عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 06-07-2021, 03:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التوظيف القرآني للطاقات الدلالية في اللغة العربية

اسم الفاعل مع الفعل:
يقول الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ [الملك: 19]، ولم يقل صافات وقابضات، ولا يصففن ويقبضن؛ لأن اسم الفاعل يفيد الثبات والفعل يفيد التجدد والحركة، فقولي هو واقف غير قولي هو يقف، فلما ذكر الله تعالى هيئتين متضادتين ناسب كل ضد صيغةٌ غير صيغة الضد الآخر، والثبات ضد الحركة، فقوله صافات اسم فاعل يفيد الثبات وهو مناسب لهيئة الصفوف، أي: بسط الطائر جناحَه محمولًا على الهواء دون حركة، كالبومة حين تنظر ما تصطاد، والفعل يفيد الحركة وهو مناسب لهيئة رفرفة الجناحين (يقبضن).

ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ [الأعراف: 193]، فالدعوة كلام وحركة ناسبها صيغة الفعل (دعوتموهم)، والصمت سكون وثبات ناسبه صيغة اسم الفاعل (صامتون).

اسم الفاعل وصيغ المبالغة:
إذا كذب الإنسان قلنا: كاذب، فإذا عهدنا عليه هذا مرة بعد مرة وكثر واعتيد منه قلنا: كذاب، فصيغة المبالغة أتت لمبالغة معنى اسم الفاعل، والفاعل يفيد اتصاف الموصوف بالصفة اتصافًا عامًّا، أما المبالغة فتفيد اتصافًا مخصوصًا، ونمثل هنا بصيغتين: فعال وفعيل، ذكر أبو هلال في أول الفروق أن صيغة "فعَّال" تفيد فعل الشيء مرة بعد مرة [كثرة الاتصاف]، وأن صيغة "فَعول" تفيد أن يكون المرء قويًّا على الفعل [شدة الاتصاف] [24]، فحينما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [فاطر: 38] نفهم أنه متصف بصفة عامة وهي علمه الغيب، أما حينما يقول ﴿عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ نفهم أنه يريد كثرة علمه الغيوب، وما أكثر الغيوب في النفس وضمائرها والقلوب وخواطرها، وفي السماء وأفلاكها والأرض وأجزائها، والكائنات وأنواعها، وحينما يقول تعالى: ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم﴾ نفهم أنه تعالى يريد شدة علمه وبلوغه كل صغير وكبير، فهو يجمع الصفتين "الخبير - الشهيد" فالخبير عليم بالخفايا والشهيد عليم بالظواهر، والعليم يجمعهما معًا.

وكذلك خالق وخلَّاق، وقوله عن الإنسان: ظالم وظلوم، ونفيه عن نفسه الظلم بصيغة ظلَّام.

ولنا مع ظلام وقفة، لماذا لم يقل: "وما ربك بظالم للعبيد" وقال: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد﴾ [فصلت: 46]؟. إن صيغة فعَّال تفيد الكثرة، فلماذا جاء معنى الكثرة في حين أن الأصل معنى الامتناع، أي: امتناع وقوع الظلم من الله تعالى؟.


ذلك لأن في صيغة الكثرة معنى إسقاطي، أي أنهم كثيرون هؤلاء الذين يمكن أن يظلمهم غيرهم بسبب شدة إفسادهم، فيتجاوز معهم المرء مستوى العدل ويظلمهم في العقاب بأن يتجاوز في عقابهم حجم الخطأ، لكن الله تعالى صبور حليم، لا يظلم هؤلاء - على كثرتهم - وإنما يعاملهم بالعدل المطلق. وهو معنى متوافق مع قوله تعالى للمؤمنين في الطائفتين المتقاتلتين: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ وقال: ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾ [الحجرات: 9] فلما كان المتوقع أن يزداد عقابهم لهذه الفئة التي بغت بعد الإصلاح قال تعالى: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ﴾. فنص على العدل، منعًا لإيقاع الظلم بمن زاد فساده، ففي الآية التي نحن بصددها ينفي الله تعالى أنه يظلم بصيغة تدل على كثرة من يمكن أن يظلموا بسبب فسادهم غير أن الله تعالى لا يعامل الناس كما يعامل الناس الناس.

ثانيًا: توظيف القرآن لصيغ الأفعال

تأتي الأفعال في اللغة على صيغ لكل صيغة معنى خاص، فقولنا خرج غير أخرج غير استخرج غير تخرج، وقولنا كتب غير اكتتب غير استكتب غير كاتب، وهكذا، والقرآن يوظف هذه الصيغ للدلالة على معاني دقيقة وعميقة، تزيد المعنى الظاهر من الآيات، وهذا من معجز القرآن، ونمثل لذلك بأشياء، منها:
(تستطع - تسطع):
قال تعالى يحكي قول الخضر وهو يكلم موسى عليه السلام: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 78] وقال لمَّا بين له: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 82]، والفارق مستفاد من قاعدة: زيادة المبنى تفيد زيادة المعنى، فخَشُنَ الشيء غير اخشوشن الشيء، الثاني أشد، كذلك استطاع أشد من اسطاع، فلما كان الأمر ثقيلًا على نفس سيدنا موسى لعدم معرفته الحكمة بعدُ قال: (تَسْتَطِع)، ولما علم الحكمة خف عليه الأمر فقال (تَسْطِع)، والعكس في يأجوج ومأجوج مع سد ذي القرنين، قال: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: 97] لأن الظهور والتسلق أسهل من النقب والخرق في هذا السد الشديد الصلابة، فمن السهل أن يصعدوا بسلم أو يتراكبوا أو أي شيء كهذا، أما النقب فهو ما لا يُقْدَر عليه إلا بشديد الجهد، فذكر الصيغة الأخف مع الأخف والصيغة الأثقل مع الأثقل.

وقد ذكر العلامة الطاهر بن عاشور أن الفارق بين تستطع وتسطع هو للتفنن دفعًا لتكرير نفس اللفظ [25]، ثم عاد ففرق بين اسطاعوا واستطاعوا بناء على قاعدة: زيادة المبني تفيد زيادة المعنى [26]، والأولى تفسير الفعلين الأولين بنفس تفسير الفعلين الآخرين.

(تستخرجون - يخرج):
قال تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتُ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبِسُونَهَا﴾ [فاطر: 12]. وقال تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: 20].

يمن الله تعالى على عباده بنعمه التي جعلها في البحر، ومنها اللحم الطري، واللؤلؤ والمرجان، فعبر مرة بلفظ الخروج ومرة بلفظ الاستخراج، فلماذا لم يقل: "تخرجون منه حلية"، ولم يأت في القرآن إلا بلفظ الاستخراج، ولماذا لم يقل: "يستخرج منهما اللؤلؤ والمرجان"؟

الفارق تعطيه دلالة اللغة، فإن خرج هو الفعل الأصلي المجرد، واستخرج فعل مزيد على وزن استفعل، يسمى: "صيغة طلبية" أي طلب حدوث الفعل إما من الغير، مثل: استعانه، أي طلب عونه، وإما طلب الحدوث ببذل الجهد والحيل، مثل: استخرج.

فدل الفعل الأصلي المجرد: "يخرج" على كون البحرين مَصْدرا اللؤلؤ والمرجان، فلم يحتج إلى معنى الاستخراج، ودل الفعل المزيد: يستخرج على عملية الإخراج بالحيل التي عند أهل الصناعات، وفي الآيتين ناسب كل فعل موضعه.

وهناك أمر آخر في الآية الأولى:
قال تعالى عن الأسماك: (تأكلون) وقال عن الحلية (تستخرجون)، وكلاهما يستخرج من الماء، ولكن التعبير القرآني فيه معنى زائد؛ إذ ذكر قضية الطعام بلفظ يدل على يسرها ومناسبةً كذلك لقوله: (طريًّا) فهو لحم طري سهل الحصول عليه، وأما الحلية الغالية الثمن النادرة التحصل فيناسبها لفظ الاستخراج.

(ننسح - نستنسخ):
قال تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا﴾ [البقرة: 106].
وقال تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: 29].

وصيغة: (نستنسخ) تعطي معنى غير معنى (ننسخ)، فالأولى تعني: نا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم." [27]، أما صيغة (ننسخ) فتعني أن الله تعالى هو مصدر النسخ؛ لأنه هو مصدر القرآن.

وقد يقول قائل: ليس بين ننسخ ونستنسخ علاقة دلالية ليقارن بينهما، فالنسخ من التغيير، والاستنساخ من الكتابة.

والجواب: إن النسخ دل على التغيير دلالة غير مطلقة، فليس كل تغيير نسخًا، وإنما النسخ تغيير فيما كتب، كأن القرآن لما كُتِبَ واقتضت حكمته تعالى تغييرًا فيما كتبه - تيسيرًا على الناس أو غير ذلك - كتب شيئًا آخر، وهذا المكتوب الآخر سمي نسخًا لكونه كتابة أيضًا.

ثالثًا: توظيف القرآن للمفرد والمثنى والجمع

يوظف القرآن الكريم المفرد والمثنى والجمع للدلالة على معاني زائدة عن مجرد دلالة المفرد والمثنى والجمع، وقد يضع أحدها في موضع الآخر للدلالة على هذه المعاني، ومن ذلك:
توظيف القرآن للمفرد والجمع:
قوله تعالى: ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾ [النور: 31]، وقد كان المتوقع "الأطفال" كما قال: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾، فوظف المفرد والجمع للدلالة على معنى زائد عن مجرد الإفراد والجمع، وهو أن الأطفال لهم مراحل عمرية تناسبها صفات نفسية، فإذا كانوا فيما قبل البلوغ صغارًا جدًّا كانوا متحدين في نفسيتهم من ناحية النساء فلا شهوة ولا معرفة ولذلك وحدهم بلفظ الطفل المفرد لما قال: ﴿الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾، فلما كبروا وصاروا مدركين لأمر النساء ونضجت فيهم الشهوة صاروا مختلفين في مقتضيات شهواتهم فمنهم قليل الشهوة ومنهم كثير الشهورة ومنهم معتدل الشهوة، لذلك عبر عنهم في هذا الطور بلفظ الجمع الدال على تباينهم: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾ فبلوغ الحلم طور غير الآخر تختلف فيه الطبائع [28].

قوله تعالى: (خالدين - خالدًا):
قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارَ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الَعِظيمُ * وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 14]. لمَّا ذكر النعيم ذكر أهله بصيغة الجمع (خالدين) ولما ذكر العذاب ذكر أهله بصيغة المفرد (خالدًا)، ووظف كلّ واحد لمعنى، فمما يزيد النعيم الاشتراك فيه؛ ولذلك كانت مائدة الجمع أفضل وأنعم من مائدة الفرد وحده، وقال تعالى: ﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: 47]، حتى يبلغ الاشتراك بينهم أن يشتركوا في دخول الجنة من باب واحد: عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ، أَوْ سَبْعُمِئَةِ أَلْفٍ - لاَ يَدْرِي أَبُو حَازِمٍ أَيُّهُمَا قَالَ - مُتَمَاسِكُونَ آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ." [29].

أما العذاب فيزيده الانفراد به، كما أن السجن الانفرادي مثلًا أعظم مشقة من السجن الجماعي؛ لأن النفس تتسلى وتتصبر بمثيلاتها في البلاء، قالت الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي




فذكر أهل العذاب بصيغة الإفراد (خالدًا) كأنما هو وحده الذي يتعذب وهذا أشد عليه من كونه له شركاء، ولذلك كانت حال أهل النار هكذا في الانفراد والوحشة: ﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ [إبراهيم: 22]، ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ﴾ [غافر: 47]، ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: 166].

قوله تعالى: (معدودات - معدودة):
كلمة معدودات جاءت في القرآن ثلاث مرات، وكلمة معدودة كذلك ثلاث مرات، قال تعالى في الصيام: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَات﴾ [البقرة: 184]، وقال في الحج ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات﴾ [البقرة: 203]، وقال حاكيًا قول اليهود ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَات﴾ [آل عمران: 24]، ولكن لم يأت موضع في القرآن ذكر أن الصيام أيام معدودة، أو أن الحج أيام معدودة، بينما جاء سياق يذكر قول اليهود بلفظة (مَعْدُودَة): قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً﴾، فلماذا؟، إن العرب إذا عدت القليل قدروا موصوفا مفردا: أيام معدودة أي جماعة معدودة، فإذا زاد العدد قدروا موصوفا جمعا: أيام معدودات، أي: جماعات معدودات، وهذا هو العلة في إمكان وصف المعدود غير العاقل بوصف مفرد أو وصف جمع، كما نقول: جبال راسية وراسيات ورواسي، والشاهد أن معدودات تفيد كثرة الأيام، ومعدودة تفيد قلتها، فلما ذكر الله تعالى الصيام وهو ثلاثون شهرا ذكره بمعدودات، ولما ذكر الحج في أيام ذي الحجة وهي عشرة أيام ذكر معدودات ولكن لما ذكر قول اليهود ذكره بمعدودات ومعدودة، ولكل معنى مراد: فالأولى تتناول عن عدد الأيام التي ظنوا أنهم يعذبون بمقدارها وهي الأيام التي عبدوا فيها العجل، وكانت أكثر من شهر، فناسبها قوله: معدودات، أما الثانية فتتناول استهانتهم بالأمر من خلال تهوين اصطلائهم النار في مدة قصيرة في زعمهم، فقالوا معدودة أي: قليلة، إذن ل كلمة تناولت معنى غير الذي تناولته الأخرى. ومن هذا كذلك قوله: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةً﴾ أي: قليلة.

توظيف القرآن للمثنى والجمع:
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ فالطائفتان مثنى، وكان المتوقع أن يقول: اقتتلا، ولكن جاء بالفعل متصلا بواو الجماعة، وفي هذا دلالة توافق الواقع وتزيد معنى بلاغيا، فأما التي توافق الواقع: فأن الطائفتين ليستا كتلتين تحارب واحدة الأخرى، وإنما مجموع أفراد فإذا وقع القتال قاتل كل فرد فردًا، فصار مرد الأمر إلى دلالة الجمع فعبر عنه بواو الجماعة، وأما التي تزيد معنى بلاغيًّا فهو أن التعبير بواو الجماعة فيه كالذم لهاتين الطائفتين، إذ كان التعبير بالجمع دال على افتراق الناس وتشتتهم؛ إذ الافتراق وإن كان كثرة إلا أنه في هذه الحالة كثرة من النوع الذي يوصف بالانشعاب لا الذي يوصف بالوحدة، فلما عبر عنهما بضمير الجمع دل على افتراقهم الافتراق المذموم بدلالة التقاتل، فذكرهم بهذا الذم عن طريق ذكرهم بضمير الجمع.

توظيف القرآن للمفرد والمثنى:
قال تعالى: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 16]، لما كان موسى وهارون متحدين في النبوة والهدف والتكليف والمصير وحدهما في الخبر: (إنا رسول) فوظف المفرد للدلالة على معنى لا يحتمله الإفراد المجرد، والذي سوغ هذا التوظيف أن اللغة تحتمله، فإن صيغة: فعول تستوي فيها المفرد والمثنى والجمع.

توظيف القرآن للمثنى والجمع:
قال تعالى: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: 78]، قال: (لحكمهم) وهما اثنان، والمعنى المراد من هذا الالتفات من المثنى إلى الجمع بيان تعظيمهما كما يعبر عن الواحد بلفظ الجمع لهذا الغرض: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ وهو واحد سبحانه وتعالى، فكلاهما نبي وكلاهما مَلِك، أما داود فقال تعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ [ص: 26]، وأما سليمان، فقال تعالى حاكيًا دعوته: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ [ص: 35]، فكان من تعظيمهما أن ذكرهما بلفظ الجمع.

5- توظيف القرآن الكريم للدلالة الصوتية:
قال ابن جني عن اللغة: "أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" [30]، فلما كانت اللغة في حقيقتها أصوات كان ذلك دالًا على قيمة الصوت في الدلالة على المعنى، وأمثل لذلك بمثال: تقول العرب إذا أخطأ الرجل: غلط وغلت، ولكنهم يقولون غلط في الكلام وغلت في الحساب [فقه اللغة للثعالبي]، وقد كانوا أمة أمية لا يعظمون الحساب ولكن كانوا يعظمون الكلمة فهم أرباب الكلام، حتى كانت الكلمة تشعل حربًا وتطفئ حربًا، وقال طرفة:
وجرح اللسان كجرح اليد

فانظر كيف وضعوا الطاء - أقوى الحروف العربية - لما يستعظمون من الغلط في الكلام، وكيف وضعوا التاء فيما لا يعظمون من أمر الحساب.

والقرآن الكريم وظف هذه الظاهرة توظيفًا عاليًا، سواء في أصوات الحركات أو أصوات الحروف:
أولًا: توظيف القرآن الكريم لأصوات الحركات:
قال تعالى: ﴿مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذَنْ لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [المؤمنون: 91]، يتحدث الله تعالى عن تصور وجود أكثر من إله ويبين أنه لا بد أن يحدث بينهم نزاع على الملك، هذه طبيعة القوة، لا ينبغي إلا أن تكون في قمة [حق] واحدة، ويصور تعالى هذا التنازع المتصور من خلال أصوات الحركات؛ إذ تتتابع سبع فتحات بين مدين بالألف، وقراءة الكلمات بهذه الفتحات تعطي تصويرا لهذا التنازع والتغالب رائعًا بيِّنَا.

كذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ﴾ [الفتح: 10]، الأصل في ضمير الغائب أن يضم، إلا إذا سبق بكسر أو ياء نحو: به وفيه، وعليه، ولكن هنا خالف الضمير من الكسر إلى الضم على أصله، فلماذا؟، ذكر العلماء أن العلة أن الضم يتناسب مع مقام من نعاهده سبحانه وتعالى، وهذا يعني دلالة الصوت على المعنى، فالضم أفخم من الكسر والفتح، بالإضافة إلى أن لفظ الجلالة إذا سبق بالضم فيقتضي ذلك تفخيم اللام فيه، أما إذا سبق بكسر فيقتضي ذلك ترقيق اللام فيه والمقام مقام عظيم، لا يناسبه إلا التفخيم.

ثانيًا: توظيف القرآن الكريم لأصوات الحروف:
قال تعالى: ﴿تِلْكَ إِذَا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم: 22]، وضيزى أي جائرة تمنع الناس حقهم، فعدل عن جائرة إلى ضيزى لأن في صوت الأخيرة بشاعة تناسب بشاعة ما يحكمون به من نسبة الولد إلى الله تعالى، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

وهي ظاهرة لها أمثال في القرآن الكريم، ومن أمثالها وقوع الإدغام في كلمة ما، كقوله تعالى: ﴿أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾ [يونس: 35]، وأصلها: يهتدي، وكقوله تعالى: ﴿تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يخِصِّمُونَ﴾ [يس: 49]، فوظف الثقل الناتج من اجتماع المدغمين للدلالة على ثقل المعنى وشدته، وهو باختيار؛ لأنه يمكن أن يقول: يهتدي ويختصمون، وجاءتا في القرآن، ولكن الاختيار دليل الحكمة إذا كان في كلام الله تعالى.


خاتمة

قد كان هدفنا من هذا البحث المختصر بيان أن اللغة العربية لها من الخصائص ما يؤهلها لتكون لغة الزمان والمكان، ويضعها في القمة من ألسنة الناس. وبيان كيف أن القرآن الكريم وظف هذه الخصائص التوظيف المعجز الذي يدل على المعاني الدقاق من أقرب طريق.

وأنبه على أنني لم ألم بكل خصائص اللغة، ولا بكل الخصائص التي وظفها القرآن الكريم، فهذا غيض من فيض أردت به الكشف عن أسرار العربية، وإعجاز القرآن من خلال التدليل بالجزء على الكل.

والله تعالى أسأل أن يهيئ لهذه اللغة من يجدد باليها، ويحيي فانيها، ويكشف أسرارها، ويجني ثمارها، وأن يهيئ من أبناء الأمة من ينظر في القرآن نظرة حق يستجلي للناس معانيه، ويريهم معاليه.

هذا وما كان في هذا البحث من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطل وخطأ فمني ومن الشيطان، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

فهرس المصادر والمراجع

أولًا: القرآن الكريم.


ثانيًا: التفاسير:
1- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط: 2، 1420 ه، 1999م.
2- الزمخشري: تفسير الكشاف، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، على محمد معوض، مكتبة العبيكان، ط:1، 1418 ه، 1998 م.
3- محمد الطاهر ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان، ط: 1، 1420ه، 2000م.

ثالثًا: كتب الحديث:
4- صحيح البخاري: تحقيق: د. البغا، دار ابن كثير ، اليمامة - بيروت.
5- صحيح مسلم: دار الجيل، بيروت.


رابعًا: المعاجم وكتب اللغة:
6- ابن فارس: معجم المقاييس، تحقيق: عبد السلام هارون، اتحاد الكتاب العرب، ط: 1423 ه، 2002م.
7- ابن منظور: لسان العرب، دار صادر - بيروت، ط: 1.
8- الفيروزابادي: القاموس المحيط.


خامسًا: الدراسات اللغوية:
9- ابن جني: الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار، المكتبة العلمية.
10- أبو هلال العسكري: الفروق اللغوية، ت: محمد إبراهيم سليم، ط: 1، دار العلم والثقافة.
11- الثعالبي: في فقه اللغة وأسرار العربية، ت: ياسين الأيوبي، المكتبة العصرية، ط: 2، 1420ه، 2000م.
12- عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز: ص: 401، ت: محمود شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة، ط: 3، 1413 ه، 1992 م.
13 - فاضل صالح السامرائي: لمسات بيانية في نصوص من التنزيل.
14- نور الدين الجزائري: معجم الفروق اللغوية.

سادسًا: الدراسات الفكرية:
15- ابن تيمية: مجموع الفتاوى، تحقيق: أنور الباز، عامر الجزار، دار الوفاء، ط: 3، 1426 ه، 2005 م.
16- جلال العالم: قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام، أبيدوا أهله.
17- عبد الله التل: جذور البلاء، دار الأنصار، ط: 1، 1390 ه- - 1971 م.
18- محمد أسد: الإسلام علي مفترق الطرق.
19- محمد رشيد رضا: مجلة المنار.
20- مصطفى خالدي، وعمر فروخ: التبشير والاستعمار: ص: 40، المكتبة العصرية، 1968. المنار: عدد 9-11-1962.


[1] راجع الكتاب، وهو كله في هذا المضمون.

[2] محمد أسد: الإسلام علي مفترق الطرق: ص39، .

[3] عبد الله التل: جذور البلاء: ص201، دار الأنصار، ط: 1، 1390 هـ ـ 1971 م.

[4] د. مصطفى خالدي، ود. عمر فروخ: التبشير والاستعمار: ص: 40، المكتبة العصرية، 1968.

[5] المنار: عدد 9-11-1962.

[6] مجلة المنار: م: 4، ج: 21، ص: 827، عدد: 26 يناير 1902.

[7] تفسير ابن كثير: 1/ 404، تحقيق: سامي محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط: 2، 1420 ه، 1999م.

[8] القاموس المحيط: مادة: قعد.

[9] أبو هلال العسكري: الفروق اللغوية: ص: 50، ت: محمد إبراهيم سليم، ط: 1، دار العلم والثقافة.

[10] الجاحظ: البيان والتبيين: 1/ 20، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي ـ القاهرة، ط: 7، 1418 ه ـ 1998 م.

[11] ليس هدفنا في هذا المقام إلإحصاء ولكن هدفنا التمثيل الذي ينبي عن المقصد.

[12] وراجع في ذلك وغيره معجم المقاييس، وهو من تحقيق عبد السلام هارون في خمسة مجلدات.

[13] ابن جني: الخصائص: 1/ 5، ت: محمد علي النجار، المكتبة العلمية.

[14] ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 17 / 129، ت: أنور الباز، عامر الجزار، دار الوفاء، ط: 3، 1426 ه، 2005 م.

[15] الثعالبي: في فقه اللغة وأسرار العربية: ص: 56، ت: ياسين الأيوبي، المكتبة العصرية، ط: 2، 1420ه، 2000م.

[16] ابن فارس: معجم المقاييس: مادة: ع ق ل.

[17] ابن منظور: اللسان: مادة: سحر.

[18] السابق.

[19] السابق.

[20] عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز: ص: 401، ت: محمود شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة، ط: 3، 1413 ه، 1992 م.

[21] نور الدين الجزائري: معجم الفروق اللغوية: ص: 264.

[22] الثعالبي: فقه اللغة: ص: 315.

[23] الزمخشري: تفسير الكشاف، 6 / 263، ت: عادل أحمد عبد الموجود، على محمد معوض، مكتبة العبيكان، ط:1، 1418 ه، 1998 م.

[24] أبو هلال العسكري: الفروق اللغوية: ص: 24.

[25] محمد الطاهر ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير: (15 / 120)، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت ـ لبنان، ط: 1، 1420ه، 2000م.


[26] السابق: (15 / 136).

[27] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (7 / 271).

[28] وراجع في ذلك كتاب: لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، د. فاضل صالح السامرائي.

[29] صحيح متفق عليه: رواه البخاري: (5 / 2399) ح: 6187، ت د. البغا، دار ابن كثير ، اليمامة ـ بيروت ، ومسلم: (ح: 548) دار الجيل ـ بيروت.

[30] ابن جني: الخصائص: 1 / 33.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.61 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.98 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.47%)]