها بالرذائل.

وتزكية النفوس منـّّة من الله عز وجل على من يشاء من عباده؛ كما قال تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكَا منكم من أحد أبدا}؛ لأن الشيطان وأتباعه, والنفس والهوى والدنيا والفتن متكالبة على العبد من كل مكان, فلو خلي وهذه الدواعي ما زكا أحد أبدا, ولكن الله تعالى بفضله يجتبي من يشاء من عباده فيطهره من الرذائل وينميه بالفضائل.

ولتزكية النفس ثمرات عظيمة، منها أن التزكية سبب للفلاح في الدنيا والآخرة كما قال عز وجل: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى}, ومنها دخول الجنة كما قال تعالى: {ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى}, ومنها النجاة من النار كما قال تعالى: {فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيُجنّبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى} وغيرها من الثمرات الطيبة للتزكية الشرعية.

والدين كله سبيل للتزكية, فالشريعة الإسلامية بما فيها من اعتقادات وعبادات وأخلاق وأحكام شرعية في المجالات المختلفة، كلها طريق لتزكية النفوس.

فالتوحيد وتصحيح الاعتقاد والإيمان تزكية؛ لأنه اعتراف وإقرار بالإله الواحد وتوجه إليه وحده بالعبادة وتنزيه له سبحانه عما لا يليق به من الصفات والأفعال؛ ولهذا وصف الله عز وجل المشركين بالقذارة المعنوية فقال: {إنما المشركون نجس} أي: خبثاء في عقائدهم وأعمالهم, وأي نجاسة أبلغ ممن يعبد مع الله إلها آخر لا ينفع ولا يضر ولا يغني عنه شيئا؟! وأعمالهم ما بين صد عن سبيل الله ونصر للباطل وإفساد في الأرض, فأي ضلال ورجس أعظم من هذا؟!

ولهذا قال موسى عليه السلام لفرعون: {هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} أي هل لك أن تجيب إلى طريقة ومسلك تزكى به وتسلم وتطيع؟ فالهداية والإيمان والتوحيد من أعظم سبل التزكية, والكفر والشرك من أكبر أسباب الفساد.

والعبادات البدنية والمالية سبيل لطهارة النفس وزكاتها, فالصلاة كما وصفها الله عز وجل: {تنهى عن الفحشاء والمنكر} وقال[: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات, هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا»، والصيام سبب للتقوى التي هي من غايات التزكية الشرعية كما قال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}, والزكاة تطهير للمال ولنفس المزكي من الشح والبخل كما قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}, وإقامة حدود الله تعالى في العقوبات طهارة للمجتمع من الجرائم وإشاعة للأمن والاستقرار كما قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}.

والخلاصة أن التزام أحكام الدين في الظاهر والباطن, في العلم والعمل, في العبادات والمعاملات وسائر مجالات الحياة سبب لتزكية الأفراد والمجتمعات.



- ثالثاً-: إقامة الحجة لله تعالى:

من أهداف بعثة الرسل إقامة الحجة على أقوامهم, قال شيخ الإسلام: «فإن الله أقام حجته على خلقه بالرسل الذين بعثهم إليهم مبشرين ومنذرين» كما قال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}, وأتباع الرسول[ هم خلفاؤه في مهمته, ومن ذلك إقامة الحجة لله تعالى بالبلاغ والبيان والدعوة, والمدعو إما أن يستجيب فيهتدي فهو المطلوب الأعلى, وإما أن يعاند ويعرض فتقوم عليه الحجة وينقطع عذره؛ ولهذا قال تعالى لرسوله[: «{ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} وقال: {إن عليك إلا البلاغ}, فالمطلوب هو القيام بالدعوة والبلاغ، أما الهداية فهي بيد الله تعالى يهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله.

والبيان المطلوب قد يكون لأصول الدين وأسسه التي يقوم عليها كالإيمان والتوحيد وفرائض الإسلام والمحرمات القطعية كالشرك والكفر والنفاق وكبائر الذنوب , وقد يكون لبعض فروعه من السنن أو فضائل الأعمال أو محاسن الأخلاق, فالدعاة إلى الله لا يهملون حقيقة من حقائق الدين الكبرى أو الصغرى, ولا ينظرون إلى الأحكام الشرعية على أن بعضها لباب وبعضها قشور, بل الدين كله لباب ومهم، إلا أن درجة الأهمية تختلف كما جاء في حديث شعب الإيمان حيث قال [: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياء شعبة من الإيمان».



- رابعاً- إبراء الذمة بأداء أمانة الدعوة والخروج من عهدة التكليف:

الدعوة إلى الله تعالى واجب المسلمين, وأمانة في أعناقهم؛ كما قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}, وقال [: «بلغوا عني ولو آية», وقال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان».


فالمسلم عندما يقوم بهذه المهمة فإنه يؤدي الأمانة التي حملها المسلمون ويخلي مسؤوليته أمام الله تعالى, كما أخبر الله تعالى في قصة أصحاب السبت: {قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} قال الشيخ ابن سعدي: «وهذا هو المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة وإقامة حجة على المأمور والمنهي» اهـ.

كما أن الداعي ينصر الله بالدعوة إلى دينه والتحذير من مخالفة أمره كما قال تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}, وقد وعد سبحانه عباده القائمين بأمره بالنصر والتمكين فقال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا}, فلا يكسل الداعي ولا ييأس ولا يقنط, وليعلم أنه دائما على خير ما دام قائما بأمر الله تعالى من الدعوة.









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.36 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.42%)]