عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 13-09-2021, 11:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي إسهامات باكثير النقدية المبكرة وتطورها

إسهامات باكثير النقدية المبكرة وتطورها


أحمد هادي باحارثة





علي أحمد باكثير شاعرٌ كبير وناثرٌ شهير، لا يُمارِي أحدٌ في ذلك بل الجميع يشهَدُ له بالنُّبوغ والعُلوِّ في كلٍّ من أعماله الشعريَّة والنثريَّة، وإنَّ إنتاجه الغزير في كلا المجالين لَخيرُ شاهدٍ له على ذلك، لكنَّني عزمت في هذه العجالة أنْ أسلُك مسلكًا عند باكثير قلَّ مَن التفت إليه؛ وهو كتاباته وآراؤه في النقد الأدبي، وإنَّ له لآراءً نقديَّةً سجَّلَها في كتابه "فن المسرحيَّة من خلال تجاربي الشخصية"، وكتابه المخطوط "شعراء حضرموت"، وفي مقدمات أعمال شعريَّة بعضها له كمقدمتي مسرحيَّة "روميو وجولييت" ومسرحيَّة "أخناتون ونفرتيتي"، ومقدمة ديوان الشاعر المصري صالح علي الشرنوبي، ثم في جمهرةٍ من المقالات والحوارات في صحف ومجلات مُتعدِّدة ولا سيَّما المصريَّة منها، وبطبيعة الحال كان بعض نقدِه مُوجَّهًا تجاه الشعر، وسائره - وهو الأكثر - مُوجَّهًا نحو النثر ولا سيَّما المسرحيَّة والرواية.

إنَّ باكثير كان ذا ثقافة مزدوجة جمعَتْ بين الاطِّلاع على كتب التراث التقليديَّة والكتابات المعاصرة، وكان لذلك أثرُه على نقده للشعر ورُؤيته له، وخيرُ مَن يروي لنا مكونات باكثير الثقافيَّة التقليديَّة في حضرموت هو ابن عمه وشريكه في المسيرة الأدبيَّة عمر بن محمد باكثير، وكان ممَّا قاله مُعدِّدًا ما قرآه معًا: "أمَّا القراءات في كتب العلم والأدب فقد قَرأنا كتبًا كثيرة في النحو والفقه، قرأنا في النحو "القطر" و"الشذور"؛ لابن هشام الأنصاري، وابن عقيل على الألفية، وفي الأدب قرأنا كتبًا كثيرة منها: "أدب الكاتب"، و"أمالي المرتضى"، و"الكامل"؛ للمبرد، وكثيرًا من مختارات البارودي، وكثيرًا من دواوين الشعراء؛ ديوان أبي تمام والبحتري وأبي الطيب المتنبي... بعد ذلك أُولِعنا بأدب العصر؛ مثل ديوان شوقي وحافظ، وشعراء العصر في ذلك الوقت كشعر ابن شهاب الحضرمي، وكتب المنفلوطي كـ"العبرات والنظرات"، و"جواهر الأدب"؛ للهاشمي وغير ذلك"[1].

فتلك هي الكتب التي شكَّلت أساسات باكثير الأدبيَّة، وخطَّت مسيرته الشعريَّة، وصبغت كثيرًا من آرائه النقديَّة، وكان باكثير ولوعًا باستِيعاب كتب التراث الحضرمي في الأدب وجمعها وانتقائها، حتى أنَّه قد يضطرُّ للانتقال بين بعض مُدن حضرموت على مشقَّة الانتقال حِينَها للحصول على بعض ما تناثَرَ من كتب ذلك التراث[2]، وربما نسخ بعضها بيده إن لم يتمكَّن من امتلاك أصلها؛ كنسخه لكتاب عبدالرحمن بن عبدالله باكثير في النقد والموسوم بـ"تنبيه الأديب بما في شعر أبي الطيب من الحسن والمعيب"[3]، وكان من عادته التعليق بقلمه على هامش ما يقرؤه من كتبٍ كتوضيح معنى كلمة أو نقد لفظة أو عبارة؛ ومن ذلك قوله هو عن نفسه أثناء قراءته لكتاب "الموازنة بين الطائيين"؛ للآمدي: "كتبت إذ ذاك ما عَنَّ لي من الملاحظات في خلال تصفُّحي لأوراقه"[4].

وقد عرف ذلك منه صديقه عمر باكثير حتى إنَّه عندما أعار له كتابًا من تأليفه قام بتقليبه بعد أنْ أعاده باكثير له متوقعًا لكتابته تعليقًا أو نقدًا في بعض صفحاته حسَب ديدنه، وقال: "قلبت أوراقه واحدة واحدة فلم أجدْه أحدث فيها شيئًا لا تعليقًا ولا ملاحظة اللهم إلا في آخرها"[5].

وكلُّ هذا يدلُّ على أنَّ علي باكثير كان قارئًا ناقدًا لما يطَّلع عليه دونما تهيُّب لنوعٍ ما بين يديه من كتاب أو مقام مؤلفه، وإنما كان رائده ما يقتنع به ويستصوبه من علم أو رأي.

لكنَّ باكثير على وفرة ما اطَّلع عليه كان يستشعِر قصور ثقافته ويحس بضرورة مدِّها بيَنابيع مستجدَّة ومصادر معاصرة، ومن ذلك الاطِّلاع على ما عند الآخر غير العربي من ثقافة، ولا سيما في الجانب الأدبي، ومن هنا عند وُصوله إلى مصر ودخوله جامعتها اختار الالتحاق بقسم اللغة الإنجليزيَّة من كلية آدابها، وفي ذلك يقول: "كانت ثَقافتي الأولى عربيَّة خالصة، وظلت كذلك حتى حضرت إلى مصر، فعزمت على أنْ أدرس الأدب الإنجليزي لما بلغني أنَّه غنيٌّ بالشعر الرفيع"[6].

وقد فتحت له هذه الدراسة آفاقًا جديدة لا في عالم الشعر وحسب، بل كذلك في رحاب النثر وسماء الفكر فاتَّسعت أعماله وتنوَّعت قضاياه وتعدَّدت اهتماماته، وولد حينذاك الأديب العربي علي أحمد باكثير.

النقد ضرورة في كلِّ شيءٍ؛ في الحياة، في العلم، في الفن، والشعر ليس استثناء؛ ففي النقد حكم يطمئنُّ به ذوو الاقتدار؛ لأنَّه ينصفهم ويحفزهم على مُواصَلة التجويد في إنتاجاتهم الأدبية، وفي النقد تفسيرٌ يفيد القارئ في اكتشاف زَوايا النص ويُحلِّق به في سماواته؛ ومن ثَمَّ يخلق علاقةً جيدة وعميقة بين المبدع وقارئه، وفي النقد توجيهٌ يستشفُّ منه المبدع بدوره هدى يرشده إلى حيث أحسن وحيث قصر به الشوط، ويفتح له آفاقًا في التفكير والسموِّ والإبداع، ومن هنا نَرى باكثير يُعبِّر عن اقتناعه الشَّديد بضَرورة النقد أو الانتقاد ومدى أهميَّته حيث يقول شعرًا[7]:
أَلاَ لاَ تَذُمُّوا الإِنْتِقَادَ فَإِنَّهُ
هُوَ الرُّشْدُ يَهْدِي كُلَّ مَن ضَلَّهُ الرُّشْدُ


وَلاَ يَبْلُغُ العِرْفَانُ أَوْجَ تَمَامِهِ
لَدَى أُمَّةٍ حَتَّى يَشِيعَ بِهَا النَّقْدُ


ولا شكَّ أنَّ باكثير يعني بالنقد هنا مَعناه العام الذي يشمَلُ جميع مَناحي الحياة، والذي لا شكَّ فيه أيضًا أنَّ الشعر جزءٌ من مُقوِّمات حَياتنا، ولا سيما ضَرورات عيش الإنسان على هذه البسيطة، أليس هو القائل[8]:
الْعَيْشُ لَوْلاَ الحُسْنُ لَيْسَ بِسَائِغٍ
وَالعَيْشُ لَوْلاَ الشِّعْرُ لَيْسَ بِحَالِ


لكن ما هو هذا الشعر الذي يقصده باكثير وتتعلَّق به النفوس المحلقة وما مصدره؟ وما غايته؟ وكيف يتأتَّى للشاعر نظمه أو قوله؟ إنَّه شيءٌ يُلهَمه الإنسان إلهامًا يريدُه الإنسان، فلا يتأتَّى له ثم إذا هبَّت نسائمه عليه لا يسعه إلا الخُضوع له والاستسلام لدَواعيه، يقول باكثير[9]:
يَا مَلِيكَ القَرِيضِ حُلَّ لِسَانِي
وَمُرِ الشِّعْرَ أَنْ يُطِيعَ جَنَانِي


وَارْتَقِبْ بَعْدَ ذَاكَ مَا سَوْفَ آتِي
كَ بِهِ مِنْ مُحَسِّنَاتِ المَعَانِي


فمليك القَريض ليس إلا الإلهام الذي لا بُدَّ من حُضوره لينطلق لسان الشاعر ببديع الكلمات التي تحملُ بدائع المعاني وروائع الصور، وهو لا يحضر إلا بعد طُول معاناة، وبعد أنْ يرى إنسانه الشاعر مهيَّأً له تهيُّؤًا صادقًا ناتجًا عن صِدق تجربةٍ خاضَها أو شعر بها، وكان أبعد ما يكون عن التكلُّف.

يقول باكثير في سِياق حديثِه عن الشاعر الشرنوبي: "نجد الشاعر في أحسن حالاته حينما يُسجِّل خواطره وتأمُّلاته... إذ تُواتيه الصور الرائعة وتنهال عليه المعاني الدقيقة في سُهولةٍ، وتعلو نغمته البيانيَّة إلى مستوى رفيع، وإن دلَّ ذلك على شيءٍ فإنَّه يدلُّ على طُول مُعاناته لهواجس الشكِّ واليقين وصِدق تجربته في ذلك كله"[10].

إنَّ باكثير هنا يشيرُ إلى أهمِّ عناصر التجربة الشعريَّة وهي الإحساس والمشاعر التي إنْ ألهبتها طُول المعاناة الناتجة عن طور مُعاشَرتها والتأمُّل فيها، والتي إنْ عمقها الصدق؛ أي: صِدق انطِلاقها من نفس الشاعر غير مُقلِّد ولا يتكلَّف، وإن كان ذلك كله فإنَّ تلك المشاعر والأحاسيس تنفجرُ على لسان الشاعر معانيَ بديعة وصورًا رائعة، ولا سيَّما إذا ساعَدَه في ذلك حُضورٌ إلهام وصحَّة طبع حتى يسترسِل ويطول نفَسُه فيما يقصدُ إليه من قول.

لكنَّ باكثير يشيرُ إلى عنصرٍ آخَر مهم لخلق الدافع على قول الشعر وإبداعه وهو الفكر؛ حيث يقول[11]:
سَمَاءُ الفِكْرِ إِنْ تُظْلِمْ بِلَيْلٍ
فَشَمْسُ الشِّعْرِ يَلْحَقُهَا المَغِيبُ


وهذا الفكر وإنْ كان نتاجًا عقليًّا إلا أنَّه يختلطُ بعالم النفس وما تختزنُه من أحاسيس متراكمة ومبهمة في بعض نواحيها؛ ومن ثَمَّ تكمن أهميَّة العقل والفكر من عمليَّة الإبداع أنَّه "يشرفُ على الأحاسيس وينظمها، ولولاه لكانت خليطًا مضطربًا لا تسوده وحدة ولا يسوده نظام، فهو الذي يؤلف بين شَتِيتها ويجمع بين مَنثُورها ويُكوِّن بناءها"[12]، فوظيفةُ الفكر إشرافيَّة لبناء العمل الشعري، لكنَّه لا يتدخَّل في صميمه الذي ينفردُ فيه العاطفة والمشاعر الوجدانية؛ ومن ثَمَّ يلجأ الشاعر إلى معادل يعطي لشعره خاصية التحليق، وهو الخيال الذي يصبح هو رائد الشاعر في اختياره لصوره وللغته الشعريَّة التي يجبُ أنْ تنأى عن المنطق والوضوح الخالص الذي قد يفرضُه الحضور المنفرد للفكر المقيَّد بسلاسل مصنوعة من كلِّ ما هو واقعي وحقيقي، يقول باكثير[13]:
عَيْشُ الْحَقِيقَةِ لا يَسُوغُ مَذَاقُهَا
لِلْمَرْءِ مَا لَمْ يَمْتَزِجْ بِخَيَالِ


لذا نراه مرة أخرى يخاطب حافز الإلهام بقوله[14]:
يَا سَمَاءَ الخَيَالِ طربي حَتَّى
تَرْتَقِي بِهْ عَنْ هَذِهِ الأَكْوَانِ


ثُمَّ يَنْفَكُّ مِنْ سَلاسِلِهِ الفِكْ
رُ فَتَجْرِي عَدْوًا بِغَيْرِ عِنَانِ


وبهذا يكون باكثير قد أشار نثرًا وشعرًا إلى أهمِّ عناصر بناء الشعر وخلق تجربته، بعيدًا عن التنظير المباشر الذي يُعنَى به النُّقَّاد المنشغلون بالنقد، وإنما قدَّمَها لنا كإشاراتٍ وخواطر، لكنَّه مع ذلك قال أهم ما يمكن أنْ يُقال في هذا الصدد قولاً تدعمه التجربة والممارسة الشخصيَّة ومُعاناة نظْم الشعر، وخُلاصة قوله: إنَّ الشعر عمادُه المشاعر والأحاسيس التي تُلهِبُها مُعاناة تجربة صادقة عميقة، ينظمها ويبنيها الفكر، ويرسلها ويحلق بها الخيال؛ فينتج عما ذلك جميعه المعاني الحسنة الدقيقة والصورة الرائعة.

ولكن ماذا عن رأيِ باكثير في موسيقا الشعر الذي يُعَدُّ واحدًا من أبرز عناصر الشعر أو هو أبرزها على الإطلاق؟ ما هو رأيه في الوزن في البحر في القافية؟ يرى باكثير أنَّ التزام القافية في الشعر يعدُّ تقليدًا فنيًّا عرف به العرب اصطنَعُوه اختيارًا، ولم تلزَمْه عليهم ضَرورة في لغتهم تقتضي ذلك التقليد، أمَّا "اللغة العربية فهي لغة طيعة تتَّسع لكلِّ شكلٍ من أشكال الأدب والشعر"[15].

هذه النَّظرة المرنة أو المعتدِلة نحو اقتِران الشعر العربي بالقافية أعطَتْ للمسألة صِبغة بشريَّة قابلة للأخْذ والرد والتعديل دُون إضفاء أي قَداسة لها، وإنما هو تقليدٌ نعتزُّ به لكن لا نقدسه؛ ومن ثَمَّ فإنَّ هذه النظرة أو الرؤية نحو مسألة الوزن في الشعر العربي الموروث ساعد باكثير على حريَّة التفكير في التجديد في أمر الوزن والقافية، فضلاً عن تجربة باكثير الشعريَّة التي أثبتت له عُيوب ذلك التقيُّد بالقافية؛ كالرتابة والجمود وتجزئة الصورة، سواء أدرك ذلك بِحُكم تجربته كما ذكرنا أو بتأمُّله لنصوص الشعر العربي، إلا أنَّ السبب المباشر الذي أطلق باكثير لأجله محاولته التجديديَّة في موسيقا الشعر العربي اقترن بحاجتَيْن عند باكثير: أولهما اطِّلاعه على نماذج الشِّعر الإنجليزي، وما صاحَب ذلك من تحدِّيه لأستاذه الإنجليزي، والآخَر تعلُّقه بفنِّ المسرحيَّة الشعريَّة الذي أبرز عيوب التقيد بالوزن التقليدي، أو أنَّ هذا الوزن التقليدي وقافيته كان يَعُوق انطِلاق عنصر الحوار في هذا الفن الذي لم تكن أمَّة العرب تعرفه، ولعلها إذا عرفته تخلَّت بصورة مبكرة عن هذا النمط الوزني لدَى معالجتها لذلك الفن، وارتأت له صورة وزنيَّة أخرى كما، فعلوا مع فنون أخرى قائمة على الوزن كالموشَّح ونحوه.

إذًا قد كان دافع باكثير للتفكير في إيجاد نمطٍ وزني جديد في الشِّعر العربي مزدوجًا الاحتذاء بالنموذج الأجنبي بقصْد إثبات سعة لغته العربية لطريقته، ثم إيجاد حلٍّ يُساعد على مرونة عنصر الحوار في المسرحيَّة الشعريَّة التي هي بدورها فنٌّ أجنبي استوعبَتْه اللغة العربيَّة، وقد كان باكثير مُدرِكًا لكونه قد أدخل على لغته وأدبها لونًا جديدًا في الموسيقا أو الوزن ما زال يُعالِجه ويقومُ على ميلاده حتى استقرَّ على يديه على حسب ما هو معروفٌ بأهمِّ خصائصه؛ أي: قيامه على التفعيلة وليس البحر كوحدةٍ نغميَّة، وهذه التفعيلة لا حدَّ لتكرارها في السطر، وغير مقيد ذلك السطر في نهايته بقافيةٍ محددة أو موحدة بين السطور.

يقول باكثير في تعريفه للشعر على الوجه الوزني الجديد: "هو المستند إلى التفعيلة لا البيت كوحدة نغميَّة فتتلاحق التفعيلات... فقد تشغل ما كان يشغله بيت واحد أو أكثر أو أقل، شأنها في ذلك شأن الجملة النثرية"[16].

وقال عنه بأنَّه: "شعرٌ فيه تحرُّر وانطلاق، وليس مقيدًا بإسار القافية"[17].

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.48 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.85 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.13%)]