عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 19-05-2021, 03:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية د .راغب السرجانى





الصدام مع السلاجقة الروم (15)

أ.د. راغب السرجاني






توجه الجيوش الصليبية نحو نيقية
كان قلج أرسلان سلطان السلاجقة في آسيا الصغرى يتخذ من مدينة نيقية الحصينة عاصمة له، ومن ثَمَّ فالقوة الرئيسية لجيشه كانت بها؛ ولهذا فقد قرَّر الصليبيون أن يبدءوا بهذه المدينة لكي لا يتركوا خلفهم هذه القوة الكبيرة، ولكي لا يقطعوا على أنفسهم خطوط الإمداد البيزنطية. ومن ثَمَّ توجهت الجيوش الصليبية الغفيرة، ومعها فرقة صغيرة من الجيش البيزنطي لحصار المدينة المسلمة، وقد أمدَّ الإمبراطور البيزنطي الجيوش الصليبية في هذه الموقعة بآلات الحصار الضخمة وكثير من السلاح، وبدأ التوجه إليها في (490هـ) أواخر إبريل سنة 1097م[1].أين كان قلج أرسلان الأول في ذلك الوقت؟! إنه يجدر بنا قبل أن نعرف مكانه أن نأخذ فكرة عن شخصيته ومكانته!
قلج أرسلان سلطان سلاجقة الروم
إنه واحد من أهم السلاجقة في تاريخ آسيا الصغرى، لا لشخصيته ومكانته فقط، ولكن للأحداث الضخمة التي حدثت في عهده وغيَّرت خريطة المنطقة تغييرًا جذريًّا، إنه ابن سليمان بن قُتُلْمِش أعظم سلاجقة الروم ومؤسِّس دولتهم، وقد ورث قلج أرسلان عن أبيه شدة البأس في القتال وحسن التخطيط في الإدارة والمعارك؛ ولذلك استطاع مع صغر سنِّه عند تولِّيه الحكم -فلم يزِدْ على السابعة عشرة من عمره- أن يصبح الشخصية الأولى في منطقة آسيا الصغرى بكاملها.ومع هذه الكفاءة الإدارية والعسكرية إلا أننا لا نلمح في حياته توجهًا إسلاميًّا واضحًا، أو رغبة حقيقية في توحيد صفِّ المسلمين، إنما كان همُّه الأول هو توسيع الرقعة التي يحكمها، وتكثير الأتباع له؛ لذلك نجده لا يتردد كثيرًا في حرب المناوئين له، وإن كانوا من المسلمين، أو حتى من نفس عائلته التركية الكبرى، أو السلجوقية نفسها! وهذا الحب للتوسع كان أحيانًا يعمي بصره عن رؤية الأخطار على حقيقتها، فيهمل أحيانًا خطرًا ساحقًا، ويهتم أحيانًا بمشكلة بسيطة، مما يستغرب جدًّا من رجل مثله له كفاءة معلومة كما ذكرنا، وليس هذا إلا لأنه لم يكن -فيما يبدو لي- ينظر إلى مصلحة المسلمين، ولكن إلى مصلحته هو في المقام الأول.
أين كان إذن قلج أرسلان الأول وقت تدفق القوات الصليبية الهائلة صوب مدينة نيقية العاصمة؟!
قلج أرسلان والتوسع الأعمى

لقد كان خارج مدينته، بل وعلى بُعد أكثر من تسعمائة كيلو متر إلى الشرق من المدينة! لقد كان يحاصر مدينة ملطية ذات الكثافة الأرمينية، حيث قام بينه وبين الزعيم المسلم غازي بن الدانشمند (وهو أحد الأتراك المسلمين الذين كانوا يحكمون شمال شرق آسيا الصغرى) نزاعٌ كبير حول ملكية هذه المدينة. وهذه الرغبة الجامحة للتوسع في مناطق جديدة جعلته لا يصرف كثير اهتمام إلى مسألة الصليبيين على خطورتها، بل إنه عندما علم بقدوم الجيوش الصليبية مؤخرًا إلى القسطنطينية ظنَّ أنها مثل جموع العامة الذين جاءوا قبل ذلك، ومن ثَمَّ توقع أن يقضي عليهم بفرقة من جيشه بسهولة، كما فعل مع جموع بطرس الناسك ووالتر المفلس[2].إضافةً إلى أنه خُدِع بمكيدة دبَّرها الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين، حيث أرسل بعض جواسيسه إلى قلج أرسلان الأول يُصوِّرون له الخلاف الذي كان بين الإمبراطور البيزنطي وزعماء الحملة الصليبية على أنه مستحكم لا حلَّ له، وبالتالي فلن يسمح الإمبراطور البيزنطي لهؤلاء الصليبيين بالعبور إلى آسيا الصغرى، وهذا الخداع خدَّر قلج أرسلان، وجعله يترك حامية صغيرة نسبيًَّا في مدينة نيقية العاصمة، ويتوجه بجيشه الرئيسي لحصار ملطية البعيدة. ومما يؤكد أنه كان مخدوعًا أنه ترك زوجته وولديه وكل أمواله وكنوزه في المدينة، ولو كان يشعر بأيِّ خطر ناحيتها ما فعل ذلك أبدًا[3].
حصار الجيوش الصليبية لمدينة نيقية

تدفقت الجيوش الصليبية الضخمة حول مدينة نيقية الحصينة، وبدأ الحصار يوم (21 من جمادى الأولى 490هـ) 6 من مايو 1097م، وكان الحصار من الجهات الثلاثة للمدينة باستثناء الجهة الغربية التي كانت تطل على بحيرة طولها اثنا عشر ميلاً، ولم يكن مع الجيوش الصليبية قوة بحرية تسمح لهم بإغلاق هذا المنفذ[4]، وبعد أسبوع من الحصار بدأ الصليبيون في قصف أسوار المدينة وأبراجها بالمجانيق التي أمدهم بها الإمبراطور البيزنطي.
صمدت المدينة في بادئ الأمر، وبادلت الجيش الصليبي إطلاق السهام المسمومة، وألقت عليهم الكلاليب المحمومة، وأحدثت إصابات بالغة في الصليبيين، غير أنها لم تستطع فك الحصار[5]، وبالتالي أرسلت رسالة عاجلة إلى قلج أرسلان تطلب النجدة السريعة! أدرك قلج أرسلان خطورة الأمر، فتحرك بسرعة صوب عاصمته بعد أن رفع الحصار عن ملطية، ولكن طول المسافة ووعورة الطريق حالت دون وصوله بسرعة[6].
الإمبراطور الداهية
في هذه الأثناء أرسل الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين مندوبًا سريًّا إلى داخل المدينة، وهو القائد العسكري بوميتس، ليتفاوض مع الحامية المسلمة ليسلموا له المدينة بدلاً من سقوطها في يد الصليبيين، وخوَّفهم أن الصليبيين في غاية التوحُّش، وسوف يقومون بقتل كل من في المدينة عند سقوطها. وهذا في الواقع أمر صحيح رأيناه -بعد ذلك- في بيت المقدس وغيره من المدن التي أسقطها الصليبيون[7].أما لماذا حاول الإمبراطور التفاوض مع الحامية المسلمة دون علم الصليبيين؛ فلأنه كان يتوقع الغدر منهم، وعدم الالتزام باتفاقية القسطنطينية التي تقضي بتسليم كل المدن التي كانت تحت سيطرة الدولة البيزنطية سابقًا إلى الإمبراطور البيزنطي حين سقوطها. والواقع أن الحامية المسلمة بدأت تفكر في عرض الإمبراطور جديًّا، وخاصةً أنه وعد بحفظ دماء المسلمين وعدم نهب البلد، وحمايتها من الصليبيين.ثم إنه أقدم على خطوة أخرى ماكرة تحقِّق المنفعة للإمبراطورية من وجهتين؛ وهو أنه سمح عن طيب خاطر للإمدادات المسلمة أن تصل عن طريق البحرية إلى المدينة المحاصرة، وكان قادرًا على منعها باستخدام الأسطول البيزنطي القوي، وإنما فعل ذلك ليقنع الصليبيين من جهة أنهم لا يستطيعون الاستغناء عنه في حروبهم، ومن جهة أخرى لتطمئن الحامية المسلمة أنه سيفي بعهده لهم إنْ هم سلَّموا له المدينة.وبينما تفكر الحامية المسلمة في الأمر إذْ وصل قلج أرسلان الأول بجيشه، وذلك في (490هـ) يوم 21 من مايو 1097م، واشتبك بمجرَّد وصوله مع الجيوش الصليبية لفتح طريقٍ إلى داخل المدينة، ولكنه -للأسف- لم يستطع، وأدرك أنه لن يفلح في فك الحصار، بل إنه يَئِس من معركة يومٍ واحد، وانسحب بعيدًا ليترك مدينته تلقى مصيرها[8]، وهي واقعة بين شقي الرَّحَى: الصليبيين من ناحية، والدولة البيزنطية من ناحية أخرى!أكمل الإمبراطور البيزنطي لعبته بأن أخرج سفنه القوية لتمنع الإمداد البحري عن المدينة المسلمة، وبدأت المدينة تشعر بالأذى الشديد وتتوقع الهلكة القريبة، وخفَّت مقاومتها جدًّا، وأدرك الصليبيون أهمية الإمبراطور البيزنطي.وأدركت الحامية المسلمة أيضًا أهمية هذا الإمبراطور الداهية، فأسرعت الحامية قبل السقوط بقبول عرض الإمبراطور الذي سعد بذلك جدًّا وأسرع بالموافقة، ومن ثَمَّ فوجئت الجيوش الصليبية بعد خمسة أسابيع من الحصار بالأَعْلام البيزنطية ترتفع فجأة على أبراج المدينة كلها، وليأتي مندوب الإمبراطور ليعلن أن المدينة أصبحت بيزنطية، وليمنع الجيوش الصليبية من دخول المدينة خوفًا من نهبها،[9] وليوضع بوتوميتس قائدًا عسكريًّا على المدينة. وقرر الإمبراطور أن يتم عهده ويحفظ دماء المسلمين، بل إنه أعلن أنه على استعداد لإعادة زوجة قلج أرسلان وأخته وولديه إلى قلج أرسلان دون مقابل[10].وقفة تحليليةأثار ما فعله الإمبراطور البيزنطي حنق الصليبيين وشعروا أنهم قد خُدعوا، وغضبوا جدًّا للتسامح الذي أبداه الإمبراطور مع أهل المدينة، وكانوا يريدونها عبرة لكل المدن، لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء بعد أن علموا أنهم يتعاملون مع قائد قويّ محنك صاحب خبرة طويلة، ويقود دولة تضرب جذورها في أعماق التاريخ[11].أما الإمبراطور البيزنطي فقد حفظ وعده بالفعل، ولا أعتقد -كما يحلِّل بعض المؤرخين- أنه فعل ذلك حبًّا في الأخلاق الحميدة، ولكن الذي يبدو لي ويستقيم مع سيرته وقصة حياته أنه يريد أن يستغل هذه الحادثة لإيقاع بقية المدن الإسلامية في آسيا الصغرى، فلو كانت الجيوش الصليبية تقدِّم الترهيب فهو يقدِّم الترغيب، ولو تعاون الصليبيون مع الأرمن الكاثوليك، فسيتعاون هو مع المسلمين!إنها حرب المصالح، ومباراة الاستحواذ. والذي يثبت ذلك أنه بعد السيطرة على قونية أخذ زوجة قلج أرسلان وولديه وتوجه إلى أقاليم مسيا Mysia وأيوينا ولسيديا في غرب آسيا الصغرى[12]، وبدأ يساوم المدن هناك على التسليم في مقابل دمائهم ودماء زوجة قلج أرسلان وولديه. وقد نجحت خطته وسلَّمت تلك المدن بسهولة، وما هي إلا فترة بسيطة حتى صارت كل مدن غرب آسيا الصغرى تابعة للدولة البيزنطية.إنه كان واضحًا أن الأمة الإسلامية في طور ضعفٍ شديد، وتتهاوى بسرعة، وكان السباق محمومًا بين الصليبيين والدولة البيزنطية لاقتسام الميراث الضخم؛ ميراث المسلمين!
[1] Cam. Msd. Hist., vol. 5, p. 285.
[2] Setton: op. cit 1, p.p. 288-289.
[3] Runciman, op. cit. 1. p.p. 176-177.
[4] وليم الصوري: تاريخ الأعمال المنجزة فيما وراء البحار 1/231، 232؛ رنسيمان: تاريخ الحروب الصليبية 1/264، 265.
[5] Grousset: Hist. des Croisades 1, p. 29.
[6] Gesta Francorum, p. 37.
[7] وليم الصوري: تاريخ الأعمال المنجزة فيما وراء البحار 1/242، 243.
[8] Albert d`Aix, p.p. 320-321.
[9] Brehier: op. cit., p. 312.
[10] Runciman, op. cit., p. 180-182; Alexiad: pp 273-275.
[11] Chalandon: Premiere Croisades, p. 167.
[12] Grousset: Hist. des Croisades, 1, p. 31.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.93 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.46%)]