عرض مشاركة واحدة
  #25  
قديم 29-07-2021, 05:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,543
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرثاء في شعر باشراحيل

الرثاء في شعر باشراحيل (4)
محيي الدين صالح





وإذا كانت هذه هي صفات والده، فإنَّ الجنةَ بلا ريب هي مَثواه - إن شاء الله تعالى -:
الْوَعْدُ يَا أَبَتِي نَعِيمٌ مُسْتَمِرّْ
فِي سَاحَةِ الْخُلْدِ الْمُنَضَّدِ بِالصُّوَرْ

يَا رَبِّ مَتِّعْهُ عَلَى تِلْكَ السُّرَرْ
مَا بَيْنَ جَنَّاتٍ جَنِيَّاتِ الثَّمَرْ



وبعقْد مقارنة سريعة بين قصيدتي باشراحيل عن والده - نلحَظ أنَّه في الأولى كان يُخرج نفثاتِه الثَّكْلَى، وآلامِه المجروحة عَبْرَ قصيدتِه في صورة مُباشرة، أمَّا القصيدةُ الثانية، فجاءت بعد رَويَّة وامتداد زمني جعَلَه يتفاعل مع جلال الحدث وأهميَّته، ومن ثَمَّ يستعرض سيرةَ والده العَطِرة بشيء من التفصيل، الباعث على رسم صورةٍ كلية له، تتآزر فيها السِّمَات الشخصية والأخلاقية، وتقدم للقارئ والدَه في أبهى حُلَّة، وأروع صورة، وهي صورة الشيخ الجليل نصير الفقراء والمُعْدَمين، رجل الحق والبِرِّ والخير، الذي بَكَتْه الأجرام السَّماوية في عَلْيَائِها، والأطفال في براءَتِها، وهي صورة كليَّة عبارة عن مجموعة من الصور الجزئية المتراكبة، التي تَجتمع عناصِرُها؛ لتبرز شخصَ والدِه الكريم - رحمه الله.

سفر العذراء الطويل:
وهي قصيدة من الشعر الحُرِّ كتبها باشراحيل في رثاء عمته مريم - رحمها الله تعالى - التي كانت بالنسبة له أنموذجًا فريدًا في النقاء والشفافية، وصفاء النفس:
قَالَتْ
سَأَخْتَارُ السَّفَرْ
طَالَ الْمُكُوثُ
فَأَيَّ شَيْءٍ أَنْتَظِرْ
زَمَنٌ قَدِ افْتَقَدَ النَّقَاءْ
وَشَرَابُهَا
مَاءٌ طَهُورْ
تَسْقِي بِهِ
حَتَّى الطُّيُورْ
وَمَعِينُهَا الصَّافِي
يَفِيضُ بِهِ السُّرُورْ

ولأَنَّها عذراء، فليست مثلَ نساء الأرض الأُخْريات، هي الرَّمْزُ الوحيد الباقي من زمنِ التضحية والوفاء، وهي الصَّدْر الحاني، الذي يأوي إليه كلُّ مُتعَب وجهيد:
أَيَّامُهَا مُدُنُ الْفَرَحْ
جَعَلَتْ مَبَاهِجَنَا
مُلَوَّنَةً
كَمَا قَوْسٍ قُزَحْ

وعندما رحلت، بكتها الحياةُ والأنواء، والسُّحب والظِّلاَل، وتَحولت الحياةُ من حوله إلى بكائية؛ بسبب رحيلها المفاجئ الحزين:
بَكَتِ الْحَيَاةُ
عَلَيْكِ يَا عَذْرَاءُ
فِي يَوْمِ الرَّحِيلْ
وَبَكَى الْأَقَارِبُ
وَالْقَبِيلْ

ويرى باشراحيل أنَّ نفسها المؤمنة تَمتاز بالفِرَاسَة والشَّفافية التي ترى بنور الله - عزَّ وجلَّ - فلقد كانت تنظر للغَدِ، وكأنَّما أطلعها المولى - سبحانه وتعالى - على أسرارِ الغيب والخلود، ومن هنا رأت مَكانتها في الجنان؛ حيث الورود، والرَّوائح الذَّكِيَّة، والظلال الهنيئة، والحرير، والقصور الشاهقة، ولأجل هذا اختارت طريقَ الله على الحياة الفانية:
وَكَأَنَّمَا الرَّحْمَنُ
أَطْلَعَهَا عَلَى سِرِّ الْخُلُودْ
فَرَأَتْ مَنَازِلَهَا
ظِلاَلاً أَوْ وُرُودْ

صغيري معتز:
وإلى الشاب الراحل معتز فاروق بنجر، يرثي باشراحيل ريعانَ الشباب وأفوله وقتَ نضوجه، يرثي البرعمَ المتفتِّح، وقد استوى عودُه، يَبكي نضارةَ الشباب ورحيلَه المفاجئ، يبكي ما خَلَّفَه بعد سَفره الدائم على نفسِ أمه وأبيه:
(مُعْتَزُّ) مَا أَبْصَرَتْ عَيْنِي مَلاَمِحَهُ
وَقَدْ بَصُرْتُ بِهِ وَالْمَوْتُ حِينَ دَنَا

تَرَكْتَ بَعْدَكَ أَجْفَانًا مُقَرَّحَةً
وَالْوَجْدُ فِي الْقَلْبِ نَزْفٌ صَارَ مُرْتَهَنَا

يَا قَلْبَ أُمِّكَ وَالْجُرْحُ الْعَمِيقُ بَدَا
وَقَلْبُ وَالِدِكَ الدَّامِي إِلَيْكَ رَنَا

(مُعْتَزُّ) غَرِّدْ كَمَا قَدْ كُنْتَ بُلْبُلَنَا
فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْحُسْنِ مُفْتَتَنَا



ومن شدة حب باشراحيل لمعتز، وتعلقه به، نراه يناديه قائلاً: إنك لم تغب عنا يا معتز، بل سبقتنا إلى ذُرَى الفراديس:
(مُعْتَزُّ) لاَ لَمْ تَغِبْ بَلْ أَنْتَ تَسْبِقُنَا
إِلَى أَعَالِي الذُّرَى تُحْيِي الشَّبَابَ سَنَا

تَسْتَافُ مِنْ رَحْمَةِ الدَّيَّانِ فِي كَرَمٍ
وَتَسْتَزِيدُ فَتُعْطِي مَا غَلاَ ثَمَنَا

عِمْ بِالْجِنَانِ وَرَيَّانُ الْمُنَى غَرَدٌ
(مُعْتَزُّ) فَانْعَمْ بِمَا لاَ يَعْرِفُ الْوَهَنَا



رثاء فقيد الكلمة:
وتتجلَّى أريحيةُ باشراحيل وصدقُه مع الرُّمُوزِ المخلصة، والأبناء البَررة لأمَّتنا المجيدة، وعلى رأسهم الكاتب الإسلامي أحمد محمد جمال - رحمه الله - الذي كان بقلمه قُنبلَةً في وَجْهِ المارقين والحاقدين والموتورين، وسوطَ عَذابٍ يَصُبُّه على مَن يُهين تراثَنا وثقافَتَنا الأصيلة:
سِرْ أَنْتَ حَيْثُ مَشِيئَةُ الْأَقْدَارِ
تَلْقَى الْكَرَامَةَ فِي رِحَابِ الْبَارِي

يَا مَنْطِقَ الْحَرْفِ الصَّمُوتِ إِلَى الْوَرَى
بِالْحَقِّ لاَ بِالْمَيْنِ وَالْأَضْرَارِ

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.50 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.87 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.77%)]