عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-06-2023, 06:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,835
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصعاليك في المجتمع الجاهلي



خيوطه مارى تُغارُ وتفتلُ
وأغدو على القوت الزهيد كما غدا
أَزَلُّ تهاداهُ التنائفُ أَطحلُ[18]

وإذا كان الجوع أقسى ما يصبه الفقر من سياط على جسد الفقير فإنَّ هناك سياطًا أخرى لا تقل قسوة عن سياط الجوع، ولكنَّها سياط نفسية يصيبها الفقر على نفس الفقير.

والحديث عن هذه السياط النفسية يطول؛ لأنها تختلف باختلاف النفسيات ووقع الفقر عليها. وقد حاول صاحب "الفلاكة والمفلوكين"[19] أن يحصرها، فعقد في كتابه فصلًا طويلًا «في الآفات التي تنشأ من الفلاكة، وتستلزمها الفلاكة وتقتضيها»[20]، وعدَّ منها الآلام العقلية، وهو تعبير يرادف ما نعبر عنه بالآثار النفسية، وحصرها في ثلاثة أنواع، وحاول أن يدلل على هذا التقسيم الثلاثي تدليلًا عقليًّا منطقيًّا تكثر فيه الحدود والأقسام والمقدمات والنتائج. ولكن هذه المحاولة -من وجهة النظر العلمية الحديثة - غير دقيقة، فإنَّ هذه الآثار النفسية ليس من اليسير حصرها، فليست المسألة مسألة منطقية تقبل القسمة العقلية، ولكنها مسألة نفسية تتصل بالنفس البشرية، تلك النفس الغامضة الممعنة في الغموض ذات السراديب العميقة، والأسرار الدفينة المكبوتة.

ويحاول علماء النفس المحدثون دراسة هذه المسألة وأشباهها على أساس ما يسمونه "بالعقد النفسية"، ومن بين هذه العقد عقدة يسمونها "عقدة الفقر"، وهي تلك التي تتكون نتيجة للإحساس بالفقر، وتدفع صاحبها في محاولة التعويض عن الشعور بالنقص إلى العمل على أن يصير غنيًّا[21]. فهذه العقدة هي المحور الذي تدور حوله تلك الآثار النفسية التي يخلفها الفقر في نفس الفقير.

والمتأمل في أخبار الصعاليك وأشعارهم يلفت نظره شعور حاد بالفقر، وإحساس مرير بوقعه على نفوسهم، وشكوى صارخة من هوان منزلتهم الاجتماعية وعدم تقدير المجتمع لهم، وعجزهم عن الأخذ بنصيبهم من الحياة كما يأخذ سائر أفراد مجتمعهم، أو الوقوف معهم على قدم المساواة في معترك الحياة، لا لأنهم هم أنفسهم عاجزون، وإنما لأن مجتمعهم ظلمهم، وحرمهم من تلك العدالة الاجتماعية التي يطمح إليها كل فرد في مجتمعه، وجرّدهم من كل الوسائل المشروعة التي يواجهون بها الحياة كما يواجهها غيرهم ممن توافرت لهم هذه الوسائل.

فقيس بن الحدَاديَّة[22] يرى أنه لا يساوي عند قومه «عنزًا جرْباء جذْماء»[23]. وفي أخبار الشنفرى أن قومه قتلوا رجلًا في خفرة بعض الفهميين، «فرهنوهم الشنفرى وأمه وأخاه، وأسلموهم، ولم يفدوهم»[24]، وخبر تلك اللطمة التي لطمتها الفتاة السَّلاميَّة للشَّنْفرى، والتي كانت السبب المباشر في تصعلكه؛ لأنها أنكرتْ عليه أن يتسامى إلى مقامها الاجتماعي، ويرفع الحواجز الاحتماعية التي تفصل بين طبقتيهما، ويناديها بأخته، خبر كبير الدلالة على ما كان يعانية هؤلاء الصعاليك من مجتمعهم[25].

وينظر هؤلاء الفقراء الجياع، المحتقرون من مجتمعهم، المنبوذون من إخوانهم في الإنسانية، إلى الحياة ليشقوا لهم طريقًا في زحمتها، وقد جُرِّدوا من كل وسائلها المشروعة، فلا يجدون أمامهم إلا أمرين: إما أن يقبلوا هذه الحياة الذليلة المهينة التي يحيونها على هامش المجتمع، في أطرافه البعيدة، خلف أدبار البيوت، يخدمون الأغنياء، أو ينتظرون فضل ثرائهم، أو يستجدونهم في ذلة واستكانة، وإما أن يشقوا طريقهم بالقوة نحو حياة كريمة أبية، يفرضون فيها أنفسهم على مجتمعهم، وينتزعون لقمة العيش من أيدي مَنْ حرموهم منها، دون أن يبالوا في سبيل غايتهم أكانت وسائلهم مشروعة أم غير مشروعة، فالحق للقوة، والغاية تبرر الوسيلة.

وقد سلك الصعاليك السبيلين، أو -بعبارة أدق- انقسموا مع هذين السبيلين إلى طائفتين: طائفة قبلت ذلك الوضع الاجتماعي الذليل، رضيه لهم ضعف في النفس أو ضعف في الجسد أو ضعف في النفس والجسد جميعًا، وطائفة رفضت ذلك الوضع، وأبت أن تعيش تلك الحياة الساقطة التافهة المهينة، ووجدت في القوة، قوة النفس وقوة الجسد، وسيلة تشق بها طريقها في الحياة.

وفي شعر عروة موازنة طريفة بين هاتين الطائفتين، يعقدها أبو الصعاليك في دقة وبراعة، ويصور فيها اختلاف ما بينهما في الشخصية، وأسلوب الحياة والغاية التي تنتهي إليها كل منهما[26].

وتتجلى قوة نفوس هذه الطائفة الثانية من الصعاليك في استهانتهم بالحياة في سبيل الوصول إلى الغاية التي يسعون إليها. إنهم يريدون أن يحققوا لهم مكانة في هذا المجتمع الذي يحتقرهم ويستهين بهم عن طريق فرض أنفسهم بالقوة عليه، وهم في سبيل هذا لا يبالون بشيء، حتى بالحياة نفسها، فهم جميعًا مؤمنون بفكرة الفناء في سبيل المبدأ، وما قيمة الحياة إذا عاش الإنسان فقيرًا محتقرًا، منبوذًا من مجتمعه، مجفوًا من أقاربه؟ إنَّ الموت في هذه الحالة خير من الحياة:
إذا المرءُ لم يَبْعث سَوَامًا ولم يَرُحْ
عليه، ولم تعطف عليه أَقاربُهْ
فللموتُ خيرٌ للفتى مِنْ حياته
فقيرًا، ومِنْ موْلى تدبُّ عقاربه[27]
فقلت له: ألا احْيَ، وأنت حر
ستشبعُ في حياتك أَو تموتُ[28]
فسر في بلاد الله والتمس الغنى
تعش ذا يسار أَو تموتَ فتُعْذَرا[29]


وفيم الخشية من الموت؟ إن كل حي ملاقيه، سواء مَنْ خاطر بنفسه ومن أحجم، بل إن الموت قد يصيب المتخلف في أهله وينجو منه المغامر المخاطر:
أرى أمَّ حسّان الغداةَ تلومني
تخوفني الأَعداءَ والنفس أَخْوَفُ
لعلَّ الذي خوَّفتنا مِنْ أَمامنا
يصادفه في أَهله المتخلف[30]


ومهما يمدُّ الله في عمر الإنسان فالموت في انتظاره مُشْرعةً أسنَّته:
وإِني، وإن عُمِّرت، أَعلم أَنني *** سألقى سنان الموت يبرق أَصْلعا[31]

فالموت نهاية كل حي، لن ينجو منه أحد مهما يُحِط نفسَه بأبواب قويّة وحراس أشدّاء:
لو كنتُ في رَيمانَ تحرُسُ بابه
أَراجيلُ أُحبوشٌ وأغضَفُ آلِفُ
إِذن لأَتتني حيثُ كنتُ منيَّتي
يخبُّ بها هاد بأَمريَ قائفُ[32]


وهي ميتة واحدة يلقاها الإنسان ثم لا تتكرر:
دعيني، وقولي بعدُ ما شئتِ، إِنني *** سيُغْدَى بنعشي مرَّةً فأغيَّبُ[33]

ثم ما الذي يغري الصعلوك على التمسك بالحياة والحرص عليها؟ إنَّ أحدًا لا يرغب في حياته، وإن أحدًا لن يبكي عليه بعد موته. إنه يعيش وحيدًا، ويموت وحيدًا:
إذَا ما أتتني ميتتي لم أبالها *** ولم تذْرِ خالاتي الدموعَ وعمَّتي[34]

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.18 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.55 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.83%)]