عرض مشاركة واحدة
  #26  
قديم 29-01-2022, 03:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى


تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (1)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 156 الى صــ 161
الحلقة (26)


قوله تعالى : فيه هدى للمتقين فيه ست مسائل :

الأولى : قوله تعالى : ( فيه ) الهاء في ( فيه ) في موضع خفض بفي ، وفيه خمسة أوجه ; أجودها : فيه هدى ويليه فيه هدى ( بضم الهاء بغير واو ) وهي قراءة الزهري وسلام أبي المنذر . ويليه فيهي هدى ( بإثبات الياء ) وهي قراءة ابن كثير . ويجوز فيهو هدى ( بالواو ) . ويجوز فيه هدى ( مدغما ) وارتفع هدى على الابتداء والخبر " فيه " . والهدى في كلام العرب معناه الرشد والبيان ، أي فيه كشف لأهل المعرفة ، ورشد ، وزيادة بيان وهدى .
الثانية : الهدى هديان : هدى دلالة ، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم ; قال الله تعالى : ولكل قوم هاد . وقال : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه ; وتفرد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : إنك لا تهدي من أحببت فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ; ومنه قوله تعالى : أولئك على هدى من ربهم وقوله : ويهدي من يشاء والهدى : الاهتداء ، ومعناه راجع إلى معنى الإرشاد كيفما تصرفت . قال أبو المعالي : وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها ; من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين : فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ومنه قوله تعالى : فاهدوهم إلى صراط الجحيم معناه فاسلكوهم إليها .
الثالثة : الهدى لفظ مؤنث . قال الفراء : بعض بني أسد تؤنث الهدى فتقول : هذه هدى حسنة . وقال اللحياني : هو مذكر ; ولم يعرب لأنه مقصور والألف لا تتحرك ، ويتعدى بحرف وبغير حرف وقد مضى في " الفاتحة " ، تقول : هديته الطريق وإلى الطريق ، والدار وإلى الدار ; أي عرفته . الأولى لغة أهل الحجاز ، والثانية حكاها الأخفش . وفي التنزيل : اهدنا الصراط المستقيم و الحمد لله الذي هدانا لهذا وقيل : إن الهدى اسم من أسماء النهار ، لأن الناس يهتدون فيه لمعايشهم وجميع مآربهم ; ومنه قول ابن مقبل : حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا
الرابعة : قوله تعالى : ( للمتقين ) خص الله تعالى المتقين بهدايته وإن كان هدى للخلق [ ص: 157 ] أجمعين تشريفا لهم ; لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه . وروي عن أبي روق أنه قال : هدى للمتقين أي : كرامة لهم ; يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم . وأصل ( للمتقين ) : للموتقيين بياءين مخففتين ، حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء وأدغمت التاء في التاء فصار للمتقين .
الخامسة : التقوى يقال أصلها في اللغة قلة الكلام ; حكاه ابن فارس .

قلت : ومنه الحديث التقي ملجم ، والمتقي فوق المؤمن والطائع وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى ، مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزا بينك وبينه ; كما قال النابغة :

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد

وقال آخر : فألقت قناعا دونه الشمس واتقت
بأحسن موصولين كف ومعصم

وخرج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث سعيد بن زربي أبي عبيدة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال : قال يوما لابن أخيه : يابن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قال : نعم ; قال : لا خير فيهم إلا تائب أو تقي ثم قال : يابن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قلت : بلى ; قال : لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم . وقال أبو يزيد البسطامي : المتقي من إذا قال قال لله ، ومن إذا عمل عمل لله . وقال أبو سليمان الداراني : المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات . وقيل : المتقي الذي اتقى الشرك وبرئ من النفاق . قال ابن عطية : وهذا فاسد ; لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق . وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبيا عن التقوى ; فقال : هل أخذت طريقا ذا شوك ؟ قال : نعم : قال فما عملت فيه ؟ قال : تشمرت وحذرت ; قال : فذاك التقوى . وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فنظمه :

خل الذنوب صغيرها
وكبيرها ذاك التقى واصنع كماش فوق أر
ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة
إن الجبال من الحصى
السادسة : التقوى فيها جمع الخير كله ، وهي وصية الله في الأولين والآخرين ، وهي خير [ ص: 158 ] ما يستفيده الإنسان ; كما قال أبو الدرداء وقد قيل له : إن أصحابك يقولون الشعر وأنت ما حفظ عنك شيء ; فقال :

يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا يقول المرء فائدتي ومالي
وتقوى الله أفضل ما استفادا

وروى ابن ماجه في سننه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته ، وإن نظر إليها سرته ، وإن أقسم عليها أبرته ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله . والأصل في التقوى : وقوى على وزن فعلى فقلبت الواو تاء من وقيته أقيه أي منعته ; ورجل تقي أي خائف ; أصله وقى ; وكذلك تقاة كانت في الأصل وقاة ; كما قالوا : تجاه وتراث ، والأصل وجاه ووراث .
قوله تعالى : الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون

فيها ست وعشرون مسألة :

الأولى : قوله : الذين في موضع خفض نعت " للمتقين " ، ويجوز الرفع على القطع أي : هم الذين ، ويجوز النصب على المدح .

( يؤمنون ) يصدقون . والإيمان في اللغة : التصديق ; وفي التنزيل : وما أنت بمؤمن لنا أي بمصدق ; ويتعدى بالباء واللام ; كما قال : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم فما آمن لموسى وروى حجاج بن حجاج الأحول - ويلقب بزق العسل - قال سمعت قتادة يقول : يا ابن آدم ، إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط فإن نفسك مائلة إلى السأمة والفترة والملة ; ولكن المؤمن هو المتحامل ، والمؤمن هو المتقوي ، والمؤمن هو المتشدد ، وإن المؤمنين هم العجاجون إلى الله في الليل والنهار ; والله ما يزال المؤمن يقول : ربنا في السر والعلانية حتى استجاب لهم في السر والعلانية .

[ ص: 159 ]
الثانية : قوله تعالى : ( بالغيب ) الغيب في كلام العرب كل ما غاب عنك ، وهو من ذوات الياء يقال منه : غابت الشمس تغيب ; والغيبة معروفة . وأغابت المرأة فهي مغيبة إذا غاب عنها زوجها ، ووقعنا في غيبة وغيابة ، أي هبطة من الأرض ; والغيابة : الأجمة ، وهي جماع الشجر يغاب فيها ، ويسمى المطمئن من الأرض : الغيب ; لأنه غاب عن البصر .
الثالثة : واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا ; فقالت فرقة : الغيب في هذه الآية : الله سبحانه . وضعفه ابن العربي . وقال آخرون : القضاء والقدر . وقال آخرون : القرآن وما فيه من الغيوب . وقال آخرون : الغيب كل ما أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار . قال ابن عطية : وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها .

قلت : وهذا الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم : فأخبرني عن الإيمان . قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره . قال : صدقت . وذكر الحديث . وقال عبد الله بن مسعود : ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ : الذين يؤمنون بالغيب . قلت : وفي التنزيل : وما كنا غائبين وقال : الذين يخشون ربهم بالغيب فهو سبحانه غائب عن الأبصار ، غير مرئي في هذه الدار ، غير غائب بالنظر والاستدلال ; فهم يؤمنون أن لهم ربا قادرا يجازي على الأعمال ، فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس ، لعلمهم باطلاعه عليهم ، وعلى هذا تتفق الآي ولا تتعارض ، والحمد لله . وقيل : بالغيب أي بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين ; وهذا قول حسن . وقال الشاعر :


وبالغيب آمنا وقد كان قومنا يصلون للأوثان قبل محمد
الرابعة : قوله تعالى : ويقيمون الصلاة معطوف جملة على جملة . وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها ; على ما يأتي بيانه . يقال : قام الشيء أي دام وثبت ، وليس من القيام على الرجل ; وإنما هو من قولك : قام الحق أي ظهر وثبت ;

قال الشاعر :



وقامت الحرب بنا على ساق
[ ص: 160 ] وقال آخر :
وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان


وقيل : ( يقيمون ) يديمون ، وأقامه أي أدامه ; وإلى هذا المعنى أشار عمر بقوله : ( من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع . )الخامسة : إقامة الصلاة معروفة ; وهي سنة عند الجمهور ، وأنه لا إعادة على تاركها . وعند الأوزاعي وعطاء ومجاهد وابن أبي ليلى هي واجبة ، وعلى من تركها الإعادة ; وبه قال أهل الظاهر ، وروي عن مالك ، واختاره ابن العربي قال : لأن في حديث الأعرابي ( وأقم ) فأمره بالإقامة كما أمره بالتكبير والاستقبال والوضوء .

قال : فأما أنتم الآن وقد وقفتم على الحديث فقد تعين عليكم أن تقولوا بإحدى روايتي مالك الموافقة للحديث ، وهي أن الإقامة فرض . قال ابن عبد البر قوله صلى الله عليه وسلم : ( وتحريمها التكبير ) دليل على أنه لم يدخل في الصلاة من لم يحرم ، فما كان قبل الإحرام فحكمه ألا تعاد منه الصلاة إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع كالطهارة والقبلة والوقت ونحو ذلك . وقال بعض علمائنا : من تركها عمدا أعاد الصلاة ، وليس ذلك لوجوبها إذ لو كان ذلك لاستوى سهوها وعمدها ، وإنما ذلك للاستخفاف بالسنن ، والله أعلم . السادسة : واختلف العلماء فيمن سمع الإقامة هل يسرع أو لا ؟ فذهب الأكثر إلى أنه لا يسرع وإن خاف فوت الركعة لقوله عليه السلام : إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا . رواه أبو هريرة أخرجه مسلم .

[ ص: 161 ] وعنه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا ثوب بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار صل ما أدركت واقض ما سبقك . وهذا نص . ومن جهة المعنى أنه إذا أسرع انبهر فشوش عليه دخوله في الصلاة وقراءتها وخشوعها .

وذهب جماعة من السلف منهم ابن عمر وابن مسعود على اختلاف عنه أنه إذا خاف فواتها أسرع . وقال إسحاق : يسرع إذا خاف فوات الركعة ; وروي عن مالك نحوه ، وقال : لا بأس لمن كان على فرس أن يحرك الفرس ; وتأوله بعضهم على الفرق بين الماشي والراكب ; لأن الراكب لا يكاد أن ينبهر كما ينبهر الماشي .

قلت : واستعمال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حال أولى ، فيمشي كما جاء الحديث وعليه السكينة والوقار ; لأنه في صلاة ، ومحال أن يكون خبره صلى الله عليه وسلم على خلاف ما أخبر ; فكما أن الداخل في الصلاة يلزم الوقار والسكون كذلك الماشي ، حتى يحصل له التشبه به فيحصل له ثوابه .

ومما يدل على صحة هذا ما ذكرناه من البينة ، وما خرجه الدارمي في مسنده قال : حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن كعب بن عجرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا توضأت فعمدت إلى المسجد فلا تشبكن بين أصابعك ; فإنك في صلاة . فمنع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وهو صحيح مما هو أقل من الإسراع وجعله كالمصلي ; وهذه السنن تبين معنى قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله وأنه ليس المراد به الاشتداد على الأقدام ، وإنما عنى العمل والفعل ; هكذا فسره مالك . وهو الصواب في ذلك والله أعلم .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.93 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.28%)]