عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 22-09-2021, 10:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,591
الدولة : Egypt
افتراضي الرّؤية النّقديّة عند محمود شاكر

الرّؤية النّقديّة عند محمود شاكر





د.خليفة بن عربي







الرّؤية النّقديّة عند محمود شاكر

[1327هـ / 1909م – 1418هـ / 1997م]

الملتقى الأدبي الشهري لرابطة الأدب الإسلامي العالمية - الرياض





مرجعيّة النّقد الذّوقي:

يقدّم محمود شاكر في مشروعه النّقديّ الذّوقيّ معطياتٍ توثّق العلاقة بين النّصّ والقارئ، وهي علاقة تتّسم بالجدليّة الّتي تتماهى فيها كينوناتهما، والّتي تتطلّب أن يوجد النّاقدُ بينه وبين النّصّ المدارات الّتي تتناصى فيها أدواتُهما، وأدوات النّاقد هي المعطيات النّقديّة المتوافرة بين يديه. والنّصّ لا يمكن أن يتحقّق له وجودٌ أو مصير بدون القارئ؛ لأنّ القارئ منتجٌ لما يرصد، ومن ثمّ فإنّه يعيد تشكيل النّّصّ وَفْقَ ما تنتهي إليه هذه العلاقة بينهما، إنّها علاقة تفاعل وتحوّل، ومنافسة واشتراك، واتّفاق وتضادّ تذهب بالقارئ والنّصّ معًا كلّ مذهب، وتحقّق لهما كلّ سبل التّماهي والانفتاح الذّاتيّ.



وكانت الانطلاقة الفعليّة لتجربته هي التّكوين التّراثيّ الأوّل القائم على ما يسمّى بالموسوعيّة الثّقافيّة الممتزجة مع الذّوق، فقد عبّ من معين التّراث العربيّ كلّه، وقرأ كلّ ما وقع تحت يديه من إرث الأجداد القديم، يقول: "فأقدمتُ إقدام الشّابّ الجريء على قراءة كلّ ما يقع تحت يدي من كتبِ أسلافنا: مِن تفسير لكتاب الله، إلى علوم القرآن على اختلافها، إلى دواوين حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشروحها، إلى ما تفرَّع عليه من كتب مصطلح الحديث وكتب الرّجال والجرح والتّعديل، إلى كتب الفقهاء في الفقه، إلى كتب أصول الفقه وأصول الدّين (أي: علم الكلام)، وكتب الملل والنِّحل، ثمّ كتب الأدب وكتب البلاغة، وكتب النّحو وكتب اللّغة، وكتب التّاريخ، وما شئت بعد ذلك من أبواب العلم. وعَمَدتُ في رحلتي هذه الأقدم فالأقدم" [1].



وهي موسوعيّة شاملة، وقراءة متعمّقة في كلّ ما تركه لنا التّراث، ثمّ إنّ هذه القراءة ليست قراءة عاديّة، بل عمّق مخرجات القراءة واتّجه إلى مفاصل النّصوص الدّاخليّة واهمّ بامتداداتها العميقة، يقول: " كلُّ إرث آبائي وأجدادي، كنتُ أقرؤه على أنّه إبانةٌ منهم عن خَبايا أنفسهم بلُغتهم، على اختلاف أنظارهم وأفكارهم ومناهجهم. وشيئًا فشيئًا انفتح لي البابُ يومئذٍ على مصراعيه. فرأيتُ عجبًا من العجب، وعثرتُ يومئذٍ على فيضٍ غزيرٍ مِن مساجلات خفيّةٍ كالهمس، ومساجلات ناطقة جَهيرةِ الصّوت، غيرَ أنّ جميعها إبانةٌ صادقة عن هذه الأنفس والعقول"[2].



ثمّ إنّ هذا السّير الموازي للتّراث في رؤيته لم يقف عند حدّ التّعامل الظّاهر الّذي يتّخذ من التّلقّي لمجرّد نهاية له، بل يحاول أن يكتشف المتون الخفيّة الّتي يحتويها النّصّ، وماذا يحمل النّصُّ من ماهيّة صاحبه ودواخله. إنّه باختصار يمارس عليها سلطته المتولّدة من رحم التّراث.



إنّ اللّحمة الوامقة بين القارئ والنّصّ هي طريقة شاكر في النّقد، وهو يعترف بأنّ منهجه ذاك ليس بدعًا استحدثه من تلقاء نفسه، إنّما هو طريق مستتبّ عند القدماء؛ لذا فإنه يقول: "أردتُ أن تقفَ بالدّليل الواضح، على أنّ المنهج الّذي استطعتُ أن أمهّده لفكري، كان نابعًا من صميم المناهج الخفيّة الّتي سنّ لنا آباؤنا وأسلافُنا طُرُقَها" [3]؛ أي إنّ هناك كمًّا وافرًا من المناهج الأدبيّة والفكريّة الّتي أصّلها القدماء، لكنّها خفيّة، بمعنى أنّهم أصّلوها استخدامًا إجرائيًّا، ولم يقنّنوها قواعدَ ونُظُمًا واضحة التّخطيط.



وتبدو مسألة إعجاز القرآن بالنّسبة إلى محمود شاكر المرتكز المهمّ الّذي استند إليه، والمنطلق الأوّل الّذي أشرف من خلاله على استجلاء مناحي النّصّ والدّخول في عالمه، فهي مسألة – على حدّ قوله – "تشمل بناء الإنسان العربيّ أو المسلم، من حيث هو إنسان قادر على تذوّق الجمال في الصّورة والفكر جميعًا"[4]، وهذه المسألة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقضيّة أخرى وهي قضيّة الشّعر الجاهليّ، وللشّعر الجاهليّ عنده شؤون وشجون، فلقد رهن حياته كلّها مدافعًا عنه، وسائرًا في محيطه، وبانيًا فكره ونظراته ورؤاه وَفْق تصوّراته العميقة لثبوت وجوده، وأصالته، ومكانته في العربيّة. فما هو حقيقة الارتباط بين إعجاز القرآن والشّعر الجاهليّ في نظره؟



إنّ الشّعر الجاهليّ هو أساس مشكلة إعجاز القرآن؛ لأنّ القرآن نزل معجزًا لقومٍ من المفترض أنّهم يحوُون صفاتٍ مميّزة، وهي أنّهم قادرون على التّمييز بين الحجاز الفاصل بين كلامهم الّذي هو غاية في البيان فيما تطيقه القوى، وبين القرآن الّذي يقطع هذه القوى ببيان ظاهر المباينة له من كلّ الوجوه. وهؤلاء القوم الّذين تمكّنت منهم هذه الصّفات، وأصبحوا في مكانة من البلاغة والفصاحة عالية متينة، يبرز عندهم الشّعر بوصفه الأنموذج الأسمى في البيان، وهو بالنّسبة إليهم ليس مجرّد شعر تُروى فيه أخبارهم، وتوثّق أيّامهم فحسب، بل هو أكبر من ذلك، ودراسته يجب أن تتمّ بفهم أعمق وأدقّ، فدراسة الشّعر الجاهليّ كما يقول: "تتميّز بالقدرة على البيان، وتجريد ضروب هذا (البيان) على اختلافها، واستخلاص الخصائص الّتي أتاحت للغتهم أن تكون معدنًا للسموّ، بالإبانة عن جوهر إحساسهم، سموًّا يجعل للكلام حياةً كنفخ الرّوح في الجسد القائم، وكقوّة الإبصار في العين الجامدة، وكسجيّة النّطق في البضعة المتلجلجة المسمّاة باللّسان"[5]. وهنا مكمن العلاقة، لكي نفهم ماهيّة ذلك الإعجاز، ولكي نعرف كيف حار العرب في أن يأتوا بشيء مثله، ولكي ندرك سرّ ذلك السّموّ الإلهيّ، علينا ابتداءً أن نؤمن بمصداقيّة ذلك الشّعر الجاهليّ، وأنّه شعر موجودٌ يمثّل الأنموذج الأسمى في الفصاحة، وإلاّ بطلتْ قضيّة الإعجاز، وبطل تحدّي الله للعرب، ومن ثمّ فإنّ شاكرًا يرى أنّ مادّة الدّراسة الأولى هو ذلك الشّعر الجاهليّ؛ " لأنّ القرآن نزل بلسان العرب، والّذين نزل عليهم ثمّ تحدّاهم وأعجزهم، هم أصحاب هذا الشّعر والمفتونون به وببيانه"[6].



وهذا الفهم هو الّذي فتح على شاكر أبوابًا من الصّراعات والمعارك الأدبيّة الّتي واجه فيها مجموعةً كبيرة ممّن حاولوا أن يشكّكوا في مسلّمات الشّعر الجاهليّ[7].



وليس من شأننا أن نبحث تاريخ المسألة عند شاكر، وكيف حلّلها وأصّل قوانينها، أو ظروف معاركه الأدبيّة، بل نحن بصدد بيان تأثّره بقضيّة إعجاز القرآن - بوصفها المرتكز عنده- وكيف وظّف مشاكلَتَه للقضيّة في إجرائه منهج التّذوّق، فانعكست على أعماله النّقديّة.



وكانت شخصيّة عبدالقاهر الجرجانيّ من الشّخصيّات الأولى الّتي ألقت بظلالها على فكر محمود شاكر، وإعجابه به في هذا السّياق جاء لميزة فيه، فعلى الرّغم من كونه "نحويًّا متكلّمًا، ولكنّه استودع قدرًا باهرًا من تذوّق البيان ... وزادَهُ تذوُّقُهُ بصيرةً في (النّحو)" [8]، وهذا جمع بين الفنون فريد في رأي شاكر، فهو الّذي أتاح له الانفتاح على آفاق هذه القضيّة، ووضع لمسات واضحات فيها.



إنّ فكرة النّظم عند الجرجانيّ تقوم على الأصول العامّة للنّحو العربيّ، وأساليب العربيّة، وهي: "أن تضع كلامك الوضع الّذي يقتضيه علم النّحو، وتعملَ على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه الّتي نُهجتْ فلا تزيغَ عنها، وتحفظَ الرّسوم الّتي رُسِمتْ لك، فلا تُخلُّ بشيء منها" [9].



فالقضيّة إذن قضيّة لغة، وما النّظم سوى استواء الإدراك الإنسانيّ على أصول وضوابط هذه اللّغة، بوصفها المشغّل الأوّل للنّشاط الفكريّ في الأمّة، إذ يعوّل عبدالقاهر على ذلك الاستيعاب العميق لأصول اللّغة وتراكيبها ودلالاتها، وفي ذلك يعرّض عبدالقاهر بمن يستهينون بعلم اللّغة، وبعلم البيان خاصّة، يقول: "وجملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك، إلاّ من جهة نقصه في علم اللّغة، لا يعلم أنّ ههنا دقائقَ وأسرارًا طريقُ العلم بها الرّويّةُ والفكر ولطائف مستقاها العقل، وخصائصُ معانٍ ينفرد بها قوم قد هُدُوا إليها، ودُلُّوا عليها، وكُشف لهم عنها، ورُفعت الحجب بينهم وبينها، وأنّها السّبب في أنْ عَرَضَت المزيّة في الكلام ووجب أن يَفْضُلَ بعضُه بعضا، وأن يبعد الشَّأْوُ في ذلك، وتمتدّ الغاية، ويعلو المرتقى، ويعزّ المطلب، حتّى ينتهي الأمر إلى الإعجاز، وإلى أن يخرج من طوق البشر" [10]؛ أيّ أنّ السّرّ الّذي جعل أولئك القوم يحارون ولا يملكون أن يُجاروا القرآن هو علمهم الغزير بأسرار اللّغة، وإتقانهم سبر مغاور الكلام، وإحكامهم مشاكلة المعاني والمقاصد من وراء القول، كما يتّضح لنا من نصّّ الجرجانيّ الآنف وغيره من نصوصه المبثوثة في كتبه أنّه قد كَلُف بقضيّة الإحاطة بمعرفة حقيقة البيان وكنهه، ومظاهر إنشاء العقل له يقول عنه الدكتور محمّد محمّد أبو موسى أنّه رام "يتدسّس ويمدُّ أصابعه إلى ما نسمّيه اليوم عمليّة الإبداع، ومن هذا كان يجتهد في استكشاف العنصر الّذي يكون فيه النّشاط العقليّ، وهذا العنصر لابدّ أن يكون قابلا للتّغيير، والتّبديل، والتّعديل، والتّحوير، وأن تكون إمكاناته في هذا التّغيير والتّحوير والتّشكيل لا حدود لها، لأنّه هو الّذي تعمل فيه ألسنة المتكلّمين جميعًا، عامّتهم وخاصّـتهم، وفي أجيالهم المتلاحقة"[11].



ذلك هو الفهم/الهمّ الّذي أخذ بعنان محمود شاكر، والرّؤية الّتي استقرّت في ذهنيّته العلميّة، وهو يقرأ بإعجاب واستقراء ذلك النّشاط الإبداعيّ عند عبدالقاهر، وكيفيّة قراءته للنّصوص جميعها وفق ذلك الأفق اللّغويّ، وقد وقف محمود شاكر مليّا على قراءة عبدالقاهر لنصّ من نصوص سيبويه قال فيه: "وأمّا الفعل فأمثلةٌ أُخذتْ من لفظ أحداث الأسماء، وبُنيتْ لما مضى، وما يكون ولم يقع، وما هو كائنٌ لا ينقطع"[12]، يعلّق عبدالقاهر على هذه المقالة: "لا نعلم أحدا أتى في معنى هذا الكلام بما يوازيه أو يدانيه، أو يقع قريبًا منه، ولا يقع في الوهم أيضًا أنّ ذلك مستطاع. أفلا ترى أنّه إنّما جاء في معناه قولهم: ((والفعل ينقسم بأقسام الزّمان، ماضٍ وحاضر ومستقبل))، وليس يخفى ضعف هذا وقصوره عنه. ومثل قوله: (( كأنّهم يقدّمون الّذي بيانه أهمّ لهم، وهم بشأنه أعنى، وإن كانا جميعًا يهمّانهم ويعنيانهم))"[13]. لقد وضع عبدالقاهر في عبارة واحدة مبتسرة "وليس يخفى ضعف هذا وقصوره عنه"، وضع كمّا هائلا من الإدراك اللّغويّ العميق لعبارة سيبويه المختصرة أيضًا، وَحَدَّتِ المسافة الفارقة بين قوله وقول من جاء بعده، فما هو المستوى الدِّلاليّ العميق لعبارة سيبويه؟، إنّه في الواقع يريد أن يخلّص تعريف الأفعال ممّا قد يطرأ على أنواعها من تشابه في الشّكل واللّفظ، لكنّها لا تؤدّي الدِّلالة نفسها، أو ما يختلف عنها في الصّياغة ويؤدّي الدّلالة نفسها، فمن الأفعال الماضية ما لا يدلّ على وقوع في الزّمن الماضي، لكنّه جاء بصيغة الماضي، كالدّعاء في قولك: رحمه الله. وكذلك في الأمر، الّذي عبّر عنه بقوله: "وما يكون ولم يقع" ، فمن الأفعال ما جاء على صيغة المضارع مثلا لكنّه يدلّ على الأمر؛ كقولك: لا تخرجْ. وكذلك في قولنا: "قاتل النّفس يُقتل، والزّاني المُحصن يُرجم"، فهي في زمن مُبهم لم يكن ولم يقع، ولا يدلّ على ماضٍ أو حاضر أو مستقبل، إذ لم يقع الفعل بعد وأمّا الزّمن الثّالث وهو ما عبّر عنه سيبويه بقوله: "وما هو كائن لم ينقطع"، كقولك: محمّد يضرب ولده، فهو يدلّ على استمرار وعدم انقطاع بعد مضيّ الحال إلى الاستقبال، ويلحق به ما جاء في قوله تعالى: (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا) فهو خبر عن مغفرة كانت ولا أوّل لها، وهي كائنة أبدًا لا انقطاع لها [14].



وهكذا أعمل عبدالقاهر منهجه وطريقته في استشفاف أسرار الكلام، وخبايا البيان، حتّى على كلام نحويٍّ علميٍّ مقنّن، وليس كلامًا بلاغيًّا أو حديثا فيه خيال أو صورة أدبيّة، فهو يعدُّ أيّ كلامٍ مصقول تابعًا للبلاغة، وداخلا في المكوّنات البيانيّة، وهذا ما جعله ينفذ إلى جوهر هذه العبارة، ويتنبّأ أنّه لن يقول أحدٌ عبارةً أحكم منها وأوثق؛ لأنّها بلغت حدّا رفيعًا في التّعبير البشريّ، وكان يؤصل لفكرة سبر طرائق البيان ومعادنه الّتي تفضي في نهاية الأمر إلى معرفة مراتب الكلام لتتبيّن بعد ذلك أقصى المراتب البشريّة فصاحةً وبلاغة، ما لا يدخل في طاقة أحد أن يأتي بأسمى منه.



وبناء على تلك المفاهيم، فإن محمود شاكر يخلص إلى ضرورة جعل مسألة إعجاز القرآن مرتكزًا ومنطلقًا للدّخول إلى عوالم أرحب في سياقات اللّغة المختلفة، يقول: "فعسى أن يكون قد حان الحِين للنّظر في إعجاز القرآن نظرًا جديدا، ولا يتيسّر للنّاس إلاّ بعد أن يتمّ تحليلُ اللّغة تحليلا دقيقًا قائمًا على حصْر الوجوه المختلفة لكلّ حرفٍ من حروف المعاني، وتصاريف اللّغة. لأنّ هذه الحروف وهذه التّصاريف، تؤثّر في المعاني، وتوثّر في الأساليب، وتحدّد الفروق الدّقيقة بين عبارة وعبارة وأثرها في النّفس الإنسانيّة، وأثر النّفس الإنسانيّة فيها، وفي دلالاتها" [15].



ومن ثمّ فإنّ الأُطُر المصنّفة لعمليّة التّذوّق عند محمود شاكر في جميع تجلّياتها وأنساقها اللّغويّة، تكمن في احتواء الكلام النّاتج من عمق الكلام، الّذي تنبع معرفته من ذلك الاشتباك المتداخل مع أصول هذه اللّغة، وسعة عباراتها، ودقّة مفاهيمها اللّغويّة، وسياقات ألفاظها الدِّلاليّة، ثمّ روابط تلك الألفاظ، وتناسقها، وترتيبها، وكيفيّتها، وما يقع فيها من اختيار، وكلّ العلاقات الّتي تسوّغ ضمّ الألفاظ، ووضعها الموضع الّذي أُريد لها، لِتعبّر عن المعنى المراد، وهذا كلّه يحتاج إلى عقل فذٍّ، وذوق مدرّب، وحاسّة لغويّة رصينة، تتعامل مع اللّغة بأناة وصبر ومجاهدة، فتميّز دقائق الألفاظ، وتتبيّن خفايا العلائق، وتحدّد مواضع السموّ من عدمه.



التّأمّل واحتمال التّأويل:

كان تأثّر محمود شاكر بالمفاهيم النّقديّة الّتي أسّسها عبدالقاهر الجرجاني هو الّذي حداه لإنتاج ما أسماه منهجَ التّذوّق، والجرجانيّ في تحليله للعمليّة النّقديّة كان المؤطّر المباشر لنظريّة التّاويل الّتي تلقي بظلالها على غالب الامتدادات النّقديّة، والملتصقة بالنّصّ قراءة وفهمًا، والمتسلّلة إلى مكامنه ومفاصله العميقة من مختلِف طرائقه.



وفي رؤيتنا فإنّه من المهمّ أن نشتغل في مسألة الممارسة النّقديّة لمحمود شاكر في ضوء نظريّة التّأويل ضمن سياقاتها التّراثيّة.



والنّصّ هو المدار الّذي بُنيت عليه الحضارة العربيّة الإسلاميّة العريقة، ولن نُبعد النّجعة لو قلنا إنّ النّصّ كان البؤرة الحضاريّة الّتي تَمَرْكَزَ بناءُ الأمّة عليها في إنتاج المعرفة، وبالطّبع فإنّنا نقصد هنا النّصّ (القرآنيّ) على وجه التّحديد، ذلك النّصّ الّذي أُنزل على أمّةٍ تغلغلت قبل نزوله في منظومات الحضارة لدى الأمم، لكنّه بوصفه النّصّ الدّستورَ للإسلام، قد أدخل العقل العربيّ في مكوّناتٍ حضاريّةٍ جديدة غاية في الإشراق، حتّى شكّل للأمّة العربيّة نهضتها المحوريّة الشّاملة الّتي نقلت العرب من عصر إلى عصر، ويأتي هذا الاستخلاص – كما يعبّر نجيب محمّد البهبيتيّ - إثر " متابعة واعية ناظرة فاحصة لمقوّمات هذا الدّين ودوره في الوجود، ولمنزلته في تطوّر الفكر الاعتقاديّ عند الإنسان، ولقيامه بهذا الدّور لأنّه جاء بحقٍّ، الثّمرة النّاضجة التّامّة للتّطوّر النّفسيّ الحضاريّ العريق لأمّة بلّت في تقلّب الأحداث عليها كلّ خطوات التّطوّر الاعتقاديّ، وتنقّلت معارجُها إلى الكمال المهيّئ لتكييفها لحمل هذه الأمانة وتأديتها إلى النّاس كافّة. ونؤمن كذلك بأنّها لو لم تكن لغتُها تابَعَتْهَا في هذا النّموّ الحضاريّ ما بلغت من الكفاية والقدرة والمنزلة الّتي أهّلتها للتّعبير الأمين عن المعاني القرآنيّة"[16].



والقارئ يحاول أن يقتحم عالم النّصّ انطلاقا من رؤى محكومة بعناصر التّجربة الأدبيّة الّتي تحدّد أفقَها من خلال خبراته الّتي اكتسبها من قراءته للأجناس الموازية للنصّ، وما يتولّد عنها من دراية عامّة.



أمّا الحديث عن التّأويل في المنظور الأدبيّ فإنّنا سنتّكئ على الأطروحات الّتي قدّمها عبدالقاهر الجرجانيّ؛ لأنّه يعدّ من أكثر النّقّاد الّذين أفادوا النّقد الحديث في الدّرس التّأويليّ الأدبيّ، أضف إلى ذلك أنّه كان الموسّع الأوّل لفكرة محمود شاكر عن التّذوّق، وأنّه نبّه نفسه إليه، وعمّق عنده الرّؤية[17].



لقد اهتمّ عبدالقاهر بإبراز النّواحي البلاغيّة في كلام العرب، من حيث إنّ البلاغة سبرٌ للأساليب الأدبيّة وطرائقها عند العرب، وهي حينئذ تعمد إلى إدراك معاني الأساليب والجمل والألفاظ، ودلالاتها الواسعة، وإيحاءاتها الممتدّة، ممّا يُحدث علاقة وثيقة بينها وبين ظاهرة التّأويل، بل نجد تداخلا كبيرًا بينهما وبين التّّذوّق الّذي ينصبّ على مواجهة النّصوص واستيعاب المراد من أساليبها، وهو الذي نلمسه عند محمود شاكر في سياق نقداته الإجرائيّة.



إنّنا عندما نقول: "فلان كثير الرّماد"، فهذا الكلام -بلاغيًّا -كناية عن (الكرم)، والتّأويل في واقع الأمر يقوم بمثل هذا العمل في صرف ألفاظ العبارات الأولى عن معناها الظّاهر إلى المعنى المقصود. إنّ التّوصّل إلى المعنى المراد في المجازات في نظر محمود شاكر يكون بالتّذوّق الكامل للأسلوب، الّذي يستمدّ قوامه من اللّغة نفسها وما قام بها من فعاليّات الجملة، من حيث اللّفظ المفرد، وأحكامه الإعرابيّة، والاستناد إلى وجوه البلاغة فيه، وتلك القدرة على إثارة المعاني، وتدفق آفاقها، وجريانها في مضامين اللّغة، والاتّساق الواضح بين المعاني وانتظام الكلام وتشكيله، كلّ ذلك هو أصل البلاغة، ومادّة النّقد الأدبيّ الّتي نهجها محمود شاكر.



وهذا ما فعله عبد القاهر عندما درس نظم الكلام، فقد استطاع تحليلَ الألفاظ والجمل والتّراكيب، وجعلها تكشف اللّثام عن أسرار المعاني القائمة في ضمير منشئها.

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.70 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.07 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.05%)]