عرض مشاركة واحدة
  #22  
قديم 29-01-2022, 02:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى


تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (1)
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
من صــ 132 الى صــ 137
الحلقة (22)




[ ص: 132 ] قلت : الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان ، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان . وعلى هذا الحد قال علماؤنا : الحمد أعم من الشكر ; لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر ; والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا ; فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر . ويذكر الحمد بمعنى الرضا ; يقال : بلوته فحمدته ، أي رضيته . ومنه قوله تعالى : مقاما محمودا . وقال عليه السلام : أحمد إليكم غسل الإحليل أي أرضاه لكم . ويذكر عن جعفر الصادق في قوله الحمد لله : من حمده بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد ; لأن الحمد حاء وميم ودال ; فالحاء من الوحدانية ، والميم من الملك ، والدال من الديمومية ; فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك فقد عرفه ، وهذا هو حقيقة " الحمد لله " . وقال شقيق بن إبراهيم في تفسير " الحمد لله " قال : هو على ثلاثة أوجه : أولها إذا أعطاك الله شيئا تعرف من أعطاك . والثاني أن ترضى بما أعطاك . والثالث ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه ; فهذه شرائط الحمد .
السادسة : أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه ، وافتتح كتابه بحمده ، ولم يأذن في ذلك لغيره ; بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه عليه السلام فقال : فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى . وقال عليه السلام : احثوا في وجوه المداحين التراب رواه المقداد . وسيأتي القول فيه في " النساء " إن شاء الله تعالى .

فمعنى الحمد لله رب العالمين أي سبق الحمد مني لنفسي أن يحمدني أحد من العالمين وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة ، وحمدي الخلق مشوب بالعلل . قال علماؤنا : فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار . وقيل : لما علم سبحانه عجز عباده عن حمده ، حمد نفسه بنفسه لنفسه في الأزل ; فاستفراغ طوق عباده هو محل العجز عن حمده . ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله : لا أحصي ثناء عليك . وأنشدوا : [ ص: 133 ]
إذا نحن أثنينا عليك بصالح فأنت كما نثني وفوق الذي نثني


وقيل : حمد نفسه في الأزل لما علم من كثرة نعمه على عباده وعجزهم على القيام بواجب حمده فحمد نفسه عنهم ; لتكون النعمة أهنأ لديهم ، حيث أسقط به ثقل المنة .
السابعة : وأجمع القراء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من الحمد لله . وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج : الحمد لله بنصب الدال ; وهذا على إضمار فعل . ويقال : الحمد لله بالرفع مبتدأ وخبر ، وسبيل الخبر أن يفيد ; فما الفائدة في هذا ؟ فالجواب أن سيبويه قال : إذا قال الرجل الحمد لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما في قولك : حمدت الله حمدا ; إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله ; والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله . وقال غير سيبويه . إنما يتكلم بهذا تعرضا لعفو الله ومغفرته وتعظيما له وتمجيدا ; فهو خلاف معنى الخبر وفيه معنى السؤال . وفي الحديث : من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين . وقيل : إن مدحه عز وجل لنفسه وثناءه عليها ليعلم ذلك عباده ; فالمعنى على هذا : قولوا الحمد لله . قالالطبري : الحمد لله ثناء أثنى به على نفسه ، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه ; فكأنه قال : قولوا الحمد لله ; وعلى هذا يجيء قولوا إياك . وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه ; كما قال الشاعر :
وأعلم أنني سأكون رمسا إذا سار النواعج لا يسير فقال السائلون لمن حفرتم
فقال القائلون لهم وزير


المعنى : المحفور له وزير فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه ، وهذا كثير . وروي عن ابن أبي عبلة : الحمد لله بضم الدال واللام على إتباع الثاني الأول ; وليتجانس اللفظ ، وطلب التجانس في اللفظ كثير في كلامهم ; نحو : أجوءك ، وهو منحدر من الجبل ، بضم الدال والجيم . قال : اضرب الساقين أمك هابل [ ص: 134 ] بضم النون لأجل ضم الهمزة . وفي قراءة لأهل مكة " مردفين " بضم الراء إتباعا للميم ، وعلى ذلك " مقتلين " بضم القاف . وقالوا : لإمك ، فكسروا الهمزة إتباعا للام ; وأنشد للنعمان بن بشير :
ويل امها في هواء الجو طالبة ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب


الأصل : ويل لأمها ; فحذفت اللام الأولى واستثقل ضم الهمزة بعد الكسرة فنقلها للام ثم أتبع اللام الميم . وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن علي : الحمد لله بكسر الدال على اتباع الأول الثاني .
الثامنة : قوله تعالى : رب العالمين أي مالكهم ، وكل من ملك شيئا فهو ربه ; فالرب : المالك . وفي الصحاح : والرب اسم من أسماء الله تعالى ، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة ; وقد قالوه في الجاهلية للملك ، قال الحارث بن حلزة :
وهو الرب والشهيد على يو م الحيارين والبلاء بلاء


والرب : السيد : ومنه قوله تعالى : اذكرني عند ربك . وفي الحديث : أن تلد الأمة ربتها أي سيدتها ; وقد بيناه في كتاب ( التذكرة ) . والرب : المصلح والمدبر والجابر والقائم . قال الهروي وغيره : يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه : قد ربه يربه فهو رب له وراب ; ومنه سمي الربانيون لقيامهم بالكتب . وفي الحديث : ( هل لك من نعمة تربها عليه ) أي تقوم بها وتصلحها . والرب : المعبود ; ومنه قول الشاعر :
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب


ويقال على التكثير : رباه ورببه وربته حكاه النحاس . وفي الصحاح : ورب فلان ولده يربه ربا ورببه وترببه بمعنى ; أي رباه . والمربوب : المربى .
التاسعة : قال بعض العلماء : إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم ; لكثرة دعوة الداعين به ، وتأمل ذلك في القرآن ، كما في آخر " آل عمران " وسورة " إبراهيم " وغيرهما ، ولما يشعر به [ ص: 135 ] هذا الوصف من الصلة بين الرب والمربوب ، مع ما يتضمنه من العطف والرحمة والافتقار في كل حال .

واختلف في اشتقاقه ; فقيل : إنه مشتق من التربية ; فالله سبحانه وتعالى مدبر لخلقه ومربيهم ، ومنه قوله تعالى : وربائبكم اللاتي في حجوركم . فسمى بنت الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها .

فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل ; وعلى أن الرب بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات .
العاشرة : متى أدخلت الألف واللام على " رب " اختص الله تعالى به ; لأنها للعهد ، وإن حذفنا منه صار مشتركا بين الله وبين عباده ، فيقال : الله رب العباد ، وزيد رب الدار ; فالله سبحانه رب الأرباب ; يملك المالك والمملوك ، وهو خالق ذلك ورازقه ، وكل رب سواه غير خالق ولا رازق ، وكل مملوك فمملك بعد أن لم يكن ، ومنتزع ذلك من يده ، وإنما يملك شيئا دون شيء ; وصفة الله تعالى مخالفة لهذه المعاني ، فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين .
الحادية عشر : قوله تعالى : العالمين اختلف أهل التأويل في العالمين اختلافا كثيرا ; فقال قتادة : العالمون جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله تعالى ، ولا واحد له من لفظه مثل رهط وقوم . وقيل : أهل كل زمان عالم ; قاله الحسين بن الفضل ، لقوله تعالى : أتأتون الذكران من العالمين أي من الناس . وقال العجاج :

فخندف هامة هذا العألم وقال جرير بن الخطفى :


تنصفه البرية وهو سام ويضحي العالمون له عيالا


وقال ابن عباس : العالمون الجن والإنس ; دليله قوله تعالى : ليكون للعالمين نذيرا ولم يكن نذيرا للبهائم . وقال الفراء وأبو عبيدة : العالم عبارة عمن يعقل ; وهم أربعة أمم : الإنس والجن والملائكة والشياطين . ولا يقال للبهائم : عالم ، لأن هذا الجمع إنما هو جمع من يعقل خاصة .

[ ص: 136 ] قال الأعشى :
ما إن سمعت بمثلهم في العالمينا
وقال زيد بن أسلم : هم المرتزقون ; ونحوه قول أبي عمرو بن العلاء : هم الروحانيون . وهو معنى قول ابن عباس أيضا : كل ذي روح دب على وجه الأرض . وقال وهب بن منبه : إن لله عز وجل ثمانية عشر ألف عالم ; الدنيا عالم منها . وقال أبو سعيد الخدري : إن لله أربعين ألف عالم ; الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد . وقال مقاتل : العالمون ثمانون ألف عالم ، أربعون ألف عالم في البر ، وأربعون ألف عالم في البحر . وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : الجن عالم ، والإنس عالم ; وسوى ذلك للأرض أربع زوايا في كل زاوية ألف وخمسمائة عالم ، خلقهم لعبادته .

قلت : والقول الأول أصح هذه الأقوال ; لأنه شامل لكل مخلوق وموجود ; دليله قوله تعالى : قال فرعون وما رب العالمين . قال رب السماوات والأرض وما بينهما ثم هو مأخوذ من العلم والعلامة ; لأنه يدل على موجده . كذا قال الزجاج قال : العالم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة . وقال الخليل : العلم والعلامة والمعلم : ما دل على الشيء ; فالعالم دال على أن له خالقا ومدبرا ، وهذا واضح . وقد ذكر أن رجلا قال بين يدي الجنيد : الحمد لله ; فقال له : أتمها كما قال الله ، قل : رب العالمين ; فقال الرجل : ومن العالمين حتى تذكر مع الحق ؟ قال : قل يا أخي ؟ فإن المحدث إذا قرن مع القديم لا يبقى له أثر .
الثانية عشر : يجوز الرفع والنصب في رب فالنصب على المدح ، والرفع على القطع ; أي هو رب العالمين .
الثالثة عشر : قوله تعالى : الرحمن الرحيم وصف نفسه تعالى بعد رب العالمين ، بأنه الرحمن الرحيم ; لأنه لما كان في اتصافه ب رب العالمين ترهيب قرنه ب الرحمن الرحيم ، لما تضمن من الترغيب ; ليجمع في صفاته بين الرهبة منه ، والرغبة إليه ; فيكون أعون على طاعته وأمنع ; كما قال : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم . وأن عذابي هو العذاب الأليم . وقال : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو يعلم المؤمن ما عند [ ص: 137 ] الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد . وقد تقدم ما في هذين الاسمين من المعاني ، فلا معنى لإعادته .
الرابعة عشر : قوله تعالى : مالك يوم الدين

قرأ محمد بن السميقع بنصب " مالك " ; وفيه أربع لغات : مالك وملك وملك - مخففة من ملك - ومليك . قال الشاعر :
وأيام لنا غر طوال عصينا الملك فيها أن ندينا


وقال آخر :
فاقنع بما قسم المليك فإنما قسم الخلائق بيننا علامها


الخلائق : الطبائع التي جبل الإنسان عليها . وروي عن نافع إشباع الكسرة في " ملك " فيقرأ " ملكي " على لغة من يشبع الحركات ، وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي وغيره .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.53 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.08%)]