عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 26-05-2023, 11:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي وعاد المشتاق إلى محرابه..

وعاد المشتاق إلى محرابه..
حسنية تدركيت

كأنما كان يتحدث مع شخص أمامه، صه، أترك هذه الأمور كلها لله وامضِ في حال سبيلك، يخاطب هذا الألم الساكن قلبه، هذا الشوق المتمرد على صبره وعلى جلده ويهمس:
مسافرون، ولربما نحن على وشك الوصول، ويح قلبي ألا يرعوي ويزدجر من كثرة ما يسمع ممن سافروا ولحقوا بالسلف؟

خطواته تسرع، تلاحق أفكاره، تغالب القلق والتوتر، وتستعرض ما اختُزِنَ في ذاكرته عن الأجر والثواب.


صبَر، ابتسم، ولكن دمعة فرت من عينيه، وقال:ما بالي أصبحت قليل التمهل مستعجلًا في كل شيء، فإذا ما قلت: يا ربي، استعجلت الاستجابة، ألم أقل يومًا لمن ضجر وتذمر: إنما الصبر صبر ساعة، هل طالت عليَّ المدة واستهلكت كل طاقتي على التحمل؟



المعين ها هنا ومد يده إلى جيبه وملأ عينيه من جمال الآية في كتاب الله:﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].


يتدبر فيها ويتأمل، ويروي عطش قلب ابتعد وقتًا طويلًا على النهل مِن مَعين كتاب الله، هنا الطاقة، وهنا مصدر الصبر والتحمل، حتى إنك ستعود من رحلتك مع كتاب الله، وأنت محتقرٌ كلَّ ما فيها إلا شيئًا يربطك بالله.


أَحَسَّ ببعض النشاط يسري في روحه، وحماسة الفكرة تحثه على أن يقفز على كل العقبات التي تعترض طريقه، قاطعًا الطريق إلى الطرف الآخر من الشارع، متجهًا إلى الشارع الرئيسي، متجهًا نحو عمله، وخواطر كثيرة ترد إلى ذهنه، يجاهد أن يستثمرها لصالحه، وحيدًا منفردًا بعيدًا عن الأهل لا زوج لا ولد، أُف، عدنا إلى نفس الكلام، ما بال هذا الخاطر الموجوع يُلح علي، ينثر الملح على الجرح، أعجبته فكرة الملح، إنه مطهر ينقي الجروح، فلتجعل جرحك هو قنطرتك للوصول، كم أشتاق إلى تلك العادة، صحح يا هذا، يخاطب نفسه:
العبادة وقت أن كنت أحن، كلما اقتربت الشمس من الغروب، لكي أصلي المغرب، ثم يأتي على أثره العشاء؛ تنسم الهواء العليل، كأنما عادت الصورة حية بذهنه صوتًا وحركة، بين قيام وركوع وسجود، ثم دعاء طويل ومناجاة محب مشتاق لربه، يتخفف من أعباء الأيام والأعوام، ينهل من النور الرباني، ويأخذ زاده ليومه.

حتى عندما خذَلته تلك التي ظنَّ أنها اختياره الأفضل؛ لكي تكون رفيقة عمره، ما زال يتذكر كيف جلس على سجادته بعد صلاة الوتر، وبعد دعاء ورجاء أن يشمله ربه برحمته.


كيف انهالت دموعه حتى ظنَّها رُوحه تسيل، وتخرج متسللة عبر عينيه، لم يكن محتاجًا أن يشرح أو يقول لربه ما يوجع قلبه، وكيف أنه ندِم أشدَّ الندم على أمور لم يكن يجب أن يقع فيها، قد تجاوزت حدود ملك الملوك، ولعله خُذِلَ؛ كي يعود إلى نقائه وصفائه، ذلك الحب الساكن في أعماقه، ذلك الشعور الجميل لا يجب أن يعطى كاملًا خالصًا إلى لربه.


أحَسَّ قلبه ذلك الموجوع بنسمة هبَّت، فابتسم لها ثغره، مستعرضًا تلك السكينة والطمأنينة التي كان يشعر بها، كلما بثَّ شكواه لرب العالمين، وكم كان يسرع الخطى إلى محرابه، ذاك المكان الذي كانت روحه تجد فيه الدواء والشفاء، الحب والحنين.

كان في تلك اللحظات التي كانت له بمنزلة حياة قلبه وكِيانه كله، فكم سأله الأصدقاء عن سر استبشاره وتفاؤله الدائم، كلما لجأ إليه مكروب قال له:
سيفرجها ربي يقينًا، سيفرجها القريب المجيب، فينثر حوله جوًّا إيمانيًّا روحانيًّا، تتخفف فيه الأرواح مِن ثِقَلها، ومن جاذبية الأرض؛ لأنها حينها تتصل حقيقة بمن خلقها جل جلاله.


وعد نفسه وعدًا قاطعًا، وأخذ يردد:
سأعود إلى محرابي إلى طبيبي، إلى دوائي وحبيبي، سأعود إلى رب العالمين.


بينما كان جسده يستجيب لأشواقه، ويسرع الخطى، وابتسامة عريضة قد ارتسمت للتوِّ على ثغره، مصدرها نبض قلبه السعيد.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 17.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 16.37 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.69%)]