عرض مشاركة واحدة
  #12  
قديم 23-02-2022, 08:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب

ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب(9/10)
د. عيد محمد شبايك





إذًا فقد كانت تلك الأبيات في حاجة إلى مَن ينعم النظر إليها حتى يجني المعنى المتضمَّن فيها، إنها دعوة إلى التأمُّل في النصوص الأدبية، وقد رأينا كيف تطوَّر موقف التلقِّي لتلك الأبيات على يد ابن جني، ثم على يد عبدالقاهر بصورة مُوَسَّعة، ثم ابن الأثير.







إن هذا التطوُّر في تلقِّي النص يسجِّل نقلة لافتة في طريق النقد العربي، وتؤرخ لوعي جمالي عربي في طريقة تلقِّي النصوص الأدبية، من مستوى الشرح الناحل المتآكِل - كما رأينا عند ابن قتيبة والباقلاني - إلى مستوى التأويل المُنتِج الخصب، ويرتبط فيه التحقُّق الجمالي الشكلي بالتحقُّق المعنوي أوثق الارتباط[24].







وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث نجد تحليلاً آخر لهذه الأبيات عند الناقد الأديب عباس العقاد، إلا أنه أضاف إليها بيتين آخرين، وهما:







نَقَعْنَا قُلُوبًا بِالأَحَادِيثِ وَاشْتَفَتْ

بِذَاكَ قُلُوبٌ مُنْضَجَاتٌ قَرَائِحُ




وَلَمْ نخْشَ رَيْبَ الدَّهْرِ فِي كُلِّ حَالَةٍ

وَلاَ رَاعَنَا مِنْهُ سَنِيحٌ وَبَارِحُ












ثم قال معلقًا عليها: "ولو أن الأبيات نقلت إلى اللوحة لملأت فراغًا من الشريط المصور لا يملؤه أضعافها من قصائد (المعاني) وقصص الوقائع؛ لأنها تنقل لك صور الحجيج غادين رائحين، يجمعون متاعهم ويشدُّون رواحلهم، ويحثُّهم الشوق إلى أوطانهم بعد أن قضوا فريضتهم التي فارقوا من أجلها ديارهم وأصحابهم، ثم تنقل لك صور البطحاء تعلو فيها أعناق الإبل وتسفل وتنساب أحيانًا كما تنساب الأمواج كرَّة بعد كرَّة، وفوجًا بعد فوج، ثم تنتقل إليك في المنظر نفسه صور الركبان أقبل بعضهم على بعض جماعات جماعات، يتجاذَبون أطرافًا من الحديث، ويتطارَحون آلافًا من الروايات والأنباء، ويذهبون في ذلك كلَّ مذهب تلمُّ به الأذهان في حشد كبير مختلف الأوطان والأعمار، متبايِن التجارب والأطوار، ثم تنقل إليك صورة القائل وما في نفسه من الشَّجَن واللَّوْعَة، وما يحرِّكه من ذلك إلى التسلِّي بالحديث واللياذ بغِمَار الناس، ولا تفوتك من تلك الصورة قصةٌ كاملةٌ تنبئك عنها "القلوب المنضجات القرائح"... وإلى جانب هذه المناظر والخواطر حواشٍ شتَّى يُضِيفها الخيال، وتُملِيها البديهة، فإذا أنت من الأبيات الخمسة في وادٍ يموج بالشاهد، ويتتابع بدواعي الشعور، وفي ذلك ما نرى في شيء غير اللفظ السهل الذي يحسب قومٌ من النقَّاد أنه كل ما في هذه الأبيات من فضيلة الجودة ومزية الإعجاب[25].







ومع ذلك لم يُشِر العقاد إلى جمال الاستعارة في قول الشاعر: "نقعنا قلوبنا بالأحاديث" وفي قوله: "ولم نخشَ ريب الدهر"، كذلك لم يُشِر أحدٌ من هؤلاء جميعًا إلى جانب الإيقاع الموسيقي الذي برز في الأبيات منذ بدايتها وحتى نهايتها، متأججًا حينًا، وخابيًا حينًا آخر، تناسبًا مع الفكرة وحركة النفس في تشوُّقها للديار والأحبة، وفي تسرُّب الطمأنينة والراحة إليها، فالشاعر منذ البداية أشعرنا بانتهاء حركة دؤوبة كان يمارسها ورفاقه في الحج، لكنه أبقى بصيصًا من الحركة حينما اختار "قضينا"؛ لما تشعره من استمرار الحركة، معززًا ذلك بإعادة تصوير طواف الوداع كآخِر مشهد في مكة، في قوله: "ومسح بالأركان من هو ماسح"؛ تمهيدًا لإعلاء إيقاع الحركة، بقوله: "وشدت على هدب المهارى رحالنا"، وهنا يصوِّر مدى الشوق للأهل واللهفة للعودة؛ حتى لم ينظر الغادي الذي هو رائح، محافظًا بذلك على استمرار الحركة، ومضيفًا للإيقاع صوتًا تناغميًّا مع أطراف الأحاديث؛ إيغالاً في تصوير رتَابة الحركة في اتجاه واحد، فأسبغ بذلك معنى الانسجام على الإيقاع رغم تبدُّل بواعثه، وتبدُّل الأمكنة التي مرُّوا بها، ثم أضعف الحركة في نهاية الأبيات، لتكون معادلة في قوَّتها لتلك التي بدأت بها، فالحركة كما بدأت انتهت، وبذلك فقد تحقَّق في هذا الشعر قول العسكري: "تعادل أطرافه، ومباديه لمآخيره"[26].







لا شكَّ في أن الجانب الصوتي يكون مدخلاً لتفهُّم الجماليات وإدراكها؛ لأن الصوت "في معظم الحالات هو مفتاح التأثيرات الأخرى"[27]؛ لقدرته على أن يستقطر الحس الجمالي في نفس المتلقِّي، وإن سلاسة النغم وتواليه يكشف المعنى المستور في الصدور، بقدرته على تتبُّع الحركة الداخلية للطبائع المبدِعة، كما أن فيه دلالة على تملُّك الطبع للصنعة، وإحكام الأصل قبل الفرع، كما أنه يسيطر على استجابة القارئ فينفعل مع النص وللنص، وتفسير ذلك أن الإيقاع والموسيقا وإن كانت لا تعطي أفكارًا محدَّدة، فإنها تُومِض صورًا وأحوالاً تُنزِل السامع في قلب الحدث.







ونتوقف عند بيت النابغة الذبياني الذي يعتذر فيه للنعمان بن المنذر، والذي يقول فيه:







فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي

وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ المُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ












لنرى ما دار حوله من مناقشات لغوية وأسلوبية، متتبِّعين ما قاله النقَّاد حوله، ففي حكومة النابغة للخنساء بنت عمرو في قولها: "وإن صخرًا..." قال: والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلت: إنك أشعر الجن والإنس، فقام حسان فقال: والله لأنا أشعر منك، ومن أبيك: فقال له النابغة: يا ابن أخي أنت لا تُحسِن أن تقول[28]: فإنك كالليل، قال: فخنس حسان لقوله.







إن قول النابغة لحسان: إنك لا تحسن أن تقول: فإنك كالليل... دليلٌ على تمكُّن النابغة من شاعريته، وأنها تفوق شاعرية حسَّان، ثم قوله: "فخنس حسان" يدلُّ على انقباضه وتراجعه وتنحِّيه عن مجاراة فارس هذه الحَلَبة، وهو النابغة في هذا المستوى من الشاعرية التي تفرز مثل هذه البلاغات المُفحِمة، غير أنَّا نفهم من ذلك الحوار أن هذه التعبيرات علامات على طريق النقد، وإبداء لوجهة نظر أحد فحوله مما يمثِّل قراءة أولى للنص.







ولقد جمع الأصمعي (ت216هـ) عن أحسن الشعر في أغراض مختلفة فقال: ما وصف أحدٌ (الثغر) إلا احتاج إلى قول بشر بن أبي حازم: "يفلجن الشفاه..."، ولا اعتذر أحد إلا احتاج إلى قول النابغة: "فإنك كالليل...".







وقد عدَّ ثعلب (ت291هـ) بيت النابغة السابق من "الأبيات الغر"[29]؛ لأنه يكشف عن شاعرية صاحبه، كما عدَّه ابن وهب (ت330هـ) من "التشبيه المصيب"[30]؛ لإصابته المعنى وكشفه عن نفسية الشاعر وتصويرها تصويرًا مصيبًا.







على كلِّ حال إن هذه الأقوال تعبِّر عن وجهة نظر أصحابها في بيت النابغة، وفي الوقت نفسه تمثِّل قراءات متعدِّدة للبيت.







ولابن طباطبا (ت332ه) رأي في هذا البيت، حيث يقول: "وإنما قال: "كالليل الذي هو مدركي"، ولم يقل: كالصبح؛ لأنه وصفه في حال سخطه، فشبَّهه بالليل وهَوْله، فهي كلمة جامعة لمعانٍ كثيرة"[31].







فحتمية إدراك النعمان للنابغة، هي الفكرة المدركة التي يتمثَّلها ابن طباطبا في البيت السابق، والتي يمكن - في نظره - أن تؤَدَّى بصورة أخرى كالتشبيه بالصبح، ولكنه يحسُّ بأن في صورة الليل معاني خاصة، ودلالات إيحائية فوق الفكرة السابقة، فالليل مثار ظلام وسكون ووحشة، وهو بذلك أقرب إلى تجسيد رهبة الشاعر وقلق نفسه، وتوجُّسه من ذلك القدر المحتوم الذي يتوقَّعه، ومن ثَمَّ كانت صورة الليل في نظر ابن طباطبا "جامعة لمعانٍ كثيرة"[32].







وعندما يتلقَّى عبدالقاهر بيت النابغة السابق يختلف الأمر، فيدرك بحسِّه اللغوي استحالة كون المعنى "إن فررت أظلني الليل"، أو "فإنك الليل الذي هو مدركي"؛ لأننا إذا ارتضينا التعبير الأول ضاعت الفكرة الأساسية في البيت، وهي أن الشاعر يعجز عن الهرب من الملك؛ لأن الفكرة التي يقدمها التعبير الجديد هي (إذا هربت منك استحالت الحياة كلها عليَّ ظلامًا)، أو (ضللت طريقي مثل مَن يضرب في الليل)، وهذا ما لم يهدف إليه الشاعر، بل إن هذا سوف يؤدِّي إلى فقدان كلِّ الإمكانات التعبيرية التي تُشعِرنا بسطوة هذا الملك وقوته، وقدرة يده على الوصول إلى كلِّ مكان بنفسه أو بعمَّاله، ولو اقتصرنا في رصد الدلالة على ما يفهم من الليل باعتبار الإظلام، لفاتت الفائدة، فمن الخطأ اعتبار السواد الخاصيةَ المطلوبةَ على أساس أن الشاعر يقع بهذا تحت غضب الملك بحيث يرى كل شيء أسود"[33].







ولكن يمكن أن نلحظ أن اختيار الشاعر لكلمة (الليل) توضح أبعادًا دلالية أخرى يضيفها السياق الموقفي، وتركيب الكلام، فالنهار هو الآخَر بمنزلة الليل في الوصول إلى كل مكان... فاختصاصه الليل دليل على أنه قد روَّى في نفسه، فلمَّا علم أن حالة إدراكه - وقد هرب منها - حالة سخط، رأى التمثيل بالليل أولى[34].







وربما كان هذا هو ما دفع عبدالقاهر إلى التماس تفسير دقيق لاختيار كلمة (الليل)، حيث يرى أن النابغة كان أثناء حديثه بالنهار لا محالة، وإذا كان يكلم الملك وهو بالنهار بعُد أن يضرب المثل بإدراك النهار له، وكان الظاهر أن يمثِّل بإدراك الليل الذي إقباله منتظَر، وطريانه على النهار متوقَّع، فكأنه قال وهو في صدر النهار أو آخره: لو سرت عنك لم أجد مكانًا يقيني الطلب منك، ولكان إدراكك لي - وإن بعدت حاصلاً كإدراك هذا الليل المقبِل في عقب نهاري هذا إياي، ووصوله إلى أيِّ موضع بلغتُ من الأرض[35].







ويقول أسامة بن منقذ (ت584هـ): "ومعلومٌ أن هذا الشعر في حال الخوف، والليل بحال الخوف أَوْلَى؛ لأنه يشبه الاستتار والاختفاء"[36].







وإذا كان لنا أن نضيف شيئًا إلى ما سبق من قراءات في بيان جمال الصياغة الفنية في هذا البيت، أنه اشتمل على تشبيه طريف جمع فيه الشاعر - بطاقته الإبداعية - بين متباينات ومتنافرات لها أصل في العقل، لا يمكن إدراكها ببديهة السمع أو بلمحة الناظر المتعجِّل، وإنما بالتأمُّل الذي يكشف عن تفاضُل المتلقِّين في الفهم والتصوُّر، ويُعرِب عن شرف الصنعة وفضيلة القول، ويوحي بدقَّة الشاعر في إيجاد المشابهة أو التناسب والتلاؤم بين المتباعدات، بل ينمُّ عن ذكائه ونفاذ خاطره وقدراته التعبيرية "ألاَ ترى أن التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدَين في الجنس، ثم لطُفَ وحَسُنَ لم يكن ذلك اللطف وذلك الحسن إلا لاتّفاقٍ كان ثابتًا بين المشبَّه والمشبَّه به من الجهة التي بها شَبَّهْتَ إلاَّ أنه كان خفيًّا"[37]، يحتاج إلى تأمُّل ورويَّة من متلقٍّ ماهر حاذق، يستطيع قراءة الوجه الغائب من الوجه الحاضر.







وعمق الأداء يمتدُّ إلى أداة التشبيه التي اتَّصلت بكلمة "الليل"، وأهمية الأداة هنا ينعكس على دلالة اللفظة التي بعدها... فالكاف في "كالليل" لها أثرُها القوي في أداء المعنى وتوجيه حركته الدلالية في البيت كله، ليس هذا فحسب، بل إنها تنقله من إطارٍ إلى آخر، تنقله من الهجاء إلى المديح الممزوج بالاستعطاف[38].







والنكتة التي يجب أن تُراعَى في هذا البيت أنه لا تتبيَّن لك صورة المعنى، الذي هو معنى النابغة، إلا عند آخِر حرف من البيت، حتى إن قطعت عنه قوله "مدركي"؛ بل "الياء" التي هي ضمير النابغة، لم يكن الذي تعقله مما أراده النابغة بسبيل؛ لأن غرضه التهويل من قوَّة وقدرة النعمان على إدراكه لا محالة، وفي ذلك المدح له ضمنًا[39].







فلغة شعر النابغة - في هذا الرأي - لغة شعرية مكثَّفة الدلالة، ثريَّة المحتوى، قد استُخدِمت فيها الألفاظ استخدامًا ابتكاريًّا، فأوحَتْ بفيضٍ من المعاني والدلالات الخاصة التي تشِعُّها في صياغتها المبتكَرَة ومن خلال موقعها السياقي.







وبعد هذه الوقفة التي نحسبها قد طالت، نرى أن هذا البيت على قصره وإيجازه قد أثار هذه المعاني والأفكار، ولفَتَ النقادَ وحرَّك هذه الأقلام على كثرتها واختلاف أنواعها، "ولا ريب أن لهذا الإبداع في الوصف والتصوير تأثيرًا عظيمًا في الوجدان، فمَن ذا الذي يقرأ هذا البيت ويفهم معناه ولا تهزه أريحية من الطرب والسرور؟"[40]، إنه عبَّر عن المعنى الواسع بصورة لغوية مختَزَلة، والاختزال - بلا شك - من أهم السمَات الجمالية في لغة الشعر.







على كلِّ حال، إن اللغة الفنيَّة في الشعر لا تؤدِّي معنى عقليًّا خاصًّا يمكن للرموز الجافَّة أن تؤدِّيه، فالشاعر إذ يحشد قدراته التعبيرية ووسائله الفنية في خلق تلك اللغة لا يفعل ذلك عبثًا، أو لكي يؤدِّي إلى المتلقِّي مجرَّد الفكرة المتداوَلة التي تعيها ذاكرته سلفًا، ولكن لأن في تلك اللغة تصويرًا لأحاسيسه وخواطره الخاصَّة، وتجسيدًا لتجربته بكلِّ آفاقها، وحينئذٍ فإن المعنى الخاص بتلك اللغة الفنية هو أكثر وأغزر من مجرَّد الفكرة التي تنهض بها اللغة الأدائية المجرَّدة، فهو كلُّ ما تفجِّره تلك اللغة بخصائصها الفنية في وجدان القارئ وخياله من صور، وما تُوحِي به إليه من دلالات وأحاسيس، وهذا بعض ما اشتمل عليه بيت النابغة.







وأقول "بعض" لأنه مهما تصوَّر القارئ أنه قد أحكم الفهم، وأتى على ما في البيت من جمال الصياغة ومن دلالات وإيحاءات، فلم يأتِ بما اشتمل عليه البيت، ويؤكِّد هذا قول عبدالقاهر: "وإنك لتنظر في البيت دهرًا طويلاً وتفسِّره، ولا ترى أن فيه شيئًا لم تعلمه، ثم يبدو لك فيه أمرٌ خفي لم تكن قد علمته"[41].







ويقول أبو نواس حول هذا المعنى:







أَلاَ لاَ أَرَى مِثْلَ امْتِرَائِيَ فِي رَسْمِ

تَغَصُّ بِهِ عَيْنِي وَيَلْفِظُهُ وَهْمِي




أَتَتْ صُوَرُ الأَشْيَاءِ بَيْنِي وَبَينَهُ

فَظَنِّي كَلاَ ظَنٍّ وَعِلْمِي كَلاَ عِلْمِ












على كلِّ حال، لم تَعُدْ مهمة القارئ/ المتلقِّي الواعي الناقد الخبير، مقصورةً على البحث عمّا إذا كان الشاعر قصر أم لم يقصر، أجاد أم لم يُجِدْ، بل أصبحت مهمَّته تكاد تنحصر في محاولته اكتشافَ رؤيةَ الشاعر من خلال تحليل عمله تحليلاً فنيًّا نابعًا من داخله، والنظر إلى كلِّ "ما يحتشد من روابط ونغمات مستمدَّة من جميع المفهومات والتصوُّرات وصور الفكر والتقاليد البلاغية، مع الاهتمام بالعلاقات المتداخلة بين المعاني، والتطرُّق إلى أدقِّ صنوف تلك العلاقات، مع العناية بأصغر العناصر في البنية التي يتألَّف منها النصُّ وما تشعُّه من إيحاءات جانبية وظلال لا يلمحها إلا ذو تمرُّس"[42].







إذًا "ليست الأفكار التي تظهر أو يوحي بها نصٌّ من القصيدة، هي الشيء الوحيد والرئيس في الكلام، ولكنها وسائل تشترك بالتساوي مع الأصوات والإيقاع والانسجام والزينات في أن تثير نوعًا من التوتُّر أو الهياج، وأن تخلق فينا عالمًا - أو حالة من الوجود - غاية في الانسجام"[43].







"إن جمالية البلاغة هي جمالية التلقِّي والتأويل"[44]؛ لأن غاية البليغ أن يُؤثِّر في المتلقِّي، وغاية المتلقِّي أن يغوص في تأمُّل الكلام البليغ ويُعطِيه من فكره وحسِّه، ويتفاعل مع معطياته؛ بحثًا عن الدلالة الجمالية الضمنية؛ ليصل إلى كمال اللذة.







وهذه نظرة إلى الشعر من الداخل "تبين للقارئ المسؤول شروط الاستجابة الموافقة"[45]، وهذا شبيهٌ بما ذهب إليه إيزر فعنده "أن العمل الفني يتشكَّل عن طريق فعل القراءة وفي أثنائه، وجوهر العمل الأدبي ومعناه لا ينتميان إلى النص، بل إلى العملية التي تتفاعَل فيها الوحدات البنائية النصيَّة مع تصوُّر القارئ"[46]، ومن هنا ينتفي القول أن يكون المعنى هنا هو المختبئ في النص - حسب الفهم التقليدي - بل المعنى الذي ينشأ نتيجة للتفاعل بين القارئ والنص[47]، وهذا شبيهٌ بما يراه ستانلي فيش بأن المعنى "ليس شيئًا يمكن استخراجه من القصيدة أو العمل الأدبي مثلما تخرج اللوزة من غلافها، وإنما هو تجربة يمارسها الإنسان خلال عملية القراءة"[48].







إن "التلقِّي المبدِع" يسمح لنا بالانطلاق في أجواء النص وتأمُّله، ومحاولة ملء فراغاته، فربما خرجنا بمعنًى لم يخطر للشاعر على بال، ولهذا قال دايمان: "كلُّ قراءة هي قراءة خاطئة"[49]، بمعنى: أن فهم القارئ لا يُطابِق فَهْمَ الشاعر، ومن هذا المعنى غير المطابق (القراءة الخاطئة) يستمدُّ النص بعض غذائه وصداه في سمع الزمان.







فبهذه الصورة يتحقَّق الاتِّحاد بين الإبداع والتلقِّي، وتذوب الفروق وتتقلَّص إلى أبعد حدٍّ بين المؤلف والمتلقِّي، وتلك هي الحقيقة التي تنبَّه إليها أسلافنا النقاد فأوْلوها عناية خاصة تسمح بالقول: إنَّ في تراثنا النقدي والبلاغي دررًا كامنة في حاجة إلى مَن يمدُّ يده إليها ليخرجها من مكامنها ويُجليها للناظرين.








[1] "المختارات الشعرية": صـ 286.




[2] نفسه: صـ 286.




[3] "المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب": صـ 287.




[4] "المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب": صـ 287 – 289.




[5] نفسه: صـ 288.




[6] ياوس: "نظرية التلقي": صـ 103، وينظر: "المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب": صـ 277.




[7] رواها الشريف المرتضى في "أماليه": 2/110، 111، ونسبها إلى عقبة بن كعب بن زهير، وأشار ابن قتيبة أن غير واحد نسبها لكثير عزة ("الشعر والشعراء": 1/67).




[8] "الشعر والشعراء": 1/ 67، 68.




[9] "الشعر والشعراء": 1/11.




[10] "عيار الشعر": صـ 84.




[11] "عيار الشعر": صـ 120، وينظر: "ديوان كثير": صـ 36، و"زهر الآداب": 1/439.




[12] "نقد الشعر": صـ 28، و"إعجاز القرآن": صـ 339.




[13] "الصناعتين": صـ 73، 74.




[14] "الخصائص": 1/218.




[15] "الخصائص": 1/218، 219.




[16] "كيفيات تلقي الشعر في التراث العربي": صـ 202، 203.




[17] "أسرار البلاغة": صـ 21.




[18] "أسرار البلاغة": صـ 22.




[19] "كيفيات تلقي الشعر في التراث العربي": صـ 204، 205.




[20] "أسرار البلاغة": صـ 21، 22.




[21] "دلائل الإعجاز": صـ 74.




[22] "دلائل الإعجاز": صـ 75، 76.




[23] "المثل السائر": 1/342.




[24] ينظر: "استقبال النص": صـ 180، 181.




[25] "مراجعات في الآداب والفنون" صـ 78 - 80.




[26] "الصناعتين": صـ 69.




[27] هاميلتون: "الشعر والتأمل": صـ 94.




[28] "ديوان النابغة الذبياني": صـ 38، و(المنتأى): الموضع الذي يُنتأَى به؛ أي: يُتباعَد.




[29] "قواعد الشعر": صـ 73.




[30] "البرهان": صـ 142.




[31] "عيار الشعر": صـ 87، 88.




[32] "المعنى الشعري في التراث النقدي": صـ 204.




[33] "أسرار البلاغة": صـ 225، 228، وانظر: "بين البلاغة والأسلوبية": صـ 151 - 153.




[34] السابق: صـ 225.




[35] "أسرار البلاغة": صـ 225، وانظر: "بين البلاغة والأسلوبية": صـ 153.




[36] نفسه: صـ 178.




[37] "أسرار البلاغة": صـ 139، 140.




[38] "البلاغة العربية": صـ 40 (بتصرف).




[39] "دلائل الإعجاز": صـ 534، 535 (بتصرف).




[40] "دراسات في علم النفس الأدبي": صـ 170.




[41] "دلائل الإعجاز": صـ 551.




[42] ديفيد ديتش: "مناهج النقد الأدبي": صـ 205.




[43] انظر: "الأسس الجمالية في النقد العربي": صـ 352.




[44] "فلسفة الجمال في البلاغة العربية": صـ 324.




[45] "الشعر بين نقاد ثلاثة": صـ 160.





[46] "نظرية التلقي": صـ 326.




[47] "نظرية التلقي": صـ 18.




[48] "نظرية النقد الأدبي الحديث": صـ 60.




[49] "دائرة الإبداع": صـ 159.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.74 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.56%)]