عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 16-10-2021, 04:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مع باكثير في موارده الفكرية والمنهجية


فالآية تظهر هي ومثيلاتها مدى أهمية التزكية والتربية إلى درجة جعلها مقصدًا من مقاصد القرآن العليا، فهل كان فقهاؤنا معبرين عن هذا المقصد، مستحضرين له تعليمًا وتأليفًا؟!

ثالثًا: البعد التاريخي:
لقد كان الزمن الذي جعله باكثير ظرفًا لروايته هو زمن الدولة العباسية التي مرت بمراحل متعددة قوة وضعفًا، تأثيرًا وتأثرًا، وحدة وتفرُّقًا، ولا أستطيع الجزم في بيان العلة وراء اختيار ذلكم الظرف الزمني؛ لجعله محضنًا لأحداث روايته، إلا أنه يبدو لي في إطار التكهن المباح أن باكثير أراد باختيار ظرفه الزمني هذا أن يبرز مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي، أحاط بها الغموض؛ بحيث لم تكن محل اهتمام المؤرخين على وجه التفصيل والبيان، كغيرها من المراحل التاريخية، ومرجع ذلك - فيما يظهر- صعوبة الوقوف على معارف ومعلومات كافية للغوص في ثنايا تلكم المرحلة توصيفًا وتحليلاً، وقد أشار إليها الطبري إشارات عابرة في تاريخه، بخلاف مثيلتها في الفكر والمنهج والمعتقد - أعني دولة القرامطة في البحرين - حيث بيَّنت كتب التاريخ شأنهم وحوادثهم ووقائعهم المشينة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يظهر أن باكثير التمس جانبًا من جوانب المماثلة في هذه المرحلة التي تتناسب مع ما عايَشه من مراحل عصره في القرن العشرين؛ حيث تتشابه وتتقارب الرؤى والأفكار والمقاصد والأغراض، وهذا ليس من فراغ، وإنما مرجعه إدراكه لأهمية قراءة التاريخ، والخروج منه بالدروس والعِظات، مؤكدًا مرة أخرى تأثره بالمنهجية القرآنية، التي اتخذت من تاريخ الأمم سبيلاً لتحقيق العبر، إنه يشير - رحمه الله - إلى أهمية استغلال التاريخ وربْطه بالأفكار؛ ليتسنى لحمَلَة المنهج تقريبه للناس من خلال أمثلة واقعية، وليثبت لهم أن حوادث التاريخ، وإن كانت ليست متطابقة صورة، إلا أنها متقاربة فكرًا ومنهجًا، وليبين أهمية البحث في التاريخ عن وصفات علاجية تمثل وسائل معينة على تجاوز أدواء الحاضر ومشاكله، مع التنبيه على عدم كونه الوصفة الوحيدة، وإنما شأنها أن تكون وسيلة من الوسائل ومنهجًا من المناهج.

لقد أظهرت رواية الثائر الأحمر هذه حجم العمق الفكري التاريخي، الذي امتلكه باكثير، من خلال غوصه في كتب التاريخ وتوظيفها في كتاباته ومؤلفاته المتعددة، وأرسل رسالةً من خلالها لأمته الغافلة، مبينًا حجم الخلل الذي أصابها بسبب بعدها عن تاريخها وأمجادها، ولا يغيب عن ذهن القارئ أن الاهتمام بالتاريخ لا يكون من جهة التباكي على أمجاد الماضي، وتذكر صفحاته المضيئة دون النظر إلى مقتضيات الحاضر، إنما هو من جهة تلمس الدروس والعظات، لقد حاول باكثير من خلال أحداث روايته، وسرد وقائعها، أن يبين أهمية النظر السُّنني الذي ينبغي أن يتبع في دراستنا لمراحل التاريخ، لقد أظهر حقيقة الصراع بين الحق والباطل في إطار سنة التدافع التي أكد عليها القرآن، إننا نلمس من خلال هذا النص حجم قوة الباطل في مواجهة الحق؛ حيث اجتمع على محاربته عدة جهات اختلفت صورها، لكن توحدت مقاصدها، إنها دفع الحق ومنهجه، وتسويد الباطل وأهله، ظهر ذلك في الرواية من خلال القرامطة بقيادة حمدان وعبدان، وغيرهما في الكوفة وغيرها، والزنج وثورتهم في البصرة، ومحاولات التجار الفجرة الذين كانوا يمارسون أعمالاً مخالفة؛ من أجل تحقيق مصلحتهم الشخصية، من خلال التقرب إلى السلطان بشتى الوسائل الممنوعة والمحظورة شرعًا، إلا أنه في ثنايا هذه الصورة السوداء يظهر الأمل، ويظهر النور في صورة رجلين يمثلان رمزًا لحملة دعوة الحق ومنهجه، الأول منهما: مثال العالم الرباني الذي جعل علمه في خدمة الدين الحق والدفاع عنه ضد أعدائه بشتى صورهم، تمثَّل في شخصية أبي البقاء البغدادي، والثاني: مثال الحاكم العادل الذي سلطه الله على الظالمين، واسترداد حقوق المظلومين، مثله الخليفة الموفق، لقد أدرك باكثير أن هذا المنهج لا يكون إلا بعلم نافع، وعمل صالح، وسلطان حاكم، وأرسل رسالةً إلى الجميع مضمونها أن الله يزع بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن.

لقد أحسن باكثير ووفق كثيرًا في توصيفه لفرقة القرامطة؛ بحيث أظهرها بصورة غاية في البشاعة والشناعة، وليس ذلك عن مبالغة، بل كان توصيفًا من واقعهم وعقيدتهم ومنهجهم المنحرف، ولو قدر للمرء أن يقرأ عنهم في كتاب من كتب التاريخ، فلن يصل في آخر الأمر إلى الصورة التي انتهى إليها باكثير في توصيفه عنهم، وهذا دليل من أدلة الإحكام والإتقان، الأمر الذي ينبهنا إلى قضية تكاد تكون مغيبة أو قريبًا منها، وهي ما من فرقة من الفرق المنحرفة في تاريخ الإسلام، إلا وكان لها مآرب اجتماعية في صورها، إلا أنها في حقيقتها سياسية دينية مبطنة، والغرض منها الطعن في هذا الدين وحملته وعلمائه.

الرابع: البعد الواقعي:
على الرغم من الغوص في أحداث تاريخية بعيدة في الزمن عن عصره، فإن باكثير لم يغفل عن استحضار واقعه، ذلكم الواقع الذي كان حافلاً بكثير من المفاصل الفكرية والعلمية والمنهجية، وبكثير من المواقف الموافقة والمخالفة، لقد أدرك تأخُّر أمته، وتقدُّم غيرها من الأمم، وكان في خِضَم ذلك يرى كثيرًا من أقرانه ممن أحسن مهنة الكتابة الأدبية يشرِّق أو يغرِّب، منتحلاً هذا الفكر أو ذاك - إلا من رحم الله - إنه وعلى الرغم من ذلك، أبى باكثير إلا أن يحتفظ بإسلاميته، التي اعتز بها، وجعلها المرجع لما رقمه من كتابات ومؤلفات، وقد انبرى في روايته الماتعة هذه؛ ليشكل خط الدفاع الأول ضد الأفكار الوافدة، وينبه على أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، وقد لمسنا من خلال هذه الرواية أنه اتبع منهجًا يختلف عن منهج غيره من دعاة الإسلام، الذين كانت نبرة الدفاع عن الإسلام ودفع الشبهات تملك عليهم فكرهم ووقتهم، إلا أن باكثير - فيما يظهر لي - اتَّبع منهجية مغايرة، لقد أدرك أن الانشغال بالدفاع والرد على الشبهات، يُضعف موقف الراد؛ لذلك أحسن التعبير عن منهجه، من خلال تعرية الأفكار وتوصيفها بما فيها من عورات واختلالات، ولا يغيب عن ذهن القارئ أن مراحل عصره الزمنية كانت تشهد صراعًا فكريًّا وإستراتيجيًا بين دولتين عُظميين: إحداهما تسوٍّق منهجها الاشتراكي الشيوعي، والثانية تعرض منهجها الرأسمالي الليبرالي، وما أكثر من انساق وراء الدعاية الشرقية والغربية لانتحال الفكرين والمنهجين على حساب دين الإسلام ودعوته، من خلال ذلك كله استطاع باكثير أن يعرض لنا هذين الفكرين بأسوأ صورة؛ حيث غاص في مآلات وعواقب تُبنى إحداها على كثير من الأصعدة، وانظر إلى صورة الرأسمالي البغيضة التي تجعل إنسانًا فردًا، لم يكن له أدنى جهد في جمع المال وتحصيله، كيف أنه يمتلك أموالاً طائلة وأراضي شاسعة، ليس من كسب حلال، وإنما هي ثمرة الظلم والاستبداد، وأكل أموال الناس بالباطل، وكل عام يمر تزداد ثروته وتتضخم، أما غيره فيزداد فقرًا على فقر، تلكم الصورة التي تتشدق بها دول الغرب، وتجنِّد كل وسائلها الإعلامية من أجل تحسينها، وتحاول أن توظف دعايتها من أجل تصدير فكرها إلى العالم الإسلامي، وفي المقابل نرى صورة الاستبداد الطبقي الذي يبدأ بالدفاع عن حقوق الفقراء والمساكين من العمال والفلاحين، ويزين لهم ثورته ضد الاستبداد الرأسمالي، حتى إذا حقَّق مراده منها، كشَّر عن أنيابه، وأظهر خُبثه ونَتنه، فازداد ظلمًا وتجبرًا، وهل يتناسى الناس الملايين الذين قضوا بسبب آلته وطغيانه وجبروته في دولته أو في غيرها، إن علينا أن نؤكد على أن الصراع الفكري بين الشرق والغرب كان صراعًا على الوسائل والمصالح، وإن كان في صورة صراع فكري، إلا أنهما كان يمثلان وجهين لعملة واحدة، هي المادية العلمانية، وهل يمكن أن نغفل - ونحن في إطار التوصيف الفكري - عن تلكم الوسيلة الرئيسة التي اتخذها أرباب الفكرين؛ لتحقيق أغراضهم في إفساد المجتمعات؟ إنها المرأة، لقد اتخذوها سبيلاً لقضاء شهواتهم، والوصول إلى مآربهم، فادعوا حرية المرأة، والدفاع عن حقوقها، ودعوتهم في حقيقتها إنما تصب في حرية الوصول إلى المرأة، في خِضَم ذلك كله يستعرض لنا باكثير هذين المنهجين في صورة تعبيرية باهرة في أسلوبها، بشعة في مضمونها، لا أظن أن أحدًا ممن لا يزال يحتفظ بفطرته السليمة يستمرئها، أو يتقبلها بخلاف من انطمست فطرته وجِبلَّته، وانظر إلى معسكر الفريقين المختلفين في ظاهرهما، كيف يكون همهم الاستغراق في الشهوات مع النساء وشرب الخمر وغيرها؟

وهي حال لم تختلف في الحاضر عن السابق، فإن ابن الحطيم، وأبا الهيصم، والكرماني، وعبدان، وحمدان قرمط، والولاة الفجرة كلهم ومن معهم، تكررت بشخوص غيرها، لكنها بقلوب وعقول فارغة إلا من أهوائها وشهواتها، لكن باكثير في مثل هذا البحر المتموج بالأحداث والوقائع، لم ينس بعدُ انقباض صدرونا أن يشرحها بمواقف أولي الأمر من العلماء والأمراء الأتقياء في الذود عن حِمى الإسلام أرضًا ومنهجًا، واستمع إليه وهو يقص علينا خبر أبي البقاء والمعتضد، فيقول: "وكان أبو البقاء البغدادي مقصًى عن العاصمة إذ ذاك بأمر الخليفة المعتمد؛ لميله إلى المعتضد ولي عهد المسلمين حينذاك، كما كان المعتضد مشغولاً بدسائس عمه المعتمد عن الالتفات لغيرها، فكان الجو مواتيًا لعبدان كل المواتاة، كما كان مواتيًا لحمدان أيضًا فيما يقوم به من النشاط الهائل بالسواد، ولم تتغير الحال عليهما إلا حينما توفي المعتمد، وبويع بالخلافة للمعتضد، ذلك أنه ما كاد المعتضد يتربع على كرسي بني العباس؛ حتى انتعشت الخلافة ودبَّت في أوصالها روح جديدة، شعر بها أولياؤها وخصومها على السواء، فما نسي الناس أنه ذلك البطل المغوار الذي خاض ميادين القتال منذ طر شاربه، واشترك مع أبيه الموفق العظيم في صراع ذلك الطاغية الخطير، طاغية الزنج، حتى قضيَا على فتنته العظمى، فأنقذا الخلافة من خطر ماحق، وكان أبو البقاء يحبه، ويتمنى على الله أن يجلسه على كرسي الخلافة يومًا ما، ليحقق في عهده كل ما رسمه من مناهج العدل، وطرائق الإصلاح، ولم يذكر أبو البقاء أنه فرح يومًا ما فرِح يوم أعيد من منفاه بدير العاقول، فهرع إلى مجلس المعتضد؛ ليقول له: السلام عليكم يا أمير المؤمنين، فتلقاه المعتضد بمزيد الحفاوة والتكريم، وأقبل عليه، وأدنى مجلسه، وأخلى له وجهه، ومن دونه الوزراء والكبراء وأصحاب الرياسات، ينظرون ويتعجبون، قال لأبي البقاء فيما قاله: "إن بابي لا يغلق دونك بليل أو نهار، وإني أعاهد الله ربي لا تدعوني إلى خطة فيها رضى الله ورسوله وخير الناس، إلا نفذتها لك ما استطعت"، فشكره أبو البقاء، وقال له: (حسبي وحسب الناس منك هذا، وإني لأرجو الله أن تكون من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله يوم القيامة)، ثم روى الحديث بتمامه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنده، ولم يلبث أن تسامع أهل العاصمة بما دار في مجلس أمير المؤمنين بينه وبين أبي البقاء، فاستبشر عامة الناس من الفقراء والمساكين خيرًا، وقوي رجاء المظلومين من الأجراء والفعلة والصناع والأكرة أن يرفع عنهم الجور الواقع بهم وبذراريهم، وتوجَّس الأغنياء وأرباب الضياع الواسعة وكبار التجار شرًّا، فأمسوا خائفين يترقبون، ولم يكد أبو البقاء يخرج إلى أتباعه المستضعفين من مختلف الأصناف؛ ليزورهم ويتفقَّد نقاباتهم، وليبشرهم بالعهد الجديد الذي يوشك أن يدفع عنهم الحيف، ويبسط لهم الرخاء والعدل، حتى هاله ما رأى وسمع من آثار انبعاث فتنة الكرماني من جديد، وقام أبو البقاء من مجلسه وقد وقر في نفسه أن الأمر جد، وأن القرامطة قد نفثوا سمومهم في الناس، وأن الناس معذورون في الاستجابة لهم، وأنه إذا كان هذا حالهم في قلب الدولة، فكيف حالهم في أجزائها وأطرافها؟ واتصل بالخليفة المعتضد، فقص عليه ما رأى وما سمع، وقال له: "إن الدين في خطر، وإن الدولة في خطر، فإن كان لا يعنيك أن تحمي دين الله، فاحم ملكك وملك آبائك".


إن الذي يقرأ رواية (الثائر الأحمر) لباكثير، لا يشك مطلقًا في إسلامية فكره وقلمه، ويدرك أنه يرسم من خلال كتاباته منهجًا وسبيلاً يدعو من خلاله إلى الإسلام، ويقدم بذلك تعبيرًا صادقًا عن تحمُّل مسؤولية هذا الدين، وجعْله الهمَّ الأول؛ ليكون نموذجًا لكل مسلم يغار على دينه وأمته، فرحم الله باكثير، وجعل ما كتب، وسطر في ميزان حسناته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


[1] انظر: من أساليب الإقناع في القرآن الكريم؛ د. معتصم بابكر مصطفى، ص (66).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.73 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.66%)]