عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 13-09-2021, 11:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: إسهامات باكثير النقدية المبكرة وتطورها



كلُّ هذه الخصائص من تقر جزئي والاتِّكاء على الجوانب اللغويَّة والبلاغيَّة، وغلبة عدم التعليل، والإشارة فقط إلى سلامة الذوق، يدلُّ على تأثُّر باكثير بقراءاته في كتب النقد التقليدي، وإنْ كان يغمر ذلك بلمساتٍ نقدية عصرية؛ كتفضيله للصورة الحيَّة المتحركة المنبعثة من نفسية الشاعر على الصور الجامدة الجاهزة، ويظهَرُ ذلك في تفضيلِه لوصف البحتري لهيبة ممدوحِه بما حَكاه من صورة البوَّابين الذين يَعمَلُون على ترتيب حركة دُخول أضياف الممدوح، ومن تصويره لما اعتلج في نفسه من هيبةٍ حبست لسانَه حتى انشرح صدره بانفتاح الممدوح له، فضل ذلك على الصورة التقليدية عند ابن زيدون عن الدهر الخادم وتصريف القضاء، ونلاحظ هنا أنَّ باكثير قد شرح كلَّ ذلك بأسلوبٍ أشبه بالنقد التفسيري؛ وهذا يدلُّ على ضربٍ من التجديد بدأ يلجُ نقد باكثير.

هذه الروح الجديدة في نقْد باكثير بدتْ واضحة جليَّة في نقده للشاعر صالح علي الشرنوبي في مقدمته التي كتبها على ديوانه، فنجده فيها يتَّجه اتجاهًا نفسيًّا في نقده الذي حاول خلاله رسم صورة لشخصيَّة الشاعر ونفسيته من خلال تتبُّعه لجملة من قصائد ديوانه، وهو سبيل لعلَّه استفاده عند دراسته في قسم اللغة الإنجليزية بكلية آداب جامعة القاهرة محتذيًا منهج هازلت في النقد و"خلاصته أنْ يتحرَّى الناقد إظهار نفس الشاعر من خلال شعره؛ ذلك لأنَّ الشعر يعتمد على شعور الشاعر بنفسه وبما حوله شُعورًا يتجاوب هو معه، فيندفع إلى الكشف فنيًّا عن خَبايا النفس أو الكون استجابةً لهذا الشعور في لغةٍ هي صور إيحائيَّة لا صور مباشرة"[33].

وهو سبيلٌ احتَذاه بعض كبار نقَّاد الأدب أشهرهم الأستاذ عباس محمود العقاد، وفي تلك المقدمة يبدأ باكثير بقصيدةٍ للشرنوبي عنوانها (أحلام الكوخ) فرأى أنها "تُعطينا صورة كاملة لمأساة الشاعر في تذبذبه الحقيقة والوهم؛ حيث أجرى حوارًا بينه وبين نفسه"[34].

في ذلك الحوار يشكو الشاعر بُؤس حَياته فتُشِير له نفسه باتِّباع سبيل بعد سبيل ليتخلَّص من شَقائه ويفشل في كلِّ مرَّة حتى يُدرك في النهاية أنَّ نفسه هي سرُّ شقائِه، "وأنَّ التسليم بالواقع الأليم ومُواجهة الحقيقة النَّكراء أفضل في النِّهاية من التهرُّب منهما والجري وراء الأماني والأحلام"[35].

ويُتابع باكثير يقول: "ومن أجل ذلك نرى الشاعر يَثُور ثورة عنيفة على تبتُّله للفن وتضحيته في سبيله بما تُتِيحه الحياة من المباهج والمتع"[36].

ويذكر شاهده على ذلك بقصيدةٍ أخرى للشاعر ثم يقول: "على أنَّ هذه الثورة العاتية التي ثارَها على الفن لم تُنقص بحال من الأحوال من إكباره واعتزازه به"[37].

ويأتي بما يشهد لذلك بأبياتٍ من قصيدةٍ ثالثة ويقول: "ونراه يتشاءم أحيانًا فيُبدِع في تشاؤمه إبداعًا يفيضُ بالسخرية اللاذعة، فاسمعه يقول من قصيدته (نسمات وأعصاير)"[38]، ثم إنَّ الشاعر "ليضيق بالحياة فيُوجِّه صرخةً دامية إلى ربِّه أنْ يُعجِّل له بالخلاص"[39].

ونقرأ أبيات الصخرة التي أوردها باكثير ثم يقول: "على أنَّه يتمرَّد أحيانًا أخرى على خُطوب الحياة، ويأبى أنْ يستكين لها ويستَمسِك بحبك الأمل والتفاؤل، ويرى في ذلك تحقيقَ سعادته"[40]، ويَذكُر الأشعار الدالَّة على ذلك.

وهكذا يرسم لنا باكثير صورةً لنفسيَّة ذلك الشاعر من خِلال نماذج من أشعاره؛ فتظهر لنا جلالها تتجاذَبُها مشاعر مُتبايِنة بين الحقيقة والوهم، بين التشاؤم والتفاؤل، بين الاستكانة وإرادة الخلاص، والإقبال على الحياة، والتمسُّك بحبل الأمل، ولعلَّها نفسيَّة ليست مقتصرةً على هذا الشاعر وحدَه بقدر ما تصور حالة النفس الإنسانية ككلٍّ، وهي التي لا تكاد تقرُّ على حال؛ فتتأرجح على الدوام مع تقلُّبات الدهر بين اليَأس والرَّجاء، بين السعادة والشقاء، وهي لا تَدرِي خلال ذلك كُنْهَ تقلُّباتها تلك، وتحار على التعبير عنها على الأقل لغرَض التنفيس، ونفث ما يتلجلج في الصدور ولا يستطيعُ ذلك سوى الشاعر، والشاعر وحدَه.

أمَّا نقدُه للكتابة المسرحيَّة فقد ضمَّنه كتابه المعروف "فن المسرحيَّة عبر تجاربي الشخصية"، وهو كتابٌ نقدي، وفي الوقت نفسه كتاب مذكرات لحياته الفنيَّة في تعايُشه مع هذا الفن ومُعاناته في التقاط أفكاره وبحث مواضيعه وبناء أُطُرِه المتعدِّدة والمتنوِّعة بتعدُّد الأفكار والمواضيع وتنوُّع مجالاتها الرحبة، ومراحل تشكلها وتطورها في ذِهن باكثير ونفسيته، ولا يخفى ما لمثْل هذه المذكرات الفنيَّة للأدباء من قدمه للنُّقَّاد تمكُّنهم من رصْد كيفيَّة نشوء التجارب الأدبيَّة وتخلُّقها وتطوُّرها عند مبدعيها؛ لاستخلاص نتائج تهمُّ الناقد الأدبي في فهْم طبيعة العمليَّة الإبداعيَّة وطبيعة الأدب وعلاقته بالأديب والمتلقِّي[41].

وباكثير في كتابه هذا يضعُ أعيننا على أبرز عناصر فن المسرحيَّة وطرق بنائها منذُ لحظات التخلُّق الأولى على ضوء تجاربه الفعليَّة لما أنتجه من مسرحيَّات تعدُّ من أروع المكتسبات الفنيَّة للمسرح العربي، ومن هنا تكمُن أهميَّتها؛ إذ نتلقَّى الفن من منبعه، ونستجلي البناء من مبدعه؛ لذا نجدُ الحديث عن العناصر والتشكيل للمسرحيَّة شديدَ الإيجاز والتكثيف لكن بلغةٍ تُوصِل إلى المراد فهمه من أيسر الطرق وأقصرها، فباكثير لا يَكاد يَذكُر إلا ما كان علميًّا وما يراه لَبِنَةً حقيقيَّة في البناء المسرحي، ويأخُذك مباشرة بعد قليل من الشرح إلى معمله الفني المعبق بروائح عناصر الجودة وسِحر الإلهام؛ ليُرِيَك كيف يتمُّ تحضير إكسير النجاح المسرحي.

إنَّ أبرز عناصر المسرحيَّة التي طرَقَها باكثير هي الفكرة والموضوع ثم رسم الشخصيَّة ثم الصراع والحركة ثم الحوار.

فالفِكرة هي أوَّل عنصر سلط عليه باكثير ضوءه، وقرن حديثَه عنها بعلاقتها بالموضوع، وهو يرى أنَّ المسرحيَّة الجيدة لا تتحمَّل أكثر من فكرةٍ واحدة تكونُ هي محور الأحداث ومحط حركة الشخصيَّات، لكن إذا لزم وجود فكرة أخرى بجانبه فيتوجب تداخُلهما وتشابكهما فلا ينفصلان زمنيًّا بحيث يبرزان وينتهيان في زمنٍ واحد أو متقارب[42].

وإذا كانت الفكرة قد تكون صدًى لحافز نفسي أو تتولَّد من بعض القراءات أو المشاهدات، فإنَّ اختيار الموضوع الذي سيحمل تلك الفكرة ويترجمها إلى واقعٍ حيٍّ يتحرَّك يتطلب أدواة ينبغي أنْ يمتلكها الكاتب المسرحي؛ منها: أنْ يكون ذا خبرةٍ واسعةٍ في الحياة الإنسانية تُمكِّنه من جعْل مسرحيته قطعةً صادقةً من الحياة تخفق بنبضها الطبيعي[43]، ومنها أنْ يتمتع بخيال خصب يمده بنوافذ مفتوحة على ميدان الحياة من جميع زواياه وجهاته يستبصرُ منها رسم لوحته المسرحيَّة مطابقةً لما يعتملُ في ذلك الميدان وكأنها نسخة مصورة منه[44]، ثم يضعُ نصب عينيه هدفًا أو رسالة لما يختاره موضوعًا لمسرحيَّته، ويكون ذلك الهدف هو الحافز الذي "يدفع الكاتب إلى التحمس لعمله ويُحدِّد الإطار الذي يَصُوغ فيه هذا العمل"[45].

وتطرق باكثير إلى مسألة دقيقة تتعلَّق بالسبق بين الفكرة والموضوع أيهما يتقدَّم الآخَر؟ وأي منهما يفضي إلى صاحبه؟ يقول: "أحيانًا تكون الفكرة الأساسية سابقة للموضوع بالنسبة للكاتب المسرحي، وقد يكون الموضوع هو السابق للفكرة الأساسيَّة، ففي الحالة الأولى يشعر الكاتب أنَّ فكرةً ما تختلجُ في أطوار ذِهنه أو تعتلجُ في أعماق نفسه، وأنها تصلح نواةً لعملٍ مسرحي إذا وجد لها الموضوع الملائم"[46]، أو "يستهوي الكاتب موضوع؛ سواء أكان شخصيَّة من الشخصيَّات، أو موقفًا من المواقف، أو حدثًا من الأحداث، ويملك عليه نفسه، ويشعُر أنَّه إذا عالجه فسينبثق عن عمل مسرحي جيد؛ فيعمد إلى درس هذا الموضوع والتعمُّق فيه... حتى يهتدي إلى الفكرة الأساسيَّة التي يمكن أنْ تربط بين خيوطه"[47].

وتفصيل باكثير حول هذه المسألة ودقته فيها ساعده عليها خبرته الثريَّة في مُعاناة الكتابة المسرحيَّة، وهي نوعٌ من العمل الأدبي لا يسلمُ قياده إلا مَن أُوتِي استعدادًا ونُضجًا فنيًّا خاصًّا؛ لذا نرى باكثير قد مرَّت عليه جميعُ أنواع التداخُلات؛ حيث صور لنا مخاضها في نفسه وذِهنه وكيفيَّة نُشوئها من بذرةٍ صغيرة فكرة وموضوعًا حتى استوَتْ على ما هي عليه.

والعنصر المسرحي الثاني الذي تطرَّق له باكثير عنصر الشخصيَّة، وكان تركيزه هنا على جانبٍ غاية في الأهميَّة يعرفُه مَن كابَد كتابة العمل المسرحي، وهو كيفيَّة رسم شُخوص المسرحيَّة مع تعدُّد تلك الشُّخوص وتبايُنها من نواحٍ كثيرة، وأوَّل سبيلٍ لتحقيق دقَّة رسمها وتشخصيها هو أنْ يبدأ الكاتب المسرحي نفسه في التعرُّف عليهم قبل أنْ يعرف بهم لغيرِه، لا معرفة إجماليَّة بل يتعرف عليهم واحدًا واحدًا، ويعيش معهم في ذهنه، حتى يطمئنَّ أنَّه قد تعرف الأبعاد الأساسية المؤثِّرة على تكوين كلِّ شخصية منهم على حِدَةٍ جسميًّا ونفسيًّا واحتماعيًّا[48]، وتَكمُن أهميَّة هذه المعرفة الدقيقة في مَتانة بناء نصِّ المسرحيَّة وعدم اهتزازه ببروز مقطع حواري أو تطور حدثي يصدر عن إحدى شخوص المسرحيَّة دون أنْ يتناسب مع بعد أبعادها المذكورة؛ ومن ثَمَّ تصبح غير مُقنِعة للقارئ أو المشاهد العادي فضلاً عن الناقد الأدبي[49].

فرسم الشخصيَّة في المسرحيَّة لا يتعرَّف عليه المتلقِّي من شرح أو تعليق للراوي كما في القصة، بل يأخُذه مباشرة من الشخصيَّة نفسها في مجمل سلوكها أقوالاً وأفعالاً؛ لهذا فهو يرتبط بشخوص المسرحيَّة أكثر من ارتباطه بشُخوص القصَّة الذين يتعرَّف عليهم بوساطةٍ من الراوي؛ ومن ثَمَّ يكون حسَّاسًا لأيِّ ارتباكٍ مفاجئ في مسارها سواء في ما يصدر عنها من قول أو فعل[50].

ومن هنا تأتي صُعوبة تحكُّم الكاتب في شُخوص مسرحيَّته ما لم يكن راسخًا في تعرُّفهم على النحو الذي أشار إليه باكثير.

يترتَّب على وضوح أمرِ العنصر السابق نجاحُ الكاتب في عنصرين آخَرين يُعدَّان لب كلِّ عملٍ مسرحي هما: الصِّراع والحوار، فالصِّراع كي يكونَ ماثلاً في المسرحيَّة يتطلَّب أنْ تكون شُخوصها "مُتَبايِنة مُتَناقِضة"[51]، على أنْ يكون من بينها "شخصيَّة محوريَّة من ذلك الطراز القوي العنيد الذي لا يقنع بأنصاف الحلول"[52]، ومن تفاعُل تلك الشُّخوص يتولَّد الصراع الذي من شأنه أنْ يتصاعَد تدريجيًّا حتى يبلغ الذروة؛ جريًا في ذلك على سنَّة الطبيعة، يستوي في ذلك الحدث أو "كل حركة نفسيَّة أو فكريَّة تقع لشخوص المسرحيَّة"[53].

وهذا الصراع يتعاضد مع عنصر آخَر في الإبقاء على فاعلية العمل المسرحي عند المتلقِّي؛ وهو عنصر الحركة، وباكثير يشيرُ هنا إلى الحركة الذهنيَّة المتجدِّدة، فالحركة عنده تعني: "أنْ يستمرَّ الخط المسرحي متحركًا لا يقفُ لحظة واحدة"[54]، فكلُّ ما يدفَعُ بالحدث المسرحي إلى حال جديدة وخُطوة متقدمة يُعَدُّ حركة، سواء أكانت حركة جسمانيَّة حسيَّة، أو وقفة ساكنة ذات مغزى، أو حتى مجرَّد جملة أو إشارة يحملان في طيَّاتهما توتُّرًا ما يُؤدِّي إلى انعطاف جديد في مجرى الحدث، فكلُّ ذلك حركةٌ يستفيد منها الصِّراع في المسرحيَّة في الانتقال من حالٍ إلى حالٍ.

وقد أخَّر باكثير حديثه عن عُنصر الحوار وهو مُدرِكٌ لموقعه المهم من الجسم المسرحي، ليشعر أنَّ جميع العناصر السابقة قائمة عليه؛ لذا أتى به خلفها كما يأتي العمود الفقري خلف الجسم الآدمي، فالحوار كما يقولُ باكثير: "هو الذي يُوضِّح الفكرة الأساسيَّة ويقيم برهانها ويجلو الشخصيَّات ويفصح عنها، ويحمل عبء الصراع الصاعد حتى النهاية"[55].

ولكي يحملَ الحوار هذا العبء ويقومُ بدوره بنجاحٍ ينبغي أنْ يكون واقعيًّا؛ بمعنى: "أن يلتزم الكاتب حُدود الشخصيَّة المرسومة؛ فلا ينطقها إلا بما يتلاءم معها"[56]؛ أي: يتلاءم مع مستواها الثقافي والاجتماعي والنفسي، فلا يأتي على ألسنة شخوصه "بآراء وأفكار ومشاعر لا يمكن أنْ تصدر عنهم"[57].

ونرى باكثير يضع لهذا العنصر شرطًا دقيقًا لضَمان فاعليته في النص المسرحي، وهو أنْ يتضمَّن الحوار "تيارات نفسية"[58] يجب أنْ تلوح للقارئ في تضاعيف كلام كلِّ شخصية؛ لتدلَّ ليس فقط على مرادها المباشر ممَّا تنطق به، بل كذلك الحالة الشعورية المسيطِرة عليها حال تكلُّمها، تعفي بذلك عن الأوصاف التي لا يحسن بكاتب المسرحيَّة أنْ يتدخَّل بسَرْدِها لأحوال شُخوصِه كما عند كاتب القصة؛ ومن ثَمَّ نرى باكثير يجعل هذه الحيثيَّة حدًّا فاصلاً بين النجاح والفشل في عُنصر الحوار؛ ومن ثَمَّ في العمل المسرحي نفسه[59].

ورفض باكثير تمامًا اتِّجاه دعاوى واقعيَّة لغة الحوار إلى استخدام اللهجات العاميَّة، وحذَّر من غوائلها، واستطرد في بيان مَفاسِدها؛ سواء منها الخاصَّة في هذا الجنس الأدبي أو العامَّة في ضعضعة الهويَّة العربية[60]، لكنَّه رحَّب بمحاولات التقريب بين تلك اللهجات والعربيَّة الفصحى، بل كان أحد المشاركين في صياغة تلك المحاولات في بعض مسرحيَّاته.

ومن ناحية أخرى دعا أخيرًا إلى أنْ يكون النثر هو وسيلة الحوار المسرحي بدلاً عن الشعر، سواء من العمودي أو التفعيلي؛ على اعتبار "أنَّ النثر هو الأداة المثلى للمسرحيَّة، ولا سيَّما إذا أُرِيد بها أنْ تكون واقعيَّة"[61]، وهي دعوةٌ كان باكثير رائدًا فيها[62]، في وقتٍ كان الشعر هو الذي يسودُ الجنس المسرحي.

إنَّ باكثير في كتابِه هذا لم يكن بصَدَدِ التنظير لفنِّ كتابة المسرحيَّة أو نقده بقدر ما هو بسبيل مُكاشَفةٍ فنيَّة لبعض تجاربه وآرائه التي طبعتها وكوَّنتها تلك التجارب التي خاضَهَا بحماسٍ وجديَّة على تعدُّدها وتنوُّعها حول هذا الفن الذي ملك عليه كيانَه وحدَّد وجهته الأدبية منذ أنْ ثبتت قدَمَيْه على صفحة النيل التي أصبحت بعد برهة صفحةً جديدة في مسار حياته ككلٍّ؛ لهذا لا نجدُ في كتابه هذا تقسيمًا صارمًا لمادَّته، ولا سوقًا علميًّا أكاديميًّا لما يُورِدُه من معلومات، وإنما تُسيِّرُه مُقتَضيات فنيَّة خالصة يُحدِّدها مدى حُضور التجربة العمليَّة في نفسه، ولا نَراه يقفُ لدى عُنصر بنائي يُحدِّثنا به إلا بقدرِ ما يفيدُه فعليًّا في بناء المسرحيَّة أو نجاحها، وبقدر ما أهدَتْه منها التجربة العمليَّة التي مَرَّ بها في بعض أعماله المسرحيَّة؛ لذا نجدُه يردف كلَّ نقطةٍ أُورِدُها حول عناصر هذا الفن ومُكوِّناته بمثالٍ عملي من إحدى مسرحيَّاته يُدلِّل عليه، وليس معنى ذلك أنَّ باكثير يظنُّ أنَّ مسرحيَّاته تُعَدُّ مثالاً في بناء هذا الفن الأدبي، فهو يعترفُ بما طرأ على بعضٍ منها من عيوبٍ ونواحي قصور، مُحذِّرًا من تكرار الوقوع فيها[63]، وتلك ولا ريب مزيَّة تُحسَب له.

لقد كان باكثير ينظر إلى الأدب بشقَّيْه الشعري والنثري بوصفه وسيلة سامية تُؤدِّي إلى غايةٍ أسمى، تجدُ تلك الغاية ماثلة في كتاباته حينما ينظمُ قصيدة أو يُدبِّجُ مقالة أو يخلق حياة مسرحيَّة، حتى أصبحت عنده أشبه شيءٍ بالالتزام، التزام يشِعره بإنسانيَّة رسالة الأدب الذي يَراه "خير سفير بين الشعوب؛ لأنَّه يعكس روح الشعب الذي أنتجه ويُعطِي صورةً صادقة لا يتطرَّق إليها الزيف ولا التضليل، للشوط الذي قطعه في مضمار الحضارة، وللأوج الذي بلَغَه في معارج السُّموِّ الروحي من حيث إحساسه بمعاني الخير والحق والجمال.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.11 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.48 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.16%)]