عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 22-09-2021, 10:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,571
الدولة : Egypt
افتراضي نص المعارضة وإعادة إنتاج المعنى.. دراسة في معارضات الإحيائيين

نص المعارضة وإعادة إنتاج المعنى.. دراسة في معارضات الإحيائيين
محمود فرغلي علي موسى







تمثل المعارضة Pastiche غرضا شعريا أساسيا من أغراض الشعر لدى مدرسة الإحياء والبعث، وبخاصة لدى رائدها محمود سامي البارودي الذي عارض فحول الشعر العربي في عصوره المختلفة من أمثال: النابغة الذبياني وامرئ القيس وبشار بن برد وأبي نواس والمتنبي وأبي فراس والشريف الرضي... إلخ، ولدى شاعرها البياني الأول أحمد شوقي الذي سلك الطريق نفسه فعارض: أبي نواس والبحتري وأبي تمام والمتنبي والشريف الرضي والبوصيري والحري القيرواني وابن زيدون وأمثالهم،حتى شغلت تلك المعارضات قسماً كبيراً من ديوانه، وصارت تمثل جانباً فنياً مستقلاً فيه، وعلى النهج سار الشعراء من أمثال: حافظ إبراهيم في مصر، و الزهاوي و الرصافي، وعبد المحسن الكاظمي في العراق، وخليل مردم وشفيق جبري في الشام.....إلخ.



ولا يمثل ظهور هذا النوع من القصائد إلا ملمحا من ملامح ارتباط شعراء الإحياء ارتباطا وثيقا بالشعر العربي القديم وخضوعهم له على عدة مستويات بدء بالموسيقى وانتهاء بالأخيلة والمعاني والتراكيب.هذا الخضوع جاء نتاج عوامل سياسية وثقافية واجتماعية عديدة تتعلق بنوع الثقافة السائدة وحركة الطباعة،وظهور حركة الإصلاح التي حملت على عاتقها مهمة بعث الحضارة العربية سياسيا واجتماعيا وأدبيا[1]، ولا شك أن إرثا من المعارضات الشعرية القديمة،إضافة لما هو معروف من طبيعة القصيدة العربية الشفاهية شكّلا معا دافعا لإعادة بعث هذه السنة الأدبية على يد كثير من شعراء تلك المدرسة، في إطار مذهبهم الشعري وطبيعة علاقتهم بالماضي. ومن هنا تتبدى أهمية هذا النوع من النصوص في الكشف عن رؤيتهم للتراث وكيفية قراءته والتعامل معه،وهل هي علاقة استهلاك واجترار أم تفاعل وتخطي؟



والتعريف المبسط للمعارضة هو: أن يقول شاعر قصيدة في موضوع ما، فيقوم شاعر آخر، وينظم قصيدة أخرى على غرارها، في الوزن والقافية والموضوع."وهكذا تقتضي (المعارضة) وجود نموذج فني ماثل أمام الشاعر المعارض، ليقتدي به، ويحاكيه، أو يحاول تجاوزه. ولهذا لم تكن في الشعر الجاهلي (معارضات) لأن المثال (أو النموذج) الشعري قبله كان مجهولاً"[2]. وهذا التعريف المبسط يخفي وراءه كثيرا من الدلالات الثقافية والحضارية التي تُنتج فيها النصوص المعارِضة،وهي ترتبط – فيما نرى – ببنية ثقافية وفكرية سائدة لها منهاجها في إنتاج المعرفة والإبداع، قوامه قياس الغائب على الشاهد والفرع على الأصل.وهو النظام الفكري الذي أطلق عليه محمد عابد الجابري النظام المعرفي البياني،حيث الإبداع "لا يعني عملية الخلق من عدم،بل إنشاء شيء جديد انطلاقا من التعامل،مع شيء أو أشياء قديمة.قد يكون هذا التعامل إعادة تأسيس أو تركيب،وقد يكون نفيا وتجاوزا ومن هنا يمكن القول إن الإبداع في الفن هو إنتاج نوع جديد بواسطة إعادة تركيب أصيلة للعناصر الموجودة "[3]، لذلك تعبر المعارضات بصورة ما عن مفهوم الشعر وطرائق إنتاجه في وعي الإحيائيين، وفي تسميتهم (الإحياء والبعث )، يكمن ذلك المفهوم القائم على بعث الشعرية العربية القديمة في مراحل عنفوانها وتوهجها،وما شقته من مسارات على يد البحتري وأبي تمام وأبي نواس والمتنبي وأبي العلاء ...إلخ.



ويتنازع عملية المعارضة جناحان أساسيان: الأول خاص بذاتية الشاعر وتجربته الشعرية الخاصة والمنفصلة عن النص المعارَض تاريخيا،والثاني خاص بذاكرته الحافظة الواعية،حيث تلعب تلك الذاكرة دورا أساسيا في تشكيل بنية النص المعارض،ومن منظور نفسي لا تعني المعارضة المواجهة الصريحة " بقدر ما يبدو الموقف مطروحا من خلال هذا المنظور النفسي للشاعر من خلال موقفين:الأول يتعلق بوجه التشابه بين التجربة الشعورية التي عاشها الشاعر المتأخر..والثاني يتعلق بذلك الإحساس الكامن في وجدان الشاعر،شجعه في تملكه لهذا التراث الذي ينتزع منه ما يشاء دون خوف أو وجل "[4].



فالمعارضة قراءة خاصة يقوم بها المبدع للنص الغائب،وتتم تلك العملية – وفقا لرؤية محمد بنيس - من خلال قوانين ثلاثة هي الاجترار، و الامتصاص، والحوار، ففي القانون الأول يكون النّص الحاضر استمراراً للنص الغائب، وهو إعادة له إعادة محاكاة وتصوير، ويتلخّص عمل المؤلف هنا في أن يقدّم إلينا النص الغائب في أوزان شعرية، وفي قانون الامتصاص قبول للنص الغائب وتقديس له وإعادة كتابته بطريقة لا تمسّ جوهره، وينطلق المؤلف هنا من قناعة راسخة، وهي أنّ هذا النص غير قابل للنقد أو الحوار، ولا يعني هذا سوى مهادنة للنص الغائب والدفاع عنه وتحقيق سيرورته التاريخية، أما قانون الحوار فهو نقد للنص الغائب، وتخريب لكلّ مفاهيمه المتخلّفة، وتفجير له، وإفراغه من بنياته المثالية، وهو لايقبل المهادنة، فهو أعلى درجات التناص وأرقاها"[5].



وهذا الأخير هو الذي تبرز من خلاله مقدرة الشاعر وقدرته على بعث نص جديد قادر على الحياة والتفاعل مع غيره من النصوص السابقة عليه والتالية له، فالشاعر الجديد يستحضر الشاعر القديم نصا وتجربة عبر نصه داخلا معه في منافسة من نوع خاص،لكنه لا يتوقف -غالبا - عند حدود بنية النص السابق،بل نجده يعيد بناءه مضيفا للنص القديم حياة جديدة.وخلاصة الأمر أن المعارضة لقاء شعري بين شاعرين لم يجمعهما المكان ولا الزمان،ولكن جمعتهما حالة شعورية واحدة منتجة لنص يتولد عنه حالة أخرى تجمع بين الجدة والتشابه.



أما فنية المعارضة، فموضع خلاف بين الباحثين، حيث نالت -خاصة معارضات شوقي- قسطا وافر من الهجوم قديما وحديثا،يكفي أن نشير في هذا الإطار إلى معارضات شوقي وما نالته من هجوم من قبل نقاد معاصرين له مثل طه حسين وآخرين حداثيين من مثل أدونيس وكمال أبي ديب ومحمد بنيس.



يقول طه حسين في معرض حديثه عن بائية شوقي التي يعارض بها أبا تمام " لاحظت أنت ولاحظت أنا أن إعجابنا الأول (يقصد بقصيدة شوقي عند سماعه لها أول مرة) لم يكن إلا ظاهرة اجتماعية، وأن الذوق العام وذوقنا الخاص تناقضا غير قليل هذه المرة،ذلك لأننا كنا أثناء هذه القراءة الثانية قد تخلصنا من فوز الترك وتخلصنا من الجماعة التي كانت تحيط بنا ولم نحكّم إلا ذوقنا الشخصي وذوقنا الشخصي معقد –كما تعلم – فيه أثر الأدب العربي القديم وفيه أثر الأدب الغربي الحديث، وفيه أثر الثقافة مركبة مختلفة العناصر، فليس غريبا أن يكون حكمه في الشعر مخالفا لحكم الجماعات المختلطة،وأذكر وتذكر أنت أيضا أننا لهونا يومئذ بإخضاع هذه القضية لهذا الذوق المعقد،فضحكنا وأغرقنا في الضحك والسخرية من هذه الصور العتيقة البالية تُتخذ لتصوير الحياة الجديدة الحاضرة"[6].



أما أراء أدونيس وأبي ديب وبنيس فمبثوثة في دراساتهم عن شعر شوقي ومعارضاته، فهو - أي شوقي - في معارضاته - في رأي بنيس- مجرد مستهلك في مقابل منتج ومعيد للإنتاج (أبي تمام ) " وهو ما يؤطر مفهوم الشعر ويحدد دلائله.فهو – الشعر- عند أبي تمام معاناة ونسكيّة وإعادة إنتاج،أي كتابة،وهو عند الثاني إلهام وانقياد واستهلاك.أي خطابة وكلام "[7].



ويرى أبو ديب في معرض دراسته لسينية شوقي أن " النص يقف مفككا،مفتقرا إلى رؤيا طاغية أو انفعال طاغ يفيض منها ويشكل حركة انتشاره على الذات والعالم،من الداخل إلى الخارج،ومن الحاضر إلى الماضي...(في المقابل)،كان نص البحتري على خلاف نص شوقي،فقد بدأ بحركة انهيار تنشب في وسطها إرادة التماسك،ليقدم في إيوان كسرى معادلا موضوعيا، وجودا رمزيا،يتألف من إطار خارجي متهافت ولب صلب ينبض بالحياة ويتجاوز فاعلية الزمن المدمرة "[8].



والواقع أن النقود السابقة لا ترتبط بالمعارضات فقط فهي ذاتها عيوب القصيدة الإحيائية عموما،حيث مثلت عودتها للنصوص الشعرية القديمة لفظا ومعنى أكبر عائق لها ضد تطورها لمواكبة العصر وهو الأمر الذي عجل بنهايتها مع ظهور مدرستي الديوان والرومانسية بجناحيها( أبولو والمهجر )،كما أن المعارضات شأنها شأن غيرها من الأشكال الشعرية التي كتب فيها الإحيائيون تعبر عن رؤيتهم الخاصة للشعر شكلا ومضمونا،لذلك لا يجب الحكم على المعارضة إلا في إطار الظرف التاريخي لها،أو ما يطلق عليه تودروف السياق الأيديولوجي الذي تتشكل من مجموعة الخطابات التى تنتمي إلى العصر الذي تنتمى إليه،والسياق الأدبي ويقصد به المأثور الأدبي الذي يتوازى مع ذاكرة الكتاب والقراء [9].



أما القول بأن شوقي مجرد مجتر ومستهلك لنصوص قديمة فهو رأي يحتاج لمراجعة وتمحيص، خاصة أن دراسة قامت على المقارنة الأسلوبية أنصفت معارضات شوقي،ونقصد بذلك دراسة محمد الهادي الطرابلسي (خصائص الأسلوب في الشوقيات)، وفي هذا الإطار يقول " ليست المعارضة في حد ذاتها نسخة مسحوبة على صورة فنية أصلية،عند شوقي وليست هي ترجمة لنص من لغته الكلاسيكية إلى لغة الشاعر الحديثة. إنما المعارضة عنده مشهد تكميلي،يبني على أصل لكن لا يتقيد به،ويتبنى بعض ما فيه دون أن يقصر في مزيد إثرائه.فيصح لنا أن نعتبر المعارضة عند شوقي "قراءة جديدة " للتراث[10].



ويمكننا القول أن شعراء الإحياء في معارضاتهم لم يذوبوا ذوبانا تاما في قصائد سابقيهم، فلم تأتي نسخا أو مسخا لها،بل "إن طرافتها تلمس أولا في المستوى الأسلوبي وهذه الميزة التي تخول لها الاستواء منذ المنطلق وحتى اكتمال البناء،على طرفي نقيض والنسخ بمعنييه النسخ بمعنى المحاكاة التامة،والنسخ بمعنى النقض " [11]، لقد حاول شعراء الإحياء في معظم الأحيان أن يكون النص الغائب مجرد مصدر إلهام تنفتح به تجاربهم الشعرية نحو خصوصيتهم الذاتية،وطبيعة ظروفهم التاريخية.أما ما وقعوا فيه من أخطاء فيتعلق بطبيعة ارتباطهم بالتراث الشعري العربي عموما،ونظرتهم للماضي على مستوى نصوصهم الشعرية جميعا، لا على مستوى شعر المعارضات فقط،بحيث تحول عملية الإبداع لديهم –في كثير من الأحيان - إلى تقنية. والتقنية تطبيق و إعادة إنتاج مشروطة بالنموذج الموجود، أوليا، قبل التطبيق،وهو ما يخالف معنى الإبداع باعتباره نموذج ذاته وفقا لمقولة أدونيس.



وبالتوقف عند الركائز الأساسية للقصيدة العربية التقليدية (اللفظ والمعنى والإيقاع والخيال)، نلحظ أن المعارضة - وقوامها ليس في التشابه فقط - تقوم بتثبيت ركيزة واحدة فقط في النصين وتتمثل في الإيقاع،حيث تظل القافية والوزن وثباتهما في النصين مقوما أساسيا من مقومات المعارضة، يضاف إلى ذلك تماثل التجربة الحياتية أو الحالة المنتجة للنصين،بصورة تستدعي استدعاء النص المعارض بطريقة ما، و في مقابل عناصر التشابه تقف عناصر المخالفة بتوترها لتكشف عن المعنى الرحب لنصوص المعارضة بعيدا عن معاني الاجترار والاستهلاك، وتؤكد التفاعل النصي الفعال الذي لا ينغلق على الماضي، بل يتجاوزه إلى الحاضر بصورة واعية.،فدراسة عناصر المخالفة بين نصوص المعارضة هي التي تكشف عن طبيعة العلاقة بين السابق واللاحق.



وفي هذا الإطار يقف المعنى - وهو الركيزة التي يتمحور حولها حديثنا - بوصفه عنصرا أساسيا من عناصر المخالفة بين النصين الغائب والحاضر،ويمكننا أن نحتكم لما قدمه العظيم عبد القاهر الجرجاني في دلائله معيارا للتفاضل بين العبارات والأبيات الشعرية،وأن الفصاحة راجعة للمعاني لا للألفاظ المعزولة،حيث يرى – في عبارة تأسيسية له- أنه " لا يكون لإحدى العبارتين مزية على الأخرى،حتى يكون لها في المعنى تأثير لا يكون لصاحبها "[12]، لذلك لا تتحقق المعارضة إلا في المستوى الدلالي الذي يتم إنتاجه من إنشاء علاقات نحوية بين مفردات مركبة في سياق لغوي،أما المفردات في إطارها المعزول فلا تصح نسبة المعارضة إليها،لأنه إذا لم يكن في القسمة إلا المعاني والألفاظ، وكان لا يعقل تعارض في الألفاظ المجردة،لم يبق إلا أن تكون المعارضة راجعة إلى معاني الكلام المعقول،وفي مراحل تالية يعمق الجرجاني حديثه فيستبعد من دائرة التداخل المحاكاة اللفظية، ثم يحدد لإطارها في مستويين،الأول يتم في الإطار الكلي للمعنى من حيث الوصف بالشجاعة أو السخاء أو حسن الوجه...أما المستوى الثاني، فإنه يتأتى بعملية تنظيم صياغي وتوظيف الأدوات البلاغية لإنتاج المعاني الثواني أي الصور والأخيلة[13].



وبناء على ذلك يمكننا أن نتوقف عند بعض المعارضات الشعرية التي أنتجها الإحيائيون للتعرف على كيفية تعاملهم مع معاني النصوص المعارضة والتي قد تدخل في دائرة الاتفاق أو الاختلاف أو النقض أو غير ذلك من علاقات، تؤكد دور النص الغائب في توليد المعنى وتكشف مدى حرص الشاعر المعارض على التميز والمخالفة أو التجاوز من ناحية أخرى.



أولا:على مستوى المعنى العام (الموضوعات والأغراض ):



تكشف تجارب المعارضة في شعر الإحياء - فيما يتعلق بالمعاني العامة الأغراض التي جاءت فيها معارضاتهم عن ميلهم للمخالفة أكثر من ميلهم للاشتراك،مع اتخاذ النص الغائب ومطلعه تكئة لهذه المخالفة،ويتبدى ذلك بوضوح في معارضات البارودي الذي حرص في معظمها على إبراز تميزه وتفرده بالخروج عن الغرض الأصلي الذي وضع له النص المعارض ولإضافة تجاربه الذاتية بصورة تبرز معها شخصيته بروزا واضحا،وإن غلب عليه تتبع سابقيه في مطالع المعارضات الغزلية والطللية على وجه الخصوص، كذلك تابعهم في الموضوعات التي توافق هوى في نفسه، وانسجاماً مع شخصيته، لكنه خالفهم في غير ذلك، فكان يأنف المديح والصغار،والغزل الحسي، ويحبذ أحاديث الهوى والشباب والغزل العذري ووصف الخمر ومجالسها. كما تميز في الفخر الذاتي ووصف المعارك الحربية.وتأكيدا لمبدأ المخالفة كان البارودي يحرص على التفوق على سابقه في عدد أبيات قصيدته.ونتوقف لبيان ذلك عند نموذج واحد من معارضاته وهو معارضته للنابغة في قصيدته التي مطلعها:





أمن آل مية رائح أو مغتدي

عجلان ذا زاد وغير مزود [14]








فيقول البارودي معارضاً إياه:



ظنَّ الظنونَ فبات غيرَ موسّدِ

حيرانَ يكلأ مستنير الفَرقدِ[15]






حيث عالج النابغة في قصيدته موضوعين هما:

1- وصف الرحيل (1-5)

2- وصف الغانية (6-35).



في حين عالج البارودي في قصيدته ستة موضوعات هي:

1- وصف الرحيل (1-10)

2- وصف المحاسن (11-17)

3- فتوته وشبابه (18-21)،

4- وصف حصانه (22-33)

5- وصف الخمر ومجالسها (34-37)

6- وصف الغانية (38-48).



لذلك يمكننا القول أن التوسع والحرص على إبراز الجانب الذاتي واضحا في النص الحاضر، بيد أن الحرص على الإطار العام والتقليدى للقصيدة العربية ظل واضحا أيضا فقد اشترك الشاعران في موضوعيهما: وصف الرحيل، ووصف المحاسن. وإن اختلفا في مضامين موضوعاتهما، وعدد الأبيات التي شغلها كل موضوع من الموضوعين،وظهر التباين في حرص النابغة على وصف المتجردة وصفا جنسيا حسياً بتأثير عصره الجاهلي، وطبيعة بيئته، في حين حالت الظروف الحضارية في مطلع العصر الحديث، وطبيعة البارودي الشخصية دون أن يسير على نهجه في هذا الإطار منصرفا إلى نوع من الغزل الرفيع، بوصف محبوبته وصفا معنويا، تفضل الروح فيه الجسد، ويعلو فيه المعنوي على الحسي.



وفي ذات الإطار تأتي تجارب شوقي في معارضاته،حيث " لم نجد شوقي يحترم التخطيط المتبع في القصائد التي يعارضها –حتى بالنسبة إلى تلك التي اشترك في مصدر الإلهام فيها مع أصحابها –ولا وجدناه يتقيّد بموضوعاتها الجزئية في ترتيبها.إنه لا محالة كان يشترك مع من يعارضهم في بعض الموضوعات،ولكن أبرز ما في معارضاته من هذه الناحية هو زيادة المواضيع.فتخرج معارضاته كالمشاهد التكميلية التي لا تخلو من كثير مما في الأساس،إلى جانب ما فيها من تكملة "[16]ويمكننا في هذا الإطار أن نذكر أبرز مواضيع الاتفاق في معارضتين من معارضاته:



في معارضته للبوصيرى:

اشترك الشاعران في مجمل الموضوعات، وإطارها الكلي مدح الرسول عليه السلام فلم يخالف شوقي البوصيري في موضوع ما، وإن اختلفت طريقة المعالجة وعدد الأبيات،فاتفق الشاعران في وصف حادثة الإسراء وشغلت إحدى عشر بيتا في القصيدتين،وتميز شوقي بحديثه عن البراق،وقد لاحظ الطرابلسي أن مواضيع البوصيري جاءت كحلقات تكون سلسلة،بخلاف مواضيع شوقي التي كانت بمثابة حلقات تتابع بدون أن تكوّن سلسلة،وكانت الأبيات عند شوقي ذات نفس ملحمي، وذات نفس غنائي صوفي عند البوصيري[17]، وقد أسهم التشابه الموضوعي في تلك المعارضة في إبراز تميز شوقي وقدراته على إنتاج المعاني الجديدة من معطف النص الغائب دون أن يترسم خطاه النعل حذو النعل،خاصة أن الموضوع يتسم بالدرامية والحركة، وهذا ما لا نجده في المعارضة التالية.



في معارضته للبحتري:

والتي مطلعها





صنتُ نفسي عما يدنّسُ نفسي

وترفعتُ عن جدا كل جبس[18]








وقال شوقي معارضاً:





اختلافُ النهار والليل يُنسي

اذكرا لي الصبا وأيامَ أنسي[19]








اتفق الشاعران في الغرض الأساسي وهو الوصف،فوصف البحتري إيوان كسرى، وكان قد زارها الشاعر، وشاهد أطلالها، فوصفها، واستوحاها. أما وصف شوقي فجاء،على جزأين، وصف في الأول أيام صباه في الوطن، وذكرياته في مصر، فوصف النيل والجيزة والأهرام والقناطر وأبا الهول رهين الرمال شاهد عيان على أمم وممالك تنشأ وتنهار ما بين روم، وفرس، وخوفو، ودارا،.....إلخ.



و في الجزء الثاني من قصيدته استخدم شوقي وصف العيان والمشاهدة، حيث كان يعيش في منفاه بالأندلس، وآثار الحضارة العربية ما زالت حاضرة أمام ناظريه، فوصف قصورها ودور العلم فيها، ووصف سواري قصورها و قصر الحمراء، وغرناطة، وديار بني الأحمر....إلخ.



ويتجلى على مستوى البنية العميقة لنص شوقي نوع من التضاد على مستويات عدة بين: الداخل والخارج، الماضي والحاضر، الذاكرة والزمن،الغياب والحضور، ففي حين برزت قوة النص في بداياته مع انفلات التجربة الذاتية وتحرك الزمن للوراء حيث الصبا وذكرياته،يعتري الضعف التجربة الشعرية مع دخوله إلى رحاب التاريخ وتصوير قوته التدميرية،ومن هنا " تنشأ مفارقة حادة في النص بين بعدين متميزين:هما التجربة الفردية وسلطة الإنشاء التراثي،ذلك أن التجربة الفردية تنبض بالماضي،زمانا ومكانا بالوطن وصوره وتفاصيله وحيويته وجماله،وبجرح حي لا ينقطع الوطن عن الخفق فيه لحظة،أما الإنشاء التراثي فإنه يولد تصورا بلاغيا للزمن مستقى بصورة كلية من تراكم التصورات الجماعية للزمن وطاقته التدميرية. وهكذا يسقط النص في أزمة داخلية،في توتر من نمط جديد يختلف عن التوتر الذي كان قائما فيه"[20]، وهو ما يمكن أن نطلق عليه تناقضا عاطفيا.



ومن ناحية أخرى ربما ارتبط الضعف البادي في الجانب التاريخي من القصيدة في طبيعة التاريخ وانفصاله عن الشعر الغنائي، لأن الأخير – فيما ترى نتالي ميلاس - عموما يؤكد اللحظة المنفصلة، لا الديمومة أو الاستمرارية، فهو يفصل اللغة إلى أبعد حد ممكن عن إحالتها إلى الواقع، ويميل إلى التيمات المألوفة أو عبر التاريخية،وعندما يعالج موضوعات تاريخية،فإنما يعالجها على نحو بطولي أو مادح[21]، كذلك يمكننا أن نرجع ما اعتور نص شوقي من ضعف إلى طبيعة وصفه،وتركيزه على الجانب السطحي لعناصر الطبيعة،دون تعمق أو تأمل فلسفي،إضافة لحرص شوقي الدائب على التوسع والتراكمية والامتداد وكأن التجاوز في المعارضة له جانب كمي يتعلق بعدد الأبيات.



ولعل قوة نص البحترى،وتركيزه على عرض ذاته وهمومها " ليخلعها عليه بوصفه معادلا موضوعيا[22]،هي التي أبرزت الضعف البادي على الجزء الثاني من قصيدة شوقي،و هو ما الذي لاحظه الطرابلسي حيث يرى أن " وصف البحترى متميز بشيئين:فهو يتناول موصوفا ساء منقلبه من ناحية وهو من ناحية أخرى لا يستند فيه إلى سابق مشاهدة وعيان،وهو بالتالي يتأمل قضية إنسانية عامة يبحث من ورائها عن عبرة الدهر مما سما بوصفه من مستوى النقل إلى مستوى التأمل...لكن ما وصفه شوقي له مستندات من واقع شهده بوطنه،ولذلك هو يصف عن تجربة شخصية ثم هو يصف واقعا لم يتغير عما كان عليه بل بقي محتفظا بصورته المشرقة.إنما الذي تغير هو وضع الشاعر "[23]، وبرغم نقاط الضعف الذي التفت إليها عدد من النقاد في معارضة شوقي السابقة نستطيع أن نقول أن منبع الضعف ليس في فعل المعارضة نفسه بل في طبيعة التجربة الشعرية لديه، والتي تقوم على التراكمية والامتداد والتوسع على حساب التركيب بصورة قد تمتد معها القصيدة وتسيل بصورة تقود إلى تنافر أجزائها.



وقد حاول شوقى على وجه الخصوص أن يقرر مبدأ المخالفة في بعض معارضاته من حيث الموضوع،بتحويل قصيدته في اتجاه آخر معاكس للاتجاه الموضوعي للنص المعارَض،وذلك على نحو ما نجه في قصيدته في مدح عباس،حيث يقول:



أشرق عباس على شعبه

كأنه المأمون في ركبه








في حين كان نص المتنبي المعارض في الرثاء والتعزية ومطلعها:



آخر ما الملك معزّى به

هذا الذي أثّر في قلبه








وكذلك في معارضته لقصيدة المتنبي في المدح والتي مطلعها:



أين أزمعت أيهذا الهمام

نحن نبت الربى وأنت الغمام








حيث عارضها شوقي بقصيدة في رثاء عثمان باشا غازي قائلا في مطلعها:



هالة للهلال فيها اعتصام

كيف حامت حيالها الأيام








والمخالفة الموضوعية تأخذ النص المعارِض إلى اتجاه آخر اكتفاء بالتشابه على مستوى الإيقاع،وبعض المقاطع والألفاظ،وهو ما يتيح لشوقي إبراز قدرته في المجارة من ناحية،والتميز من ناحية أخرى،ومن ثم تأتي المخالفة لتأكيد معنى المنافسة والمباراة الكامن في المعارضات.

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.11 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.66%)]