عرض مشاركة واحدة
  #266  
قديم 25-01-2023, 02:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ...


قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 204 - 207].

ذكر الله عز وجل في الآيات السابقة انقسام الناس في دعائهم في الحج إلى قسمين، منهم من يريد الدنيا دون الآخرة، وهم المشركون والكفار الصرحاء، ومنهم من يريدهما معًا وهم عامة المؤمنين، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [البقرة: 201، 202].

ثم قسمهم الله في هذه الآيات إلى قسمين، كفار غير صرحاء قد بلغوا في الكفر والخصام والسعي في الأرض بالفساد وإهلاك الحرث والنسل غايته، وهم المنافقون، وإلى مؤمن مخلص ظاهرًا وباطنًا يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾.

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآيات نزلت في أناس من المنافقين قالوا لما أصيب خبيب بن عدي رضي الله عنه وأصحابه بالرجيع: يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا لا هم قعدوا في بيوتهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر من الشهادة والخير من الله»[1].

وقيل: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فأظهر له الإسلام، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال: إنما جئت أريد الإسلام، والله يعلم إني صادق، فخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحُـمُر، فأحرق الزرع وعقر الحمر، فأنزل الله تعالى هذه الآيات»[2].

والصحيح أن الآيات عامة في المنافقين كلهم، وفي المؤمنين كلهم.
قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾.

قوله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾، و«من» للتبعيض، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8]؛ أي: وبعض الناس.

﴿ وَمِنَ النَّاسِ ﴾ «من»: اسم موصول بمعنى «الذي»، أي: الذي يعجبك قوله، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يصلح له الخطاب.

ومعنى ﴿ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾ أي: من تستحسن قوله، مما يُظهر به الإيمان، وحب الخير؛ نفاقًا منه، كما قال تعالى في وصف المنافقين: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ [المنافقون: 4] من حسنه وفصاحته مع ما في بواطنهم من الكفر والنفاق والخداع والغرور والكذب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14].

وكما قيل:
يعطيك من أدنى اللسان حلاوة
ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
يلقاك يحلف إنه بك واثق
وإذا توارى عنك فهو العقرب[3]




وقال الآخر:
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها
عند التقلب في أنيابها العطب[4]




وقال المعري[5]:
وقد يُخلفُ الإنسانُ ظَنَّ عشيرةٍ
وإن راق منه منظر ورُوَاء




﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ متعلق بقوله: ﴿ يُعْجِبُكَ ﴾، أي: إعجابك بقوله حاصل في هذه الحياة الدنيا، فالحياة الدنيا ظرف لهذا الإعجاب.

وقد يكون: ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، متعلق بكلمة ﴿ قوله ﴾، أي: كلامه في أمور الدنيا، أي: عن أمور الدنيا التي هي أكبر همه ومبلغ علمه.

﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ يُعْجِبُكَ ﴾، و«ما» موصولة، أي: ويشهد الله على الذي في قلبه، وذلك بحلفه بالله أنه مؤمن مصدق، وأن ما في قلبه موافق لقوله، وهو في ذلك كاذب، كما قال تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 1، 2].

وقال تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ﴾ [النساء: 62] وقال تعالى: ﴿ حْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 96].

وأيضًا: ﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾؛ أي: ويبارز الله تعالى بالاستمرار على ما في قلبه من الكفر والنفاق؛ لأن الله تعالى يعلم ما في قلبه من ذلك، ولا تخفى عليه منه خافية، كما قال تعالى: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ ﴾ [النساء: 108].

وأيضًا ربما قال: «والله على ما أقول شهيد»، كما يردد هذا بعضهم وهو كاذب.

﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ الضمير «هو» يعود إلى «من» في قوله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ ﴾، وإضافة «ألد» إلى «الخصام» من إضافة الصفة إلى الموصوف، و«الخصام» يحتمل أن يكون مصدر خاصم يخاصم خصامًا ومخاصمة وخصومة.

و«الألد»: الأعوج الشديد الخصام، قال تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴾ [مريم: 97] و﴿ الخصام ﴾: الخصومة والجدال.

والمعنى: وهو شديد الخصومة والمجادلة بالباطل، يكذِّب ويزوِّر الحق، ولا يستقيم معه، كما يفتري ويفجر قال صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»[6].

ويجوز أن يكون الخصام، جمع مفرده «خَصِم» والمعنى: وهو ألد الخصوم، أي: ألد الناس المخاصمين، أي: أعوجهم وأشدهم خصومة وجدلًا بالباطل.

قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾.

قوله: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى ﴾ أي: وإذا تولى هذا الذي يعجبك قوله، أي: وإذا ذهب وابتعد عنك وعن من ينكر عليه.

﴿ سَعَى فِي الْأَرْضِ ﴾ أي: سار ومشى في الأرض وعمل فيها جاهدًا، كما قال تعالى: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ﴾ [يس: 20]؛ أي: يسير ويمشي، وكما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19]؛ أي: عمل لها عملها.

﴿ لِيُفْسِدَ فِيهَا ﴾ اللام للتعليل، أي: لأجل أن يفسد فيها فسادًا معنويًا بالكفر والنفاق والمعاصي، وتشكيك الناس في دينهم، مما يحصل بسببه الفساد الحسي، وهو ما ذكره تعالى بقوله: ﴿ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾ أي: يُتلف الحرث والنسل بسبب فساده، كما قال الله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].

والمراد بـ﴿ الْحَرْثَ ﴾ الزرع والنباتات والثمار، و﴿ وَالنَّسْلَ ﴾ نتاج ومواليد الإنسان والحيوان.

أي والمعنى: فيتسبب في هلاك الحرث والنسل، وخراب البلاد، وهلاك العباد، والقضاء على مقومات الحياة، وبهذا جمع بين عوج وسيء المقال، وبين قبيح وسوء الفعال.

قال السعدي[7]: «ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص ليست دليلًا على صدق ولا كذب، ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها، المزكي لها، وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود، والمحق والمبطل من الناس، والنظر لقرائن أحوالهم، وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم».

﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ في هذا تحذير من الفساد، وتوبيخ وتهديد للمفسدين، ونفي محبته عز وجل للفساد يدل على بغضه للفساد وكراهيته له وعلى بغضه وكراهيته للمفسدين، وعدم محبته لهم، كما قال تعالى: ﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64].

قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾.

قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُاتَّقِ اللهَ ﴾ أي: وإذا قيل لهذا المفسد في الأرض المهلك للحرث والنسل:
﴿ اتَّقِ اللهَ ﴾ أي: اتخذ وقاية من عذاب الله بالإيمان وترك النفاق والكفر والعناد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.

وفي قوله: ﴿ إِذَا قِيلَ لَهُ ﴾ بالبناء للمفعول وحذف الفاعل دلالة على رده الحق أيًّا كان قائله لكراهته للحق.

﴿ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ ﴾، أي: حملته وأحاطت به العزة.

والمراد بـ﴿ الْعِزَّةُ ﴾ هنا العزة المذمومة عزة الجاهلية، وهي الأنفة والترفع والتكبر عن قبول الحق وامتثاله، وترك الباطل، وليس المراد بها العزة المحمودة، وهي العزة بحق التي قال الله عنها: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].

﴿ بِالْإِثْمِ ﴾ الباء: للمصاحبة والملابسة، و(الإثم): الذنب، أي: احتوته العزة المصاحبة والملابسة للإثم.

والمعنى: احتوته وأحاطت به العزة والأنفة والحمية الجاهلية، وحملته على الإثم، وهو عدم الإصغاء للناصحين، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾ [الحج: 72].

وقد قال الله عز وجل لصفوة خلقه وسيد رسله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الأحزاب: 1]، وقال تعالى له: ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ [الأحزاب: 37].

وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «اتق الله» فأنكر عليه رجل من الحاضرين، فقال عمر رضي الله عنه: «دعه، فلا خير فيكم إن لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إن لم نسمعها منكم»[8].

﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ وعيد شديد له وتهديد أكيد، لقوله: ﴿ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [المجادلة: 8].

والحسب بمعنى الكافي، أي: فكافيته جهنم يدخلها ويعذب فيها مجازاة له على كفره وعدم قبوله الحق.

والحسب بمعنى «الكافي»، أي: كافيه جهنم عقوبة له، و«جهنم»: اسم من أسماء النار، ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: للعلمية والتأنيث.

وسميت به لجهمتها وظلمتها وبعد قعرها وشدة حرها، نسأل الله تعالى السلامة منها.

قال الشاعر:
رَشَدْتَ وأَنعمتَ ابنَ عمرو وإنما
تَجنَّبْتَ تنورًا من النَّار مظلمًا[9]




﴿ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ الواو: عاطفة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، أي: والله لبئس المهاد.

و﴿ بِئْسَ ﴾: فعل جامد لإنشاء الذم، وفاعلها ﴿ الْمِهَادُ ﴾، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: ولبئس المهاد، هي، أي: جهنم، و﴿ الْمِهَادُ ﴾ في الأصل الفراش والوطاء، والمعنى: ولبئس الفراش والوطاء والمسكن والمستقر جهنم، عذاب أبدي سرمدي، معنوي للقلوب، وحسي للأبدان.

قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾.

ذكر الله عز وجل في الآيات السابقة حال المنافق، ألد الخصام، المفسد في الأرض، المعرض، المتكبر عن تقوى الله، ثم أتبع ذلك بذكر حال المؤمن الذي يشري نفسه طلب مرضاة الله تعالى، كما هي طريقة القرآن الكريم الجمع بين الترغيب والترهيب؛ ليجمع المؤمن في طريقه إلى الله بين الخوف والرجاء، فلا يأمن من مكر الله، ولا ييأس ويقنط من رحمة الله تعالى.

وقد روي عن صهيب الرومي رضي الله عنه قال: «لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش: يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبدًا، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تُخَلّون عني؟ قالوا: نعم. فدفعت إليهم مالي، فخلَّوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب، مرتين».

وفي رواية عن سعيد بن المسيب، قال: «أقبل صهيب مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلم فأتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش، قد علمتم أني من أرماكم رجلًا، وأنتم والله لا تصلون إليَّ حتى أرمي كل سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي؟ قالوا: نعم نعم، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ربح البيع، ربح البيع»، قال: ونزلت: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾، وفي بعض الروايات، قال صلى الله عليه وسلم: «ربح البيع أبا يحيى».

وفي رواية: «فأنزل الله فيه هذه الآية، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة، فقالوا: ربح البيع، فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك؟ فأخبروه أن الله تعالى أنزل فيه هذه الآية».

وهكذا قال ابن عباس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة، وجماعة: إنها نزلت في صهيب رضي الله عنه، وقيل: نزلت هذه الآية في مدح خبيب بن عدي- رضي الله تعالى عنه- وأصحابه الذين قتلوا في الرجيع.

وذهب أكثر المفسرين إلى أن الآية عامة في كل مجاهد في سبيل الله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]، ولهذا لما تقدم رجل من بين الصفين، وفي بعض الروايات أنه هشام بن عامر، أنكر عليه بعض الناس، فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما وتلوا هذه الآية: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[10].

وهذا كله لا ينافي عموم الآية في كل من باع نفسه في طاعة الله تعالى هجرة أو جهادًا في سبيل الله، أو دعوة إلى الله تعالى وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر وغير ذلك.

قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾.

هذا قسيم قوله تعالى فيما سبق: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾ الآيات، أي: ومن الناس من يكون كذا، ومنهم من يكون كذا.

و«من» في قوله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ ﴾: تبعيضية، وفي قوله: ﴿ مَنْ يَشْرِي ﴾: موصولة، و«يشري» بمعنى «يبيع»، كما قال تعالى: ﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ﴾ [النساء: 74]؛ أي: الذين يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة.

كما أن «شرى» بمعنى «باع»، ومن هذا قوله تعالى: ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ [يوسف: 20]؛ أي: باعوه، وقوله تعالى: ﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102]؛ أي: ولبئس ما باعوا به أنفسهم.

وأما اشترى فهي بمعنى (ابتاع)؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾ [التوبة: 111]، أي: ابتاعها منهم، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ [البقرة: 102]، أي: لمن ابتاعه.

وكذا «يشتري»، بمعنى «يبتاع»، كما قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [لقمان: 6].

﴿ نَفْسَهُ ﴾، أي: ذاته.
﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ مفعول لأجله، أي: طلبًا لرضوان الله عز وجل، وإخلاصًا له سبحانه وتعالى.


والمعنى: ومن الناس من يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله عز وجل، أي: يبيعها لله عز وجل، ويبذلها للقيام بطاعته عز وجل والجهاد، والاستشهاد في سبيله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].

﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾، أي: والله ذو رأفة بالعباد، والرأفة: شدة الرحمة وألطفها وأرقها، وهي قسمان رأفة عامة، ورأفة خاصة.

﴿ بِالْعِبَادِ ﴾ أي: بالعباد جميعهم؛ لأن عبودية الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: عبودية الانقياد لأمر الله تعالى الشرعي، فهذه خاصة بالمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17، 18]، فهؤلاء لهم رأفة الله تعالى الخاصة.

والقسم الثاني: عبودية الانقياد لأمر الله تعالى الكوني، وهذه عامة، فكل الخلق عباد لله تعالى بهذا المعنى، كما قال تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93]، وهؤلاء لهم رأفة الله العامة.

[1] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 573)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 363- 369)، وانظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 174، 175).

[2] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 572)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 364- 367)، عن السدي.

[3] ينسب هذان البيتان لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ انظر: «حياة الحيوان الكبرى» (1/ 51).

[4] البيت لعنترة بن شداد؛ انظر: «ديوانه» (ص11).

[5] انظر: «اللزوميات» (1/ 56).

[6] أخرجه البخاري في الإيمان (34)، ومسلم في الإيمان (58)، وأبو داود في السنة (4688)، والنسائي في الإيمان (5020)، والترمذي في الإيمان (2632)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

[7] في «تيسير الكريم الرحمن» (1/ 251- 252).

[8] أخرجه ابن الجوزي في «مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه», انظر: «الفقه الإسلامي وأدلته» (8/ 332).

[9] البيت لورقة بن نوفل أو أمية بن أبي الصلت يرثي زيد بن عمرو بن نفيل، وكانا معًا ممن تركا عبادة الأوثان في الجاهلية. انظر: «السيرة النبوية» (164).

[10] انظر: «جامع البيان» (3/ 571 - 576)، (590- 594)، و«أسباب النزول» للواحدي، ص (39)، و«تفسير ابن كثير» (1/ 360- 361)، و«الصحيح المسند من أسباب النزول» ص(33).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.25 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (1.42%)]