عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 10-05-2021, 04:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس مستفادة من صلح الحديبية

دروس مستفادة من صلح الحديبية

- المحن بوابة الانطلاق نحو المعالى (3)


أحمد الشحات




الحكم والفوائد التي تضمنها صلح الحديبية أكبر وأجَّل من أن يحيط بها أحد إلا الله الذي أحكم أسبابها، وقد سطَّر القرآن هذه الدروس والفوائد في ثنايا سورة الفتح؛ حيث أنزل الله -عز وجل- هذه السورة فيما كان من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر الكافرين، وجعل ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روي عن ابن مسعود، - رضي الله عنه -، وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية، واليوم مع الدرس الثاني وهو: المحن بوابة الانطلاق نحو المعالى.

قد لا يبلغ الإنسان بعمله المراتب العالية، ويريد الله أن يكرم عبده المؤمن فيرفع درجته بالبلاء إلى منازل لم يكن ليبلغها بعمله المجرد، لذا فبعد أن جاء افتتاح سورة الفتح بالبشرى للرسول - صلى الله عليه وسلم -، جاء بعدها مباشرة الامتنان على المؤمنين بالسكينة وهى الطمأنينة، والاعتراف لهم بالإيمان السابق وتبشيرهم بالمغفرة والثواب، وعون السماء بجنود الله، {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} (الفتح: ٤ - ٥).

زيادة الإيمان والإذعان والانقياد

قال ابن القيم فى الزاد: «فما سببه -سبحانه- للمؤمنين من زيادة الإيمان والإذعان والانقياد على ما أحبوا وكرهوا، وما حصل لهم في ذلك من الرضى بقضاء الله وتصديق موعوده، وانتظار ما وعدوا به، وشهود منة الله ونعمته عليهم بالسكينة التي أنزلها في قلوبهم أحوج ما كانوا إليها في تلك الحال التي تزعزع لها الجبال، فأنزل الله عليهم من سكينته ما اطمأنت به قلوبهم، وقويت به نفوسهم وازدادوا به إيمانا.

حكم الله لرسوله

وقد جعل الله -سبحانه- هذا الحكم الذي حكم به لرسوله وللمؤمنين سببا لما ذكره من المغفرة لرسوله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولإتمام نعمته عليه، ولهدايته الصراط المستقيم، ونصره النصر العزيز، ورضاه به، ودخوله تحته، وانشراح صدره به، مع ما فيه من الضيم وإعطاء ما سألوه، كان من الأسباب التي نال بها الرسول وأصحابه ذلك، ولهذا ذكره الله -سبحانه- جزاء وغاية، وإنما يكون ذلك على فعل قام بالرسول والمؤمنين عند حكمه -تعالى- وفتحه، وتأمل كيف وصف -سبحانه - النصر بأنه عزيز في هذا الموطن ثم ذكر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين في هذا الموطن الذي اضطربت فيه القلوب وقلقت أشد القلق، فهي أحوج ما كانت إلى السكينة، فازدادوا بها إيمانا إلى إيمانهم».

منة الله على المؤمنين

يقول الشيخ السعدى: «يخبر -تعالى- عن منته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم، وهي السكون والطمأنينة، والثبات عند نزول المحن المقلقة، والأمور الصعبة، التي تشوش القلوب، وتزعج الألباب، وتضعف النفوس، فمن نعمة الله على عبده في هذه الحال أن يثبته ويربط على قلبه، وينزل عليه السكينة، ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت ونفس مطمئنة، فيستعد بذلك لإقامة أمر الله في هذه الحال، فيزداد بذلك إيمانه، ويتم إيقانه، فالصحابة -رضي الله عنهم- لما جرى ما جرى بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركين، من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم، وحط من أقدارهم، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس، فلما صبروا عليها ووطنوا أنفسهم لها، ازدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم».

إصلاح نفوس الصحابة

يقول الطاهر بن عاشور:- «ذكر الله عنايته بإصلاح نفوس الصحابة وإذهاب خواطر الشيطان عنهم وإلهامهم إلى الحق في ثبات عزمهم، وقرارة إيمانهم تكوين لأسباب نصر النبي - صلى الله عليه وسلم - والفتح الموعود به ليندفعوا حين يستنفرهم إلى العدو بقلوب ثابتة، ألا ترى أن المؤمنين تبلبلت نفوسهم من صلح الحديبية إذا انصرفوا عقبه عن دخول مكة بعد أن جاؤوا للعمرة بعدد عديد حسبوه لا يغلب، وأنهم إن أرادهم العدو بسوء أو صدهم عن قصدهم قابلوه فانتصروا عليه وأنهم يدخلون مكة قسرا.

اطمئنان النفوس بعد الاضطراب

وقد تكلموا في تسمية ما حل بهم يومئذ فتحا، فلما بين لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما فيه من الخير اطمأنت نفوسهم بعد الاضطراب، ورسخ يقينهم بعد خواطر الشك، فلولا ذلك الاطمئنان والرسوخ لبقوا كاسفي البال شديدي البلبال، فذلك الاطمئنان هو الذي سماه الله بالسكينة، وسمي إحداثه في نفوسهم إنزالا للسكينة في قلوبهم فكان النصر مشتملا على أشياء من أهمها إنزال السكينة، وإنزالها: إيقاعها في العقل والنفس وخلق أسبابها، وأطلق على ذلك الإيقاع فعل الإنزال تشريفا لذلك الوجدان بأنه كالشيء الذي هو مكان مرتفع فوق الناس فألقي إلى قلوب الناس، ولما كان من عواقب تلك السكينة أنها كانت سببا لزوال ما يلقيه الشيطان في نفوسهم من التأويل لوعد الله إياهم بالنصر على غير ظاهره، وحمله على النصر المعنوي لاستبعادهم أن يكون ذلك فتحا، فلما أنزل الله عليهم السكينة اطمأنت نفوسهم، فزال ما خامرها وأيقنوا أنه وعد الله وأنه واقع فانقشع عنهم ما يوشك أن يشكك بعضهم فيلتحق بالمنافقين الظانين بالله ظن السوء».

الرقى والعلو للقلوب

فلولا هذا الحادث لما نزلت هذه السكينة، ولما جاء هذا التكريم، ولما حصل هذا الرقى والعلو لقلوب هذه الثلة المباركة، وسكون النفس وطمأنينتها من أعظم أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، وهى كذلك من أهم أسباب النصر والتمكين للمسلمين على أعدائهم من الكفار والمنافقين، وهي جند خفي من جنود الله ما دخل معركة إلا وحسمها، وتأمل في قول الله -تعالى- في حادثة الهجرة: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: ٤٠).

وفي حنين {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (التوبة: ٢٥ - ٢٦)، وفي الحديبية {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الفتح: ٢٦).

جنود الله الخفية

فأنى للمشركين مهما قويت عدتهم وكثر عددهم أن تتنعم قلوبهم بهذه السكينة؟! بل على العكس من ذلك، فهناك جندي آخر من جنود الله الخفية وهو الرعب، ففي بدر يقول الله -تعالى- {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } ( الأنفال: ١٢).

وفي المواجهة مع اليهود يقول الله -تعالى-:- {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر: ٢ )، هذه نماذج من جنود الله وغيرها كثير كقوله -تعالى-: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} (المدثر: ٣١)، وهذه الجنود مأمورة ومتأهبة لكي تنتقم من الظالمين ولكن الله يؤخرها ويمسكها لعلل وحكم عديدة، هذه الحكم التي من أجلها قدر الله أن يرجع المسلمون دون أن يدخلوا البيت الحرام بعدما عزموا على آداء العمرة وصاروا على مشارف الحرم.

والملاحظ هنا أن نزول السكينة جاء بعدما اطلع الله على ما في قلوبهم من إيمان، وبعد نزول السكينة ارتفعت درجتهم وارتقت قلوبهم وزاد إيمانهم، ومعلوم أن نزول السكينة على القلوب في أوقات الكرب والبلاء والشدة من أعظم ما تحتاج إليه النفوس، وكفى بهذه الطمأنينة نعمة وجزاء من الله.

كم تساوي هذه السكينة؟

ترى كم تساوي هذه السكينة؟! وما الذي يمكن أن يبذله الكفار والمنافقون من أجل أن يحصلوا على معشار هذه السكينة؟ إنها أمور لا يمكن أن تشترى بالمال، ولا علاقة لها بالموازين المادية، ولكن ما المتوقع إذا فرط المسلمون في الأسباب التي يستحقون بها أن تنزل السكينة على قلوبهم؟ ثم ماذا يتوقع إذا أضاف المسلمون إلى ذلك ضعفاً وتأخراً في الأسباب المادية؟ بلا شك أن الغلبة ستكون في جانب غير المسلمين، فالضعف في الأسباب المادية لدى المسلمين قد يجبره الله ويعوضه، أما التقصير في الأسباب الإيمانية فلا كفارة له إلا بتحصيل أسبابها والتمسك بوسائلها، وهذا هو أقصر طريق لتحقيق الظفر والنصر.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.70 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.07 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.74%)]