الموضوع: بيتنا الضيق
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 26-05-2023, 11:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي بيتنا الضيق

بيتنا الضيق
نجلاء جبروني

كم كنت أكره هذا البيت الضيق! وكم ضاقت به نفسي، كما ضاقت بنا حجراته وأركانه! وكم تذمرت من صراخ أبي، وأنه لم يكن يعطينا ما يكفي، ومن أمٍّ كنت أراها لا تكف عن الطلب، ودومًا تشتكي التعب وتبكي!

وكم ضاقت نفسي بهؤلاء الصغار، يضايقونني باستمرار، يأخذون أقلامي وأوراقي، يبعثرون أشيائي في كل مكان، لقد سئمت أصوات الشِّجار، وكم ضاقت نفسي بهذا الشارع السد، حتى كرهت النظر من النافذة!

طالما حلمت بباقة ورد، وسئمت من رؤية هذه الثلاجة الخاوية، وكم تمنيت أن أكون مثل صديقاتي، أنعم بالبيت الواسع والحياة المترفة، آكل وألبس ما أشاء، أتنزه في أرقى الأماكن بدلًا من حياتي البائسة.

ومرت الأيام، وكبرت...
مات أبي وبعدها تزوجت، وتركت هذا البيت.
ذهبت إلى بيت زوجي.
حققت أحلامي، أنجبت أطفالي.
ثم ماتت أمي وبيع بيتنا الضيق.
قالوا: لم يعد له حاجة؛ فكل منا ذهب إلى بيته واستقل بحياته.
الآن عرفت خطأي...
أشعر أني أحتاج إلى بيتي؛ بيت أبي وأمي.
كم كنت غافلة أتنعم بنعم ربي وأتلهى عن شكره!
كان لي أب يحمي، وأم تربي، وبيت يأوي، لكني كنت كارهة لهذا البيت.
الآن عرفت قيمة النعم، لكن للأسف ما عرفت إلا بعدما حُرمت.

قال سبحانه: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].

ما شكرتُ يومًا أبي ولا أمي، و((من لم يشكر الناس لم يشكر الله))[1]، والله تعالى قد أمرنا بالشكر له، وأتبع شكره بشكر الوالدين؛ فقال تعالى: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]، فأبي وأمي هم أولى الناس بالشكر، لكني كنت جاهلة.

لم أقدر جهود أبي ولا تضحيات أمي، لم أعرف أن هذه الجهود والتضحيات قد جعلها الله سببًا في أن أكمل دراستي، وأن يكون لي شأن في هذه الحياة، وأن يكون لي زوج وبيت وأولاد.

لم أفهم أنه كان يصرخ في وجهي؛ خوفًا على مستقبلي وحرصًا على مصلحتي.
كان يكفيني أن أحس الإشفاق في نظراته حتى لو اعترضت على صرخاته.

كان يصرخ لأني لا أستجيب؛ فينادي عليَّ بأعلى صوته، وقد أنهكه التعب وتورمت قدماه من الوقوف، ويريد أن يستريح.
سامحني يا أبي، الآن عرفت قدرك.
سامحيني يا أمي، الآن عرفتُ أنكِ ما طلبتِ الكثير مني؛ ما طلبتِ إلا مساعدتي، كنت أنا البخيلة، أبخل على أمي ولو بمساعدة أو بكلمة طيبة.

لقد علمتُ لماذا كنت تبكين يا أمي؛ كنت تحملين همَّ إخوتي وتحملين همي، ولا تجدين من يخفف عنك.
لم أركِ إلا بعين ناقدة، لم أركِ إلا مقصرة.
الآن شعرت بتعبكِ، عندما أنجبت أطفالي.
كم كانت معاناتكِ أ كثر بكثير من معاناتي وأعمالي!
نعم، كان بيتنا صغيرًا ضيقًا، لكن كان كل ركن من أركانه يحمل ذكرياتي وآمالي.

كنت أراه بعين ساخطة، كم كنت سيئة؛ نظرت إلى من هو في الدنيا أعلى مني؛ فحُرمت الشكر وازدريت نعمة ربي!

قال صلى الله عليه وسلم: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألَّا تزدروا نعمة الله عليكم))[2].

كان عليَّ أن أحمد الله على نعمة الإسلام، فأكثر أهل الأرض ليسوا على الإسلام؛ قال تعالى: ﴿ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ﴾ [الحجرات: 17].

كان عليَّ أن أحمده على نعمة العقل والسمع والبصر، والمأوى والسكن، والرزق والعافية من البلاء والمرض.

كان عليَّ أن أحقق العبودية لله بظهور أثر نعمه على لساني ثناءً واعترافًا، وعلى قلبي شهودًا ومحبة، وعلى جوارحي انقيادًا وطاعة؛ قال تعالى: ﴿ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172].

هكذا يكون الشكر الذي هو سبب لثبوت النعم وزيادتها؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7].
وكفر النعم وجحودها سبب لزوالها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
والآن بعدما فات الزمان قد أدركتُ أن بيتنا لم يكن ضيقًا بل كان صدري هو الضيق.

كم أشتاق إلى أبي وأمي!
كم أحن إلى هذا الشارع السد!
لم أعرف أنه سيبقى في قلبي أغلى من الورد.
لقد باعوا بيت أبي وحرموني رؤيته.
كم أشتاق إلى بيتي!
كم أحب هذا البيت!

[1] صحيح الترمذي (1954)، صحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[2] صحيح الجامع (1507)، صحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 17.34 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 16.72 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (3.59%)]