عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 28-09-2022, 02:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,560
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش

قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش


فتيحة حسون



مداهمة: تداهم فرسانُ الجود سُوحَ الشاعر فجأة، وتنزل في خصبٍ تمرع حتى الثمالة؛ فيتلألأ نَجمها ويسطع، وتجد كلَّ ما تأمل، وترجو المزيد.. وضمير "جودكَ" تقديره أنت، يعود على قائد الفرسان، وكلُّ فارس من هؤلاء الفرسان يمثل ميدانًا منفصلًا ومتصلًا في آنٍ بالجود المقنع.. ميادين مختلفة؛ ثقافيًّا، اقتصاديًّا، سياسيًّا، واجتماعيًّا وصحيًّا، وكأن الشاعر يخاطِب هنا "الأممَ المتحدة" أو يخاطب الويلات المتحدة! حين تنزل بقضِّها وقضيضها رافعة راية الإنسانيَّة المرفرفة في سماء الاستلاب لكلِّ شيء دون وجه حق، ومصطلح "الفرسان" ذو حمولة دلاليَّة عميقة مرتبطة بالشهامة والشجاعة، ونشرٍ للعدل وإحقاق للحق.. ترى هل ما فعله الفرسان المداهمون يمتُّ بصلة لهذه الصفات؟!





لم يحدِّد الشاعر اسمَ قائد الفرسان؛ لأنَّ "كَ" رمز لكلِّ مداهم، لكلِّ من يأتي لابسًا قناعَ الجود، ويُخفي وراء ظهر كرمِه خَنجرَ الغدر، يزرعه في قلب الدار!



ولأنَّ أصحاب الجود المقنَّع يوجدون في كلِّ زمانٍ ومكان عبر التاريخ، وآثارهم باقية ما زالت تَصرخ ملءَ الوجع والدَّمار الذي خلَّفوه وراءهم؛ لم يحدِّد الشاعر الضميرَ الحقيقي لـ "كَ".. والشخصيات المتعددة التي استدعاها الشاعِر دلالة على أن "كَ" كان في عصر الجاهليَّة؛ حين ذكر حاتم الطائي، و"كَ" كان في صدر الإسلام حين استدعى شخصيَّة الحسن رضي الله عنه، و"كَ" كان في عهد صلاح الدين، و"ك" كان في عصر يوسي مراكش وأيضًا في عصر شوقي.. وكذلك "ك" موجود في عصر العولمة، ما زال يعلِّمنا أن "الأنا" أسطورة من أساطير الماضي، والعَنقاء مجرَّد رماد.. والرماد يملأ عيون "الذات"!



قلب الدار وأطلال الهوية!

السوح: ساحة الدار، صحن الدَّار، رمز من رموز البيوت العربيَّة القديمة، هي ليست مكانًا هندسيًّا فقط، بل هي أيضًا طوبوغرافية روحيَّة وفكرية، يتجلَّى فيها ركح الذَّاكرة، وفضاء رحب مليء بالدِّفء والمسامرة، واللعب الطفولي، ونبض الهويَّة والوطن.. وإن كانت المقدمة الطلَليَّة عنوانَ الحبيبة، فالساحة عند الشاعر هنا هي عنوان ذاكِرة الانتماء الحضاري، وأطلال الهوية المفقودة.. والساحة تلعب دورًا فعَّالًا في إظهار حقيقة الفرسان؛ إنَّها مَسرح الأحداث الذي تتجلَّى فيه الملامح الحقيقيَّة لأولئك المداهمين، وهي بؤرة دلاليَّة، ومركز الصراع الخفي وراء الجود المقنَّع... سطوٌ على كيان الشاعر، واستنزافٌ لثرواته وخيراته، واحتقار لِماضيه، واستهتار بمعتقداته ورموزه!



وتوًّا!

في ذات اللَّحظة التي يَنزل فيها الفرسان ساحةَ الدَّار لقلب الدار، بعد أن تمرَّغوا في النِّعم، تشهر كلُّ فرقة من الفيلق سيفَها القاطع، وتَنشر حولها سوادًا شديدًا.. ثمَّ تغتال كلَّ الآمال؛ مشهدٌ تراجيدي، مَذبحة غطَّت دماؤها أرضَ السُّوح، بعد أن نزلَت فرسانه - الآخر؛ الذي يوجِّه إليه الشاعر خطابَه - المقنَّعة تحت قناع الجود والكرَم والمساعدة، ها هي في لَحظة تَنقلب إلى حقيقتها وتذر قناعَ الجود جانبًا، فتقطع كلَّ اخضِرار، وتُعيد المكان سوادًا، بل شديد السواد لا يرى فيه الإنسان موضعَ قدمه، وتغتال كلَّ الآمال التي كانت مأمولة فيها.. أولئك الفرسان الذين أتوا حاملين لواءَ (الكرم، السلام، الديموقراطية، الحوار بين الثقافات) ذابَت ألوان شعاراتهم من حرارة الجشع؛ إنَّه الافتقار إلى القِيَم الإنسانيَّة والأخلاقيَّة؛ ها هم يَنشرون الفتنةَ كقطع اللَّيل المظلِم، بعدما كانت ساحة الدَّار لهم مرتعًا خصبًا.



وهنا نجد الشاعر استطاع بحنكةٍ رائعة استعمالَ كلمة "الفرسان" وتوظيفها في حواره مع "الآخر" كعلامة سيميائية تدينه وتحطُّ من قَدْره، وتظهر التناقضَ الحاصل ما بين: "تُداهم / تَغتال / تشهر عضبك / تنشر محلك"، وما بين كلمة "جودك"، إن "الآخر" يجيد التَّمثيل لابسًا قناعَ الجود.. أتَت كتيبة فرسان الآخر، ووجدَت كرمًا مضاعفًا "تمرع / تزهر / تأمل" لكن سرعان ما كشفَت عن حقيقتها؛ فالفرسان مصطلح يَختزل آفاقًا دلالية تهطل عزمًا وقوة، وعدلًا وشهامةً، وشجاعة ونبلًا.. لكن فرسان "الآخر" لا يمتُّون للفروسيَّة بصِلة، هم قَطيع من المفترسين؛ قَتلوا ونهبوا، بل اغتالوا.. اغتالوا كلَّ الآمال التي كانت مَنقوشة على باب المستقبل، وبما أنَّ الذَّات الشاعرة عربيَّة أصيلة تذوقَت المعنى الحقيقي للفروسيَّة، ظنَّت أنَّ كلَّ راكب على جواد الجود كريمٌ نبيل فارس يَحترم منظومة الفروسيَّة.. لكن، هيهات! لقد كانت المداهمة مخبأة في جوف حصان طروادة.



وبعد أحداث المداهمة، يطلق الشاعرُ أناه:

أطَـلِّقُ هذي الأنا طلَـقاتٍ ثـَــلاثًا

أَمُــورُ..

أَفُــورُ..

أَثــورُ..

"الغضب الساطع آتٍ"!



حركة وانفِعال واضطراب يصل حدَّ الثورة! حين رأى الشاعِر مظاهرَ الدَّمار والاغتيال؛ حرَّر أناه من قَيد الخوفِ وأطلق سراحها طلقات ثلاثًا.. فكما أنَّها كانت في غربة ثلاثيَّة الأبعاد، أطلِّقها بعدد تلكم الغربات - قد كرَّر الشاعر كلمة غريب ثلاث مرات - حيث لا للاستسلام لأوجاع الغربة، ولا بدَّ من التحرُّر من قيد الخوف، ويجب أن يَنتفض من أجل حماية السوح، فتتحرك "الأنا" وتضطرب غضبًا؛ فتمور وتفور وتثور!



حركة الأفعال المضارعة تتنامى وتمتدُّ، ويتسارع إيقاعها على نَغمات ما يموج ويهيج في أعماق الشَّاعر من مشاعر الغضَب، إنَّها أفعال مليئة بديمومة الحركة، إنَّها حركة الغليان المتكرِّر والمستمر.. ومد الصوت - الحرف - بحركة الصائت "الواو"؛ وهي حركة طويلة يَزداد معها إيقاعُ الغضب والثورة تسارعًا؛ "إذ تطويل الحركات أداة من الأدوات المتوافرة بين يدَي المتكلِّم للتعبير عن أغراض شتَّى، ونقل حالته النفسيَّة وانفعالاته الداخليَّة والخارجيَّة، وتضمين العبارات دلالات متعددة"[3].



"أَمور، أَفور، أَثور"؛ مشاعر الغضب والاضطراب والانفِعال النَّفسي؛ النار تتَّقد وتَستعر في جوف الشاعِر، وحرف الراء فيه من النَّار والرمضاء ما يفي بالغرض ليصوِّر حالته بعدما رأى اغتيال الآمال، وذبح الاخضِرار من طرف الفرسان المداهمين.. والدفقات الموسيقيَّة تتوافق مع حالته النفسيَّة، فقد استعمل الأصوات المجهورة والمهموسة المفخَّمة والمرقَّقة؛ "حيث يسهم الجَهر والهَمس في تَشكيل المعنى، وتوضيحه، كما أنَّه يتوافق مع الحالات الشعوريَّة والنفسيَّة، ومع الموقف الحياتي الذي يَبغي الشاعر التعبيرَ عنه"[4]، وحرف الراء المجهور المكرر فيه كثيرٌ من الحركة، يلائم مشاعرَه الغاضبة والثائرة.. إيقاع متواتر ومتوتِّر، وحركة سريعة، سرعتها من قبس شعر الملك الضِّلِّيل حين قال:

مكرٍّ مفرٍّ مُقبلٍّ مدبر معًا ♦♦♦ كجلمودِ صخرٍ حطَّه السيلُ من عَلِ



النسيج الموسيقي هنا ليس اعتباطيًّا، بل هو فعلٌ قَصدي، إنَّه حِيكَ بحِرفيَّة متقنة، يصور لنا الشاعِرُ من خلاله حالتَه ومعاناته، يَنقل أحداثَ أعماقه بكاميرا الكلمات إلى سطح الواقع؛ لتكون صورة مجسدة، عنوانها: "الغضب الساطع آتٍ".. والسياق الشعوري السريع، وكثافة الشحنات العاطفية، والتوتُّر الدرامي: يصعِّد من إيقاع القصيدة.



لكن فجأة يَخبو الثوران؛ فبعد الحركة الإيقاعيَّة التصاعديَّة، ها هي الآن تنازليَّة، يعود الإيقاع إلى الهدوء؛ ممَّا يؤثِّر في نفسيَّة الشاعر والمتلقي معًا، فينقلنا من مسرح السوح والثوران إلى السماء الفسيحة؛ يرسم من سحبها لوحةً شعريَّة تهمي إبداعًا وروعة.. فيقول:

ولكنَّ جَوْهــرَها الفذ

يَبْـزُغ لي نَــوْرَسًا يَسـْتوي كـسَبيكةِ كُـــرْسُفْ

أفِــيقُ

فأطْــرَحُ زِيًّا قَــشِيبًا

أنَقِّر عنْ حاتِـــمٍ

عن صَلاحٍ

وعن أحْمَدٍ في المَــنافي!

نورس يبحث عن موانئ التاريخ!



حمم بركان تَستعر في جوف الشاعِر، غضب عارِم يَكتسح كلَّ شيء؛ لا بدَّ من الوقوف في وجه أولئك المداهمين.. لكن، بدأ الهدوء يَسري في أورِدَة ذلك الغضب؛ الجوهر الحقيقي والمتفرد لـ "الأنا" يبزغ نورسًا.. نورسًا ناصع الأصالة، وكلمة "يبزغ" استعارة رائعة، تُحيلُنا إلى بزوغ الشمس.. تبزغ أصالة وتفرد هذه "الأنا" كنورس في استوائه كما سبيكة كرفس، صورة شعريَّة ذات مَرامٍ وغايات دلاليَّة، تكشف لنا مدى تفنُّن الشاعر وذكائه الشِّعري في إتقان رصِّ الكلمات ونَظْمها في قالب بلاغي جد رائع؛ ليَرتسم المشهد أمام المتلقي حيًّا وحقيقيًّا مرصَّعًا بالروعة والدهشة؛ ليقنعه أنَّ التراجع عن الثورة لم يَكن جبنًا ولا تقاعسًا، بل هو سموُّ النفس ورقيُّها.. إنَّه إيثار السَّلْم وتجنب الصِّدام، فالقدرة على التصدِّي والتحدِّي وإن كانت ضرورة لحِفظ ماء الوجه والكرامة، فإنَّ السلم أولى، الشاعر لم يَشأ أن تَكون لغة السَّيف هي الأداة التواصليَّة والحواريَّة بينه وبين "الآخر"، إنَّ سلاحه هو الكلمة الحواريَّة، متخذًا من منهاجه الديني نبراسًا يرشده إلى ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [فصلت: 34]؛ دَفع الإساءة بالحِلم واللِّين، دفع الظَّلام بالنور، نور يُضيء سماء الأنا وما حولها.. أصالتها تُحلِّق في سماء الرقيِّ والسموِّ الروحي، نقيَّة وناصعة البياض كالقطن، نور سُكب في قالب النَّقاء.


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.73 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.69%)]