عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 10-06-2023, 06:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,807
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصعاليك في المجتمع الجاهلي

وصعاليك هذه الطائفة جميعا ذوو عزيمة قوية صادقة، لا يثنيهم شيء عن هدفهم الذي يسعون إليه إلَّا الموت، يقول تأبَّط شرًّا مصورًا صدق عزيمته وقوَّة نفسِه:
وكنتُ إذا ما هممتُ اعتزمتُ *** وَأَحْر إذا قلتُ أنْ أفعلا[35]

وإذا كانت الحياة قد قست عليهم فإنهم لن يستكينوا لها، وإذا كانت تعمل على إخضاعهم وإذلالهم فإنَّهم سيقفون في وجهها، ويتحدَّونها، ويشنون عليه حربًا لا هوادة فيها، وإذا كانت قد ألقت بهم في الرغام فإنهم سينهضون برغم كل شيء. ولعل هذا البيت الذي قاله أبو خِراشٍ الهذلي الصعلوك في رثاء أخٍ له يعبّر تعبيرًا دقيقًا عن تلك القوة النفسية التي كان يتمتع بها كل صعلوك من صعاليك هذه الطائفة:
ولكنَّه قد نازَعته مجاوعٌ *** على أنَّه ذو مِرَّة صادقُ النهض[36]
هكذا كانت نفسية هؤلاء الصعاليك، كلٌ منهم "قد نازعته مجاوع"، ولكن كلًّا منهم "ذو مِرَّة صادق النهض".

ومن عناصر قوتهم النفسية أنفتهم من القيام بتلك الأعمال التي يصح أن يطلق عليها "الأعمال الفرعية في المجتمع القبلي"، وهي تلك التي كان يقوم بها العبيد وأشباههم، ويأنف السادة من القيام بها، كخدمة الإبل والقيام بأمرها[37]. ويصرح تأبَّط شرًّا بترفعه على هذه الأعمال الفرعية وبأنَّه يأنف من القيام بها:
ولستُ بتِرعِيٍّ طويل عَشاؤُهُ *** يؤنفها مستأْنَفَ النبت مُبْهِلِ[38]

ويصرح مرَّة أخرى بأنه يخجل من الوقوف وسط قطعان الغنم، وقد حمل في يده عصا طويلة حتى أشبه ذلك الطائر المائي الطويل المنقار وقد وقف في مستنقع من مستنقعات المياة الضحلة:
ولستُ براعي ثَلَّة قام وَسطها *** طويل العصا غُرْنيق ضحل مُرَسَّل[39]
فهم لا يرتضون لأنفسهم إلا تلك الأعمال الأساسية التي يقوم عليها المجتمع البدوي كالغزو والإغارة. يقول تأبَّط شرًّا:
متى تبغني ما دمتُ حيًّا مسلَّمًا *** تجدني مع المسْتَرْعل المتَعبْهِل[40]
ولكنَّه في الطليعة المتقدمة بين القادة والأبطال.

ثمَّ هم -برغم فقرهم وما يلاقونه من مجتمعهم - كرماء، حتى ليُضرب بهم المثل في الكرم[41]، ويُقرَن عروةُ بحاتم الطائي الذي يُعدُّ في نظر العرب المثل الأعلى للجود والسخاء، وقد قال عبد الملك بن مروان: من زعم أن حاتمًا أسمح الناس فقد ظلم عُروةَ بنَ الورْدِ[42] وأبدى تعجبَّه من أن الناس ينسبون الجود والسخاء إلى حاتم ويظلمون عروة[43]، ووصفه الأصمعيُّ بأنَّه "شاعر كريم"[44]. والواقع أننا لسنا في حاجة إلى هذه الشهادات وأمثالها؛ لأنَّ أخبار عروة نفسها تفيض بأحاديث كرمه، بل إنَّ الرغبة في الكرم التي كانت تملأ عليه نفسه كانت بعضَ الدوافع التي دفعته إلى تلك الثورة الاقتصادية التي أعلنها في المجتمع الجاهلي:
يُريح على الليل أضيافَ ماجد
كريم، ومالي سارحًا مالُ مُقتِرِ[45]
أيهلك معتمٌّ وزيدٌ ولم أقم
على ندَب يومًا ولي نفس مخْطِر[46]


وهي تلك الثورة التي كانت تدفعه إلى مهاجمة الأغنياء البخلاء ليوزِّع ما يغنمه منهم على الفقراء الذين كانوا يلتفُّون حوله، ويلوذون به في سني الجدب والقحط والجفاف[47]. وهو -قبل هذا كله- صاحب هذه الأبيات الجميلة التي يصور فيها كرمه تصويرًا رائعًا على حظٍّ كبير من الإنسانية، فيراه مشاركة الفقراء له في إنائه، واكتفاءه هو بالماء الخالص في أيام الشتاء الباردة ليوفر طعامهم، بل يراه تقسيمًا لجسمه في أجسامهم حتى أصبح هزيلًا شاحبًا:
إنِّي امرؤٌ عافى إِنائي شرْكةٌ
وأنت امرؤٌ عافي إِنائك واحدُ
أتهزأ منِّي أنْ سمنتَ وقد ترى
بجمسي مسَّ الحق، والحقُّ جاهدُ
أُقسِّم جسمي في جسومٍ كثيرةٍ
وأحسو قرَاحَ الماءِ والماءُ باردُ[48]


وتنتشر أحاديث هذا الكرم في شعره انتشارًا واسعًا[49]، حتى لتكاد كل صفحة من ديوانه تنطق بهذه الأحاديث التي كان يراها:
أحاديث تبقى، والفتى غيرُ خالدٍ *** إذا هو أمْسَى هامةً فوق صَيَّرِ[50]

وهي أحاديث كان كلُّ صعلوك يحرص على أن تبقى له بعد موته. وفي قافية تأبَّط شرًّا المفضليّة المشهورة دفاعٌ قويٌّ عن كرمه وإسرافه اللذين جرَّا عليه كثيرًا من اللوم والعذل والتأنيب:
بلْ منْ لعذَّالة خذَّالة أَشِبٍ
حرَّقَ باللوْم جلدي أيَّ تَحراقِ

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.31 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.68 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.25%)]