عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 13-11-2022, 12:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المضامين التربوية في سورة يس

المضامين التربوية في سورة يس (2)


عامر خطاب



الفصل الثاني: المضامين التربوية في سورة يس

"عني المفكرون بالقرآن الكريم عناية لم يظفر بمثلها كتاب سواه، وتبدو هذه العناية في كثرة المؤلفات والدراسات عن القرآن الكريم، فتعددت مناحي الأخذ منه إلا أن أعظم وجوه الأخذ من القرآن الكريم الوجه التربوي، فهو مبثوث في القرآن كله، فلا تكاد تخلو سورة منه"(1)؛ ومن هنا جاء هذا البحث لاستنباط المضامين التربوية في سورة يس، "فالقرآن الكريم كتاب شامل في التربية، وقد وضع منهجًا للتربية العقلية والنفسية والجسمية"(2).

والمقصود بالمضامين التربوية بشكل عام: "خلاصة الفكر التربوي الذي يشتمل عليه كتاب معين بغض النظر عن المجال الرئيسي الذي ألف فيه الكتاب، فقد يكون الكتاب مرجعًا فقهيًّا أو أدبيًّا أو تاريخيًّا بالدرجة الأولى إلا أنه لا يخلو من فكر تربوي متضمن في ثناياه، ويمكن استخراجه والإفادة منه"(3). والمضامين التربوية في هذا البحث هي ما تتضمنه سورة يس من أهداف وتوجيهات وقيم تربوية يمكن استنباطها من خلال الدراسة والتحليل في حدود اطلاع الباحث واجتهاده، ولا شك أنه يمكن استنباط مضامين أخرى تحتويها السورة غير التي أشرت إليها.

المبحث الأول: المضامين التربوية الإيمانية

1- النظر في خلق الله تبارك وتعالى

دعت سورة يس إلى التأمل والتفكر في هذا الخلق وإدراك أنه لا بد له من خالق عليم حكيم، فالأرض وما فيها من زرع ونبات وخير هي آية من الآيات الدالة على عظيم صنع الله {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}.

إن تنوع ما على هذه البسيطة من زروع وأنعام وطيور وبهائم ودواب وتسخيرها للإنسان وتذليلها له يسوقها منقادة له مستسلمة لأمره ينتفع بها دليلٌ على وجود الخالق وعظيم صنعه {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}، وتنوع البشر في أعراقهم ولغاتهم وألوانهم من أعظم الآيات التي تدل على الخالق العظيم {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}.

وتقلب الليل والنهار وطلوع الشمس وغروبها وانتقال القمر بين المنازل وحركة الكواكب بهذا التناغم والتوازن دون أن تصطدم ببعضها أو تتقدم أو تتأخر آيةٌ من آيات الله العظيم {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.

وفي البحار وما تحمله من الأثقال والسفن المواخر آية على قدرة الخالق وعظيم صنعه {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}، فالكون هو الكتاب المنظور الذي ينطق بوجود الخالق وعظيم قدرته: (وفي كل شيء له آية --- تدل على أنه الواحد).

2- النظر في أصل خلق الإنسان وأطوار نموه

في خلق الإنسان من نطفة ثم وصوله إلى أرذل العمر دليل واضح على ضعفه أمام خالقه وحاجته له وافتقاره إليه، قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77] فمع هذه البداية الضعيفة للإنسان إلا أنه يجادل ويخاصم في وجود الخالق عز وجل، وأشارت السورة إلى حال الإنسان في حال الكبَر: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68] أفلا يرون ضعفهم وقلة حيلتهم وافتقارهم إلى خالقهم؟! فمن أدرك حقيقة ذاته أيقن أن هناك خالقًا منعمًا عظيمًا لا يسع الإنسان إلا أن يؤمن به ويستسلم لأمره، ولا شك أن في عرض أدلة الإيمان بالله -عز وجل- دعوةً إلى إعمال العقل والتفكر في خلق السموات والأرض، فسائر الموجودات تحتاج إلى موجد يوجدها، ولا يمكن أن تكون قد حصلت صدفة أو عبثًا.

3- القرآن دعوة وإنذار لمن يبحث عن الحق

جاء القرآن الكريم نذيرًا وداعيًا لمن ينشد الحق ويبحث عنه، فلا ينتفع به المعاندون المصرون على الكفر والباطل {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70]، قال ابن كثير: (وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِنِذَارَتِهِ مَنْ هُوَ حَيُّ الْقَلْبِ، مُسْتَنِيرُ الْبَصِيرَةِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: حَيُّ الْقَلْبِ حَيُّ الْبَصَرِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي عَاقِلًا)(4) ، وقال ابن عاشور: (الإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ بِأَمْرٍ يَجِبُ التَّوَقِّي مِنْهُ، وَالْحَيُّ مُسْتَعَارٌ لِكَامِلِ الْعَقْلِ وَصَائِبِ الْإِدْرَاكِ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ مَنْ كَانَ مِثْلَ الْحَيِّ فِي الْفَهْمِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِالْمُعْرِضِينَ عَنْ دَلَائِلِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ كَالْأَمْوَاتِ لَا انْتِفَاعَ لَهُمْ بِعُقُولِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النَّمْل: 80])(5).

4- الاعتبار بالأمم السابقة

يذكر الله -عز وجل- أخبار الأمم السابقة للعبرة والموعظة {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [يس:31] يقول ابن كثير: (ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل، كيف لم تكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة، ولم يكن الأمر كما زعم كثير من جهلتهم وفجرتهم من قولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [المؤمنون: 37])(6).

5- يوم القيامة يأتي على حين غفلة

لا بد للمؤمن من الاستعداد الدائم وتجديد التوبة ولزوم الاستغفار {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:50] يقول ابن عاشور: (أي لا يتمكنون من توصية على أهليهم وأموالهم من بعدهم كما هو شأن المحتضر)(7). وقد وصف النبي-صلى الله عليه وسلم- أحوال الناس وقت قيامها فقال: ((لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها))(8).

6- يوم القيامة توفَّى كل نفس ما كسبت

إن يوم القيامة هو يوم الحساب الذي توزن فيه الأعمال وتوفَّى فيه الأجور {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، يقول ابن عاشور: (أما وقد أيقنتم أن وعد الله حق وأن الرسل صدقوا فاليوم يوم الجزاء كما كان الرسل ينذرونكم)(9). ويوم القيامة هو دار العدل المطلق، قال تعالى: {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] فلا ظلم هناك حيث يقتص من الشاة القرناء للشاة الجلحاء كما قال صلى الله عليه وسلم: ((حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء))(10). وهو اليوم الذي يجازى الناس فيه على أعمالهم، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر كما قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31] وفي هذا دعوة للإنسان أن يحرص على صالح الأعمال ومحاسن الخصال كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].

العدد السادس من مجلة مقاربات الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

الحلقة الأولى هنا

(1) عماد الشريفين، مضامين تربوية من علوم القرآن: نماذج مختارة، مجلة جامعة الإمام، العدد الحادي عشر – ربيع الآخر 1430هـ.

(2) المرجع السابق.

(3) المرجع نفسه.

(4) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، (ج6 ص592)، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية (1992).

(5) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، (ج23 ص 66).

(6) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (ج6 ص574).

(7) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، (ج23، ص35).


(8) البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، رقم الحديث (6506).

(9) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، (ج23، ص40).

(10) مسلم، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم الحديث (2582).








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.79 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.17 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.64%)]