عرض مشاركة واحدة
  #96  
قديم 17-05-2022, 10:42 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (2)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 172الى صــ 178
الحلقة (96)





وقال طليب : رأى ابن عباس قوما يطوفون بين الصفا والمروة فقال : هذا ما أورثتكم أمكم أم إسماعيل .

قلت : وهذا ثابت في صحيح البخاري على ما يأتي بيانه في سورة " إبراهيم " .

التاسعة : ولا يجوز أن يطوف أحد بالبيت ولا بين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر ، فإن طاف معذورا فعليه دم ، وإن طاف غير معذور أعاد إن كان بحضرة البيت ، وإن غاب عنه أهدى . إنما قلنا ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بنفسه وقال : خذوا عني مناسككم . وإنما جوزنا ذلك من العذر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره واستلم الركن بمحجنه وقال لعائشة وقد قالت له : إني أشتكي ، فقال : طوفي من وراء الناس وأنت راكبة . وفرق أصحابنا بين أن يطوف على بعير أو يطوف على ظهر إنسان ، فإن طاف على ظهر إنسان لم يجزه ; لأنه حينئذ لا يكون طائفا ، وإنما الطائف الحامل . وإذا طاف على بعير يكون هو الطائف . قال ابن خويز منداد : وهذه تفرقة اختيار ، وأما الإجزاء فيجزئ ، ألا ترى أنه لو أغمي عليه فطيف به محمولا ، أو وقف به بعرفات محمولا كان مجزئا عنه .
قوله تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون

وفيه سبع مسائل :

الأولى : أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى ملعون . واختلفوا من المراد بذلك ، فقيل : أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد كتم اليهود أمر الرجم . وقيل : المراد كل من كتم الحق ، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه ، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم : من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار . رواه أبو هريرة وعمرو بن العاص أخرجه ابن ماجه . ويعارضه قول عبد الله بن [ ص: 173 ] مسعود : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة . وقال عليه السلام : حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله . وهذا محمول على بعض العلوم ، كعلم الكلام أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام ، فحكم العالم أن يحدث بما يفهم عنه ، وينزل كل إنسان منزلته ، والله تعالى أعلم .

الثانية : هذه الآية هي التي أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله : لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثا . وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق ، وتبيان العلم على الجملة ، دون أخذ الأجرة عليه ، إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله ، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام ، وقد مضى القول في هذا .

وتحقيق الآية هو : أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى ، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره . وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث . أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم ، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق ، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله ، ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية ، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات ، وترك الواجبات ونحو ذلك . يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير ، يريد تعليم الفقه من ليس من أهله . وقد قال سحنون : [ ص: 174 ] إن حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة . قال ابن العربي : والصحيح خلافه ; لأن في الحديث ( من سئل عن علم ) ولم يقل عن شهادة ، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله ، والله أعلم .

الثالثة : قوله تعالى : من البينات والهدى يعم المنصوص عليه والمستنبط ، لشمول اسم الهدى للجميع . وفيه دليل على وجوب العمل بقول الواحد ; لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله ، وقال : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فحكم بوقوع البيان بخبرهم .

فإن قيل : إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر . قلنا : هذا غلط ; لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه ، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجبا للعلم ، والله تعالى أعلم .

الرابعة : لما قال : من البينات والهدى دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه ، لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان . وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم . أخرجه البخاري . قال أبو عبد الله : البلعوم مجرى الطعام . قال علماؤنا : وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين ، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى ، والله تعالى أعلم .

الخامسة : قوله تعالى : من بعد ما بيناه الكناية في بيناه ترجع إلى ما أنزل من البينات والهدى . والكتاب : اسم جنس ، فالمراد جميع الكتب المنزلة .

السادسة : قوله تعالى : أولئك يلعنهم الله أي يتبرأ منهم ويبعدهم من ثوابه ويقول لهم : عليكم لعنتي ، كما قال للعين : وإن عليك لعنتي . وأصل اللعن في اللغة الإبعاد والطرد ، وقد تقدم .

[ ص: 175 ] السابعة : قوله تعالى : ويلعنهم اللاعنون قال قتادة والربيع : المراد ب اللاعنون الملائكة والمؤمنون . قال ابن عطية : وهذا واضح جار على مقتضى الكلام . وقال مجاهد وعكرمة : هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم . قال الزجاج : والصواب قول من قال : اللاعنون الملائكة والمؤمنون ، فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازم ولم نجد من ذينك شيئا .

قلت : قد جاء بذلك خبر رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون قال : ( دواب الأرض ) . أخرجه ابن ماجه عن محمد بن الصباح أنبأنا عمار بن محمد عن ليث عن أبي المنهال عن زاذان عن البراء إسناد حسن .

فإن قيل : كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل ؟ قيل : لأنه أسند إليهم فعل من يعقل ، كما قال : رأيتهم لي ساجدين ولم يقل ساجدات ، وقد قال : لم شهدتم علينا ، وقال : وتراهم ينظرون إليك ، ومثله كثير ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . وقال البراء بن عازب وابن عباس : اللاعنون كل المخلوقات ما عدا الثقلين : الجن والإنس ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين ولعنه كل سامع . وقال ابن مسعود والسدي : ( هو الرجل يلعن صاحبه فترتفع اللعنة إلى السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت فيه أهلا لذلك ، فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده [ ص: 176 ] أهلا فتنطلق فتقع على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تعالى ، فهو قوله : ويلعنهم اللاعنون فمن مات منهم ارتفعت اللعنة عنه فكانت فيمن بقي من اليهود ) .
قوله تعالى : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم

قوله تعالى : إلا الذين تابوا استثنى تعالى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم . ولا يكفي في التوبة عند علمائنا قول القائل : قد تبت ، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول ، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه ، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح ، وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها ، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام ، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه . وسيأتي بيان التوبة وأحكامها في " النساء " إن شاء الله تعالى .

وقال بعض العلماء في قوله : وبينوا أي بكسر الخمر وإراقتها . وقيل : بينوا يعني ما في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه . والعموم أولى على ما بيناه ، أي بينوا خلاف ما كانوا عليه ، والله تعالى أعلم . فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم تقدم والحمد لله .
قوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : وهم كفار الواو واو الحال . قال ابن العربي : قال لي كثير من أشياخي إن الكافر المعين لا يجوز لعنه ; لأن حاله عند الموافاة لا تعلم ، وقد شرط الله تعالى [ ص: 177 ] في هذه الآية في إطلاق اللعنة : الموافاة على الكفر ، وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن أقواما بأعيانهم من الكفار فإنما كان ذلك لعلمه بمآلهم . قال ابن العربي : والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ولجواز قتله وقتاله ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أني لست بشاعر فالعنه واهجه عدد ما هجاني . فلعنه ، وإن كان الإيمان والدين والإسلام مآله . وانتصف بقوله : ( عدد ما هجاني ) ولم يزد ليعلم العدل والإنصاف . وأضاف الهجو إلى الله تعالى في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف بذلك ، كما يضاف إليه المكر والاستهزاء والخديعة ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

قلت : أما لعن الكفار جملة من غير تعيين فلا خلاف في ذلك ، لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول : ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان . قال علماؤنا : وسواء كانت لهم ذمة أم لم تكن ، وليس ذلك بواجب ، ولكنه مباح لمن فعله ، لجحدهم الحق وعداوتهم للدين وأهله ، وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كشراب الخمر وأكلة الربا ، ومن تشبه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء ، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه .

الثانية : ليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر ، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره ، كان الكافر ميتا أو مجنونا . وقال قوم من السلف : إنه لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم ، لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر ، فإنه لا يتأثر به .

والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر ويتألم قلبه ، فيكون ذلك جزاء على كفره ، كما قال تعالى : ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ، ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله تعالى بلعنهم ، لا على الأمر . وذكر ابن العربي أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقا ، لما روي عن النبي أنه أتي بشارب خمر مرارا ، فقال بعض من حضره : لعنه الله ، ما أكثر ما يؤتى به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم فجعل له حرمة الأخوة ، وهذا يوجب الشفقة ، وهذا حديث صحيح .

[ ص: 178 ] قلت : خرجه البخاري ومسلم ، وقد ذكر بعض العلماء خلافا في لعن العاصي المعين ، قال : وإنما قال عليه السلام : لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم في حق نعيمان بعد إقامة الحد عليه ، ومن أقيم عليه حد الله تعالى فلا ينبغي لعنه ، ومن لم يقم عليه الحد فلعنته جائزة سواء سمي أو عين أم لا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن ، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة تتوجه عليه . وبين هذا قوله صلى الله عليه وسلم : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب . فدل هذا الحديث مع صحته على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد وقبل التوبة ، والله تعالى أعلم .

قال ابن العربي : وأما لعن العاصي مطلقا فيجوز إجماعا ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.84 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.21 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.04%)]