عرض مشاركة واحدة
  #237  
قديم 05-08-2022, 12:30 AM
الصورة الرمزية ابو معاذ المسلم
ابو معاذ المسلم ابو معاذ المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 113,034
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1403 الى صـ 1410
الحلقة (237)


ثم بين تعالى أنه لا ينفعهم الفرار من الموت؛ لأنه لا خلاص لهم منه، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا [78]

أينما تكونوا أي: في أي مكان تكونوا عند الأجل يدرككم الموت أي: الذي لأجله تكرهون القتال؛ زعما منكم أنه من مظانه، وتحبون القعود عنه، على زعم أنه منجاة منه، أي: وإذا كان لا بد من الموت فبأن يقع على وجه يكون مستعقبا للسعادة الأبدية كان أولى من أن لا يكون كذلك، ونظير هذه الآية قوله تعالى: قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا [الأحزاب: 16].

ولو كنتم في بروج [ ص: 1403 ] أي: حصون: مشيدة أي: مرفوعة مستحكمة، لا يصل إليها القاتل الإنساني، لكنها لا تمنع القاتل الإلهي، كما قال زهير بن أبي سلمى :


ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم


وقد ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم ههنا حكاية مطولة عن مجاهد ، والشاهد منها هنا أنها كانت أخبرت بأنها تموت بالعنكبوت، فاتخذ لها زوجها قصرا منيعا شاهقا؛ ليحرزها من ذلك، فبينما هم يوما فإذا العنكبوت في السقف، فأراها إياها فقالت: أهذه التي تحذرها علي؟! والله لا يقتلها إلا أنا، فأنزلوها من السقف، فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها، فطار من سمها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها، واسودت رجلها، فكان في ذلك أجلها، فماتت.

ولما حكى تعالى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد، خائفين من الموت، غير راغبين في سعادة الآخرة، أتبع ذلك بخلة لهم أشنع، بقوله سبحانه: وإن تصبهم حسنة كخصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحوها يقولوا هذه من عند الله أي: من قبله، [ ص: 1404 ] لما علم فينا الخير وإن تصبهم سيئة كقحط وجدب، وغلاء السعر، ونقص في الزروع والثمار، وموت أولاد ونتاج، ونحو ذلك يقولوا هذه من عندك يعنون: من شؤمك، كما قال تعالى عن قوم فرعون: فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه [الأعراف: من الآية 131]وعن قوم صالح: قالوا اطيرنا بك وبمن معك [النمل: من الآية 47].

قال أبو السعود : فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد زعمهم الباطل ويرشدهم إلى الحق ويلقمهم الحجر ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال، إذ لا يجترءون على معارضة أمر الله عز وجل حيث قيل: قل كل من عند الله أي: كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى، خلقا وإيجادا، من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلي بها عقوبة، كما سيأتي بيانه، فهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل ردا على أسلافهم من قوله تعالى: ألا إنما طائرهم عند الله أي: إنما سبب خيرهم وشرهم، أو سبب إصابة السيئة التي هي ذنوبهم عند الله تعالى لا عند غيره، حتى يسندوها إليه ويطيروا به.

فمال هؤلاء القوم يعني المنافقين لا يكادون يفقهون حديثا أي: قولا، والجملة اعتراضية مسوقة لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجب من كمال غباوتهم، إذ لو فقهوا شيئا لعلموا مما يوعظون به أن الله هو القابض الباسط، وأن النعمة منه تعالى بطريق التفضل والإحسان، والبلية بطريق العقوبة على ذنوب العباد.
[ ص: 1405 ] القول في تأويل قوله تعالى:

ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا [79]

ما أصابك من حسنة أي: نعمة فمن الله أي: فمن نعمته وتفضله ابتداء وما أصابك من سيئة أي: بلية فمن نفسك أي: من شؤمها بسبب اقترافها المعاصي الموجبة لها، وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى، نازلة من عنده عقوبة، كقوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [الشورى: 30].

روى ابن عساكر، عن البراء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يغفر الله أكثر .

وروى الترمذي عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يصيب عبدا نكتة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، قال وقرأ: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير .

[ ص: 1406 ] لطيفة

الخطاب في: أصابك عام لكل من يقف عليه، لا للنبي صلى الله عليه وسلم، كقوله:


إذا أنت أكرمت الكريم ملكته


ويدخل فيه المذكورون دخولا أوليا، وجوز أن يكون الخطاب له - صلى الله عليه وسلم - كما قبله وما بعده، لكن لا لبيان حاله صلى الله عليه وسلم، بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير، ولعل ذلك لإظهار كمال السخط والغضب عليهم، والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب، لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة، قرره أبو السعود .

قال بعض المفسرين: وثمرة الآية رد التطير والتشاؤم.

وأرسلناك للناس رسولا بيان لجلالة منصبه - صلى الله عليه وسلم - ومكانته عند الله عز وجل، بعد بيان بطلان زعمهم الفاسد في حقه - عليه الصلاة والسلام - بناء على جهلهم بشأنه الجليل، وتعريف (الناس) للاستغراق، أفاده أبو السعود ، أي: فمن أين يتصور لك الشؤم وقد أرسلت داعيا العموم إلى الخيرات؟! فأنت منشأ كل خير ورحمة وكفى بالله شهيدا أي: على رسالتك وصدقك بإظهار المعجزات على يديك، أي: وإذا ثبتت رسالتك فاليمن في طاعتك، والشؤم في مخالفتك.
[ ص: 1407 ] القول في تأويل قوله تعالى:

من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا [80]

من يطع الرسول فقد أطاع الله لأنه عليه الصلاة والسلام مبلغ لأمره ونهيه، فمرجع الطاعة وعدمها هو الله سبحانه وتعالى ومن تولى عن طاعته فما أرسلناك عليهم حفيظا أي: كفيلا تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم بحسبها فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب [الرعد: 40].

ولما بين تعالى وجوب طاعة الرسول تأثره بذكر معاملتهم معه، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا [81]

ويقولون أي: المنافقون إذا أمرتهم بشيء، وهم عندك طاعة بالرفع، أي: أمرنا وشأننا طاعة، ويجوز النصب بمعنى: أطعناك طاعة، كما يقول المنقاد: سمعا وطاعة، وسمع وطاعة.

قال سيبويه: سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمد الله وثناء عليه، كأنه قال: أمري وشأني حمد الله وثناء عليه، ولو نصب (حمد الله) كان على الفعل، والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها.

فإذا برزوا أي: خرجوا من عندك أي: من مجلسك بيت أي: دبر ليلا طائفة منهم أي: من القائلين المذكورين وهم رؤساؤهم غير الذي تقول أي: خلاف ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة؛ لأنهم مصرون على الرد والعصيان، وإنما يظهرون ما يظهرون على وجه النفاق.

[ ص: 1408 ] تنبيهان:

الأول: في "القاموس وشرحه" وبيت الأمر: عمله أو دبره ليلا.

وقال الزجاج : كل ما فكر فيه أو خيض بليل فقد بيت، ويقال: بيت بليل ودبر بليل بمعنى واحد.

وفي الحديث: أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يبيت مالا ولا يقيله ، أي: إذا جاءه مال لا يمسكه إلى الليل ولا إلى القائلة، بل يعجل قسمته. انتهى.

ونقل الرازي عن الزجاج أيضا: أن كل أمر تفكر فيه وتأمل في مصالحه ومفاسده كثيرا يقال فيه مبيت، وفي اشتقاقه وجهان:

الأول: من البيتوتة؛ لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الإنسان في بيته بالليل، فهناك تكون الخواطر أخلى، والشواغل أقل، فلما كان الغالب أن الإنسان وقت الليل يكون في البيت، والغالب أنه يستقصي الأفكار في الليل، لا جرم سمي الفكر المستقصى مبيتا.

الثاني: اشتقاقه من أبيات الشعر؛ لأن الشاعر يدبرها ويسويها، قال الأخفش: العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه، فسموا المتفكر فيه المستقصى مبيتا؛ تشبيها له ببيت الشعر، من حيث إنه يسوى ويدبر.

الثاني: تذكير الفعل؛ لأن تأنيث (طائفة) غير حقيقي، ولأنها في معنى الفوج والفريق، وإسناده إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدون له بالذات، والباقون أتباع لهم في ذلك، لا لأن الباقين ثابتون على الطاعة.

والله يكتب ما يبيتون أي: يثبته في صحائف أعمالهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الموكلين بالعباد فيجازيهم عليه.

قال ابن كثير : والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعصيانه، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة، وسيجزيهم على ذلك. انتهى.

وجوز أن يكون المعنى: والله يكتبه في جملة ما يوحي إليك في كتابه، فيطلعك على أسرارهم، فلا يحسبوا أن إبطانهم يغني عنهم، فالقصد لتهديدهم على الأول، وتحذيرهم من [ ص: 1409 ] النفاق لأن الله يظهره على الثاني.

فأعرض عنهم أي: تجاف عنهم ولا تعاقبهم وتوكل على الله أي: ثق بالله في شأنهم، فإن الله يكفيك شرهم وينتقم منهم وكفى بالله وكيلا كفيلا بالنصرة والدولة لك عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [82]

أفلا يتدبرون القرآن إنكار واستقباح لعدم تدبرهم القرآن وإعراضهم عن التأمل فيما فيه من موجبات الإيمان؛ ليعلموا كونه من عنده تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكي على ما هو عليه.

وأصل التدبر التأمل والنظر في أدبار الأمر وعواقبه خاصة، ثم استعمل في كل تأمل، سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه.

ولو كان أي: القرآن من عند غير الله تعالى كما يزعمون لوجدوا فيه اختلافا كثيرا بأن يكون بعض أخباره غير مطابق للواقع، إذ لا علم بالأمور الغيبية، ماضية كانت أو مستقبلة لغيره سبحانه، وحيث كانت كلها مطابقة للواقع تعين كونه من عنده تعالى.

قال الزجاج : ولولا أنه من عند الله تعالى لكان ما فيه من الإخبار بالغيب مما يسره المنافقون وما يبيتونه مختلفا، بعضه حق وبعضه باطل؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.

وقال أبو بكر الأصم: إن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من الكيد والمكر، وكان الله تعالى يطلع الرسول - عليه الصلاة والسلام - على ذلك، ويخبره بها مفصلة، فقيل لهم إن ذلك لو لم يحصل بإخبار الله تعالى لما اطرد الصدق فيه، ولوقع فيه الاختلاف، فلما لم يقع ذلك قط علم أنه بإعلامه تعالى، وأما حمل الاختلاف على التناقض وتفاوت النظم في البلاغة فمما لا يساعده السباق ولا السياق، أفاده أبو السعود .
[ ص: 1410 ] تنبيه:

دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال ، وعلى القول بفساد التقليد؛ لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته، أفاده الرازي .

وفي الآية - أيضا - الحث على تدبر القرآن ليعرف إعجازه من موافقته للعلوم واشتماله على فوائد منها، وكمال حججه وبلاغته العليا، وموافقة أحكامه للحكمة، وأخباره الماضية لكتب الأولين، والمستقبلة للواقع.

قال الحافظ ابن حجر : من أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصرا على ما يصلح للحجة منها - فإنه الذي يحمد وينتفع به، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم. انتهى.

وقد روى البخاري في صحيحه تعليقا عن ابن عون (وهو عبد الله البصري ، من صغار التابعين) أنه قال: ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني: هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها، والقرآن أن يتفهموه ويسألوا الناس عنه، ويدعوا الناس إلا من خير. وفي رواية (فيتدبروه) بدل (يتفهموه).

قال الكرماني: قال في القرآن: يتفهموه، وفي السنة: يتعلموها؛ لأن الغالب أن المسلم يتعلم القرآن في أول أمره فلا يحتاج إلى الوصية بتعلمه، فلهذا أوصى بتفهم معناه وإدراك منطوقه. انتهى.

وفي بقية الآية العذر للمصنفين فيما يقع لهم من الاختلاف والتناقض؛ لأن السلامة عن ذلك من خصائص القرآن، ثم ذكر تعالى عن المنافقين نوعا آخر من مفاسدهم، وهو إظهارهم أسرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومبادرتهم بأخبار السرايا وإذاعتها بقوله تعالى:

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.26 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.64 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (1.63%)]