عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 09-07-2021, 03:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: رسائل من المغرب القديم

رسائل من المغرب القديم(2)
رياض منصور











الرسالة الثامنة:

هيرودوت يشبه كثيرًا صديقي تيتليف، وكلُّ همِّهما الورق والحبر والتدوين، ثمَّ إنه كان يخبِّئ في كيسه الكبير تسعةَ كتب، يحملها معه حيثما حلَّ أو ارتحل.



فإن لم يكن يَكتب، تجده يمسَح عنها الغبار ويلمِّعها ويهتمُّ بها كما يهتم العاشِق الوسيم بهندامه وحذائه، وكما تهتمُّ الفتاة بلون بشَرتها وملمسها وبتسريحة شعرها، وكما يهتمُّ الجنديُّ ببندقيته، والفارس بسيفه وفرسه، وكما يهتمُّ المواطِن الصالح بوطنه، والأم بأبنائها.



ويعدُّها ويحسُب أوراقَها كما يعدُّ الراعي خِرافَه كلَّ مساء.

واليوم استيقظ باكرًا كعادته، اغتسَل، مشَّط شعرَه، فتح كيسه، فلم يجد كتابَه الرابع.

• • •



الرسالة التاسعة:

من حسن حظِّنا أنَّنا وجدنا الكتابَ الرابع سليمًا كاملًا معافًى لم يمسَسْه سوء، وجدناه عالقًا بين أغصان شجرة الرمَّان التي جاء بها الفينيقيون ذات هجرة.



من مدينة صور كانت انطلاقتُهم، وفي تونس أسَّسوا قرطاجة، استغَلُّوا المرافئ لبِناء السُّفن ومواصلة نشاطهم التجاري، واستغَلُّوا المزارِعَ والمعادِنَ لغذائهم وصناعتهم، وغذوا الصِّراع بين النوميديين، وتحالفوا مع إقليد الغرب ضد إقليد الشرق، وبسطوا نفوذَهم على المدن والأقاليم المجاورة، فها هي جنوب أيبيريا وجنوب أوروبا تتكلَّمان باللغة البونية، وتتاجران بالعملة المالطية القرطاجية.



ولأنَّهم مَرِنون؛ فقد دام حكمُهم أزيد من ثمانية قرون، مزجوا بعل بآمون، فصار لديهم بعل آمون.

ولما وجدوا النوميد محافظين، تأقلموا مع الحياة المتحفظة، فقدَّسوا الرابطةَ الزوجية، وحاربوا مفاسِدَ الأخلاق.

فما بال أقوامٍ عندكم يحاولون تخريبَ عش الحياة الزوجيَّة، وبثَّ مساوئ الأخلاق في مجتمعاتهم؟

• • •



الرسالة العاشرة:

تسألني عن الكتاب الرَّابع، من حقِّك ومن واجبي إخبارُك بمواضيعه، أو ما تيسَّر منها؛ أخبِرُك عن منطقةٍ ترتادها الوحوش المفترِسة، عن عدد من الرِّجال يحملون الأقواسَ والحِراب وعصيَّ الرِّماية وحولهم حيوانات كثيرة للصَّيد، ويزيِّنون شعورَهم بالريش، ولهم ذيول تتدلَّى من قمصانهم.



أخبرك عن "الجيزانت" وعسلهم الوفير.



أخبرك عن أرض جبليَّة للغاية، مليئة بالأحراش والحيوانات الضَّارية، والأفاعي الضخمة، والفيلة، ومخلوقات رؤوسها رؤوس كلاب، وأخرى عيونها في صدرها.



أخبرك عن أقوامٍ تقود نساؤهم عرباتِهم إلى الحرب.



أخبرك عن "الجيتول" و"المور" و"النوميد" و"الجرامونت" و"الماكسيس" و"الزويكس"، وهؤلاء كلُّهم لم أرَهم ولم أرَ أراضيَهم، كما لم يرَها "هيرودوت" نفسه، بل سجَّل ما كان يَسمع عنها فقط.

• • •



الرسالة الحادية عشرة:

علِقَتْ بين أفنان ذاكرتي هذه الكلماتُ، وقد أرسلتُها لك على أمل أن تقرأَها من بعدك عينٌ كنتُ أعرفها؛ يغطيها التشاؤم، ويحجب عنها سوءُ الظنِّ حياةً حلوة هنيئة رغيدة.



عين تعاديك لأتفه الأسباب، وتعلِن عليك الحربَ في كلِّ وقتٍ وحين، ودون سابق إنذار، ولتلك العين ومثيلاتها كتبتُ:



لسنا لكم يا عينها أعداء

فلتشعلي من فضلِك الأضواء



العمر يمضي والحياةُ قصيرةٌ

فلتُطفئي من قلبك البغضاء




• • •



لما كنت بينكم كنت أقول - مثل قولكم - عن كلِّ حدَث مضى وانقضى: إنَّه مخزَّن في الذَّاكرة، ولكنِّي اليوم أعيش قبلكم بآلاف السنين، فهل يحقُّ لي أن أتحدَّث عن شيء اسمه الذكريات؟



أم أنَّ الماضي السَّحيق والمستقبل البعيد متشابهان؟

أم أنَّ العلم واكتشافاته يشبه التاريخ وفرضياته ونظرياته؟

لا بدَّ أن هناك علاقة وطيدة بين الأزمنة.

على كلِّ حال، وصلَتنا اليوم رسالة من "شيشناق" يدعونا من خلالها إلى مأدبة عشاء.

• • •



الرسالة الثانية عشرة:

دخلنا القصرَ، وبدون بروتوكولات، ولا مراسيم رئاسية، ولا بساط أحمرَ، استقبلنا الملك "شيشناق"، أو كما يَحلو لصديقنا هيرودوت أن يسمِّيَه: "سوساكوس"، وبكلِّ عفوية راح يعانقنا ويقبِّلنا، وبين الفينة والأخرى يسألنا عن "بني سنوس" وعن "أوساليست"، وعن الأصحاب والأهل والأقربين هناك.



لم أملأ عينيَّ منه حياءً واحترامًا وتقديرًا، ولكن ملامحه العامة طُبعَت في زاوية من زوايا الذاكرة؛ ملامح ملِك أمازيغي، رَبع القامَة، أسمر الوجه، ذو شعرٍ أسود يغطِّي كتفيه، وعينين سوداوين تعلو إحداهما الأخرى قليلًا.



وكان إذا مَشى وضَع يدَه اليمنى على أسفل ظهرِه، ربَّما كان يشكو من ألَمٍ في عموده الفقري.



وكان القصر فاخرًا واسعًا يضمُّ عدَّةَ تجمُّعات من المباني، وإذا أمعنَّا فيه النَّظر، وجدناه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قِسم لمساكن الخدَم والمعاونين، ثمَّ هناك المقرُّ الخاصُّ بالملك "شيشناق"، أمَّا القِسم الثالث، فقد خصِّص للاجتماعات الرسميَّة، وهو يضمُّ عددًا كبيرًا متشابكًا من الفناءات والممرَّات، والدَّهاليز والأبهاء، وغرَف الاستقبال الكبرى والفخمة.



بداخل القصر تفسَّحنا وتمتَّعنا بجمال الحدائق، وتنوُّعِ الأزهار، وبالروائح العطِرة الزكيَّة المنبعثة من جنبات القصر وغرفه.



كل ذلك والملِك يزيد القصر حُسنًا وبهاء.



وعن المعبد والأثاث الجنائزي فلا تسَل؛ فقد أولاه الملِك عنايةً عظيمة، شأنه في ذلك شأن الملوك القدامى والفراعنة.



قد يقول قائل: وصل شيشناق إلى الحكم عبر حمَّام دماء، وقد يقول آخَر: وصل عن طريق المكانَة الدينيَّة التي ورثها عن أجداده، وقد يقول ثالث: إنَّه استغلَّ ضعف الملك "رمسيس الثاني".



وما يهمُّني من أمرٍ ويهمُّك أنِّي وجدتُه ملِكًا في مصر الفرعونية، ومؤسِّسًا للأسرة الحاكمة الثانية والعشرين، التي حكمَت أزيد من قرنين من الزَّمن.



ويهمُّنا أيضًا التمازج البشري الحاصل بين مصر وبلاد المغرب.

فما بال حدود سياسيَّة ورثتموها عن الاستعمار تحاول التفرقة بين شعوب تصاهرَت وتزاوجَت منذ آلاف السنين؟

• • •



الرسالة الثالثة عشرة:

أظنُّك - يا صديقي - تنتظر رسالةً سياسيَّة أو عسكرية، وعن الحروب التي خاضها شيشناق في فلسطين، أو عن الذَّهب الذي أحضره من بلاد الشام.



ولكني دوَّنتُ لك كلامًا هذا اليوم أغلى من الذَّهب أهداه الملك شيشناق لابنه ذات جلسة أبويَّة مُضمَّخة بالنَّصيحة، تفوح بأريج الحكمة، وقد آثرتُ أن أرسلها إليك كاملةً غير منقوصة في هذه الرسالة:

الوصية الأولى:

يا بُنيَّ، لا تلفَّ كثيرًا حتى لا تتوقف، ولا تتخم نفسك صغيرًا فتتراخى كبيرًا.



الوصية الثانية:

يا بنيَّ، لا توقِد نارًا لا تستطيع إخمادها، ومن حزن مع أهل بلده فرح معهم.



الوصية الثالثة:

يا بنيَّ، لا تجعل لنفسك صوتين، وقُل الأمرَ الواقعَ مهما كان.



الوصية الرابعة:

يا بنيَّ، أعطِ الشغَّال رغيفًا، تأخذ رغيفين من كتفيه وعرَقه.



الوصية الخامسة:

يا بنيَّ، لا تَكره إنسانًا لمجرَّد رؤيته ما دمتَ لا تعرف حقيقة خلُقه، ولا تَكره من يقول لك: إنِّي أخوك، والعزلةُ خيرٌ من أخ شرِّير.



الوصية السادسة:

يا بنيَّ، لا تكُن ساقطَ الهمَّة عند الشدَّة، وافعل الخيرَ وارمه وسط النهر.



الوصية السابعة:

يا بنيَّ، لا تشاوِر عالمًا في أمر تافه، ولا جاهلًا في أمر جلَل، وفشَلٌ كريمٌ خيرٌ من نصف نجاح.



الوصية الثامنة:

يا بنيَّ، من هزَّ حجَرًا وقَع على قدميه، ومَن سرَق جهد غيره لا يُبارَك له فيه، ويسرِق السَّارقُ بالليل ولا بد أن يُكشف بالنَّهار.



الوصية التاسعة:

واعلم يا بنيَّ أنَّ رفيق الحصيف حصيف، ورفيق الغبيِّ غبيٌّ، ورفيق الجاهل جاهل، ولا تقل: إنِّي عالِم، بل تفرَّغ للعلم.

• • •



الرسالة الرابعة عشرة:

دقَّت طبولُ الحرب البونية الأولى، فودَّعَني على إثرها صديقي تتليف، وعلى وقْع طبول الحرب البونية الثانية ودَّعني صديقي الآخَر هيرودوت.



حزنتُ كثيرًا لفراقهما، ولم تخرجني من دائرة الحزن إلا خطابات "يوغرطة" الحماسيَّة، واليوم يا صديقي سمعتُه يقول متحديًا الرومان: "روما للبيع، فمَن يشتريها؟".



ذكَّرني بجدِّه القائد الأمازيغي "مسينيسا" حين قال: "إفريقيا للأفارقة".



وما زلتُ أبحث عن كتاب يوبا الثاني، وعن شِبه الجزيرة بأنامل أمازيغية، ولا تهمُّ الحروف إن كانت بونيقية، أو لاتينية، أو يونانيَّة.



تجولتُ في مدينتَي "القيصرية" و"وليلي" الجميلتين؛ لعلِّي أَحظى بعنوان من العناوين التسعة التي جادَت بها أنامل الحاكم السياسي المثقَّف الشغوف بالعلم والعلماء "يوبا الثاني"، ولكن يبدو أنَّ الحروب قد أكلَت الأخضرَ واليابس، والتهمَت أيضًا كتبًا مهمَّة ألَّفها "يوبا الثاني".



ومهما يكن من أمرٍ، فإنِّي سمعتُ "بلين الأكبر" يقول: "شهرة يوبا الثاني بخدماته العلمية تفوقُ شهرته بملكه".



وهو بعد كلِّ هذا وذاك ملِك أمازيغي، اعتمد المقاربةَ الثقافيَّة حَلًّا لتحقيق التنمية الحقيقية في مملكته.

• • •



الرسالة الخامسة عشرة:

في العلم، في التاريخ، في الأحلام، في العواطف، في الأحاسيس والمشاعر: لا حدود، لا فواصِل، لا مسافات.

وكثيرًا ما يتقاطع عندي العلم والتاريخ.



فكما يعتمد العلمُ على فرضيَّاتٍ ونظريات توصله أحيانًا إلى الحقيقة والاكتشاف والاختراع، كذلك التاريخُ يَعتمد على فرضيات ونظريَّات وشواهد توصله إلى إثبات الوقائع التاريخية أو نفيها.



فكلاهما في حالة بحثٍ مستمرٍّ، لا تعرف التوقف.



وإن هبَّت رياحُ مذهب الشكِّ أو التشكيك، فإنَّها ستعصف بهما معًا، فكم من حقيقة علميَّة كانت بالأمس مسلَّمة، صارت اليوم في مهبِّ الريح، وكم من واقعةٍ تاريخيَّة تناولَتها الأقلامُ والصُّحُف والجرائد، وتناولها النَّاس في المقاهي، والطلبة في مقاعد الدِّراسة، عصفَت بها فرضيَّةٌ جديدة أو تحليلٌ جديد، فانتقلَت من صفحات التاريخ إلى الحِكايات والقصص والأحاجي والأساطير!

• • •



الرسالة السادسة عشرة:

أمَّا هذه الرسالة، فقد أردتُك أن تقرأها على مسامع كلِّ غريب عن الحلم، بعيد عن الطُّموحِ، مثبط للعزائم، قاتِل للهمم:



لا تحاوِل يا غريبًا

وأْدَ أفكارِ الفتى



ودَعِ الأطيارَ تشدو

في ربيعٍ قد أتى



هو بالصيفِ طموح

وهْوَ أحلامُ الشِّتا



لا تحاوِل خنقَ حلمٍ

بِلِماذا أو متى




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.53 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.60%)]