عرض مشاركة واحدة
  #699  
قديم 27-06-2008, 06:12 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .... مثل نوره جل جلاله
وهذا النور المسند إلى الله عز وجل إسناد المفعول إلى فاعله، والذي هو صفة لأعيان قائمة هو ضد الظلمة؛ وكلاهما مجعول لله تعالى؛ كما أفاد ذلك قوله تعالى:﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ(الأنعام: 1)
وهو- كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته- ضربان: دنيوي، وأخروي: أما الأخروي فهو ضرب واحد؛ ومنه قوله سبحانه:
﴿يسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم(الحديد: 12)
وأما الدنيوي فهو ضربان: أحدهما: معقول بعين البصيرة؛ وهو ما انتشر من الأمور الإلهية كنور العقل، ونور الإيمان، ونور القرآن، ومنه قوله تعالى:
﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ(المائدة: 15)
والثاني: محسوس بعين البصر؛ وهو ما انتشر من الأجسام النيرة كالشمس والقمر والنجوم، ومنه قوله جل وعلا:
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ﴾(يونس: 5)
فثبت مما تقدم أن الأنوار ثلاثة:
أولها: النور الذي هو وصف من أوصاف الله جلا وعلا، ومنه اشتق له اسم النور، الذي هو أحد أسمائه الحسنى.
وثانيها: النور الذي هو حجابه جل جلاله، لو كشفه، لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.. تأمل ذلك في قوله تعالى:
﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً(الأعراف: 143)
وثالثها: النور الذي هو خلق من خلق الله سبحانه، وهو نور الوجود كله، وهو المراد بقوله جل وعلا:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وإلى هذه الأنوار الثلاثة أشار الشيخ ابن تيمية بقوله:النصُّ في كتاب الله، وسنةُ رسوله قد سمَّى الله نورَ السماوات والأرض، وقد أخبر النصُّ أن الله نورٌ، وأخبر أيضًا أنه يحتجب بالنور.. فهذه ثلاثة أنوار في النص .
وقد علم مما تقدم أن كون الله سبحانه نور السموات والأرض يعني: أنه سبحانه في نفسه نور؛ لأنه سبحانه، لو لم يكن في نفسه نورًا، فكيف يكون منوِّرًا لغيره ؟ وليس غريبًا بعد هذا أن نجد كثيرًا من الناس يعترضون على تسمية الله تعالى نفسه نورًا، وتسمية رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام له بالنور؛ وذلك لأنهم لم يميزوا بين نور ، ونور .
قال عبد الكريم الخطيب في كتابه تفسير القرآن للقرآن: ونحن إذا نظرنا اليوم بعين العلم، رأينا الوجود كله نورًا. فالأجسام جميعُها مكونة من ذرَّاتٍ. والذرَّاتُ هي- كما عرف العلم- نورٌ من نورٍ. فكل ذرة مجموعة من الشموس، تدور في فلك النواة، التي للذرة. فهذه الأجسام المعتمة، وغير المعتمة في هذا الكون الفسيح هي نورٌ مُجَسَّد مُتكاثِفٌ، إذا انْحَلَّ إلى ذرَّاتٍ، كان كُتلاً من النور الوهَّاج.
فالعالم الماديُّ- كما يبدو في مرآة العلم الحديث- هو شُموسٌ، تستمد نورها من نور الله، الذي أضاء الوجود كله. ومع ذلك فهو بالإضافة إلى نور الله جل جلاله ظلام، لا تتجلَّى حقيقته إلا على ضوء نور الله سبحانه؛ كما تتجلَّى حقائق الأشياء، التي تقع في محيط المشكاة، وما يشعُّ المصباح الذي فيها من أضواء .
وأضاف قائلاً: ولا بد من الإشارة إلى أن التعبير عن قيوميَّة الله سبحانه وتعالى وسلطانه القائم في الوجود بالنور؛ إنما هو لما في النور من لطف، بحيث لا يتجسَّد أبدًا؛ بل إنه في هذا على عكس الأشياء كلها. فالأشياء اللطيفة- كالزجاج الرقيق مثلاً- كلما علت طبقة منه طبقة أخرى زادت كثافته، ثم لا تزال شفافيته تقل، كلما تكاثرت طبقاته، حتى يصبح جسمًا معتمًا.. أما النور فإنه كلما، تضاعفت أشعته، ازداد شفافية وقدرة على كشف المرئيات، التي يقع عليها، من دون أن يشكل حيِّزًا في المكان، الذي ينيره، أو يحدث خلخلة في الهواء.
ومن جهة أخرى فإن النور- مع شفافيته ومع زيادة هذه الشفافية كلما كثر وقوي- هو من أكثر ظواهر الطبيعة سرعة؛ بحيث لا يكاد يقيَّد بزمن، فالشعاعة من الضوء تنتقل من طرف الأرض إلى طرفها الآخر في لمَحة بصر، لا تتجاوز جزءًا من الثانية.
فالنور- كما ترى- لا يتحيَّز في مكان، ولا يكاد يتقيد بزمن، والله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان ، ولا يحده زمان.. فإذا كان الله نور السموات والأرض، كان معنى هذا أنه- سبحانه وهو القيوم على الوجود- ليس حالاً في الموجودات، ولا متحيِّزًا فيها، ولا محجوزًا في مكان منها دون مكان .
نخلص من ذلك كله إلى أن نور الله سبحانه هو الذي يمسك هذا الوجود على نظامه، الذي أقامه الله تعالى عليه؛ إذ على هذا النور يدور كل موجود في فلكه متناغمًا متجاوبًا مع دورة الموجودات كلها في فلك الوجود. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ(النور: 40). وقوله تعالى:
﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ(المائدة: 15)
وفي المسند الجامع لأبي الفضل النوري عن عبد الله بن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل.
وعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى:﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِكل ما أودعه الله جل جلاله في الموجودات من سنن، وما ركَّبَه في المخلوقات من قوى، وما بعث في الناس من رسل، وما أنزل إليهم من كتب ودلائل، ففي كل هذا نور من نور الله جل وعلا!
ثالثًا- وبعد أن جلا الله سبحانه هذا الأفق المترامي لنوره، الذي يضيء الوجود كله، شرع في ضرب مثل لهذا النور العظيم، يقربه إلى العقول، ويدنيه من المدارك والتصورات، ويخرجه من عالم ما وراء الحس إلى عالم المحسوس؛ وإلا فإن نور الله تعالى في ذاته لا يمكن لبشر أن يتصوره حقيقة، أو خيالاً؛ لأنه- كما قدمنا- صفة من صفاته سبحانه. وكما لا تدرك ذات الله جل وعلا، فكذلك لا تدرك صفاته. وأقرب مثل لهذا النور، الذي لا يعرف كنهه أحد، ولا يدرك سره أحد في تصورنا، هو النور المنبعث من مصباح في زجاجة درِّيَّة، داخل مشكاة، هي أشبه بالوجود، الذي يستضيء بنور الله؛ وذلك قوله تعالى:
﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ ﴾
وظاهر قوله:﴿مَثَلُ نُورِهِأن يعود ضمير الكناية على الله سبحانه، وليس في الكلام ما يدل على أنه يعود على المؤمن، أو على القرآن الكريم، أو على محمد صلى الله عليه وسلم.
فالذي تدل عليه الآية صراحة أن المراد بـ﴿نُورِهِ: نورُ الله جل وعلا، المضافُ إليه إضافةُ الصفة إلى الموصوف. أو إضافةُ الاسم إلى المسمَّى، وأن التمثيل هو تمثيل لهذا النور، الذي يضيء الوجود كله، وليس تمثيلاً لنوره، الذي ألقاه سبحانه في قلب المؤمن، أو في قلب محمد صلى الله عليه وسلم، أو لنوره، الذي هو وحيُه المنزل في كتابه الكريم.
روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما-قوله في مناسبة نزول الآية: إن اليهود قالوا: يا محمد ! كيف يخلص نور الله تعالى من دون السماء ؟ فضرب الله تعالى ذلك مَثَلاً لنوره .
وأما على ما روي عن أُبَيّ أنه قرأ:﴿مَثَلُ نُورِ المُؤْمِنِ ﴾.أو:﴿مَثَلُ نُورِ مَنْآمَنَ بِهِ، فيكون الضمير عائدًا على المؤمن، ويكون التمثيل تمثيلاً لنور المؤمن. وهذا التأويل لا يجوز على القراءة المشهورة.
ومن أغرب ما قرأت في تفسير قوله تعالى:﴿مَثَلُ نُورِهِ ﴾ تفسيرًا للمرحوم الشيخ عبد الرحمن حسن حبنَّكة الميداني في كتابه( أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع )، قال فيه:مَثَلُ بعض نوره، الذي تستهدون به من خلال تدبر آياته، وما تشعُّه في قلوب المؤمنين، الصادقين في الطلب والبحث والتدبر. أو: نَموذجُ نورِه ممَّا يدرك الناس منه. وهذا النموذجُ هو بعضُ نور الله العظيم .
الله تعالى يقول:﴿مَثَلُ نُورِهِ، والشيخ- رحمه الله- يقول: مَثَل بعض نوره . أو: نموذج نوره ممَّا يدرك الناس منه. وهذا النموذج هو بعض نور الله العظيم .
رحم الله هذا الشيخ الجليل، وجعل مثواه الجنة ! فلست أدري من أين أتى بلفظ ( بعض )، وحشره بين لفظ ( مَثَلٍ )، ولفظ ( نُورِهِ ) ؟ وهل في الكلام ما يدل على هذا البعض ؟
ثم من أين أتى بلفظ ( نموذج ) ؟ وكيف يكون تفسير قوله تعالى:﴿مَثَلُ نُورِهِ بـ( نموذح نوره ) مقبولاً، أو مستساغًا عند من يتحدث عن صور من أدب القرآن الرفيع ؟
وليت شعري ماذا يقولون في قول الله تعالى:
﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾(التوبة: 32) ؟
أيقولون: يريدون أن يطفئوا بعض نور الله ؟ أو نموذج نور الله ؟ أو يقولون: يريدون أن يطفئوا نور الله الذي ألقاه في صدر المؤمن أو قلبه ؟ أم ماذا يقولون، وإضافة النور إلى الله جل وعلا ظاهرة ظهور هذا النور ؟
ورحم الله النجاشي، الذي فهم ببصيرته النافذة ما لم نفهمه نحن المسلمون. لقد فهم أن الإنجيل والقرآن الكريم يخرجان من مشكاة واحدة، وهما نور من نور الله جل وعلا، فقال مشيرًا إلى ما سمع من كلام الله: إن هذا، والذي جاء به عيسى ليخرج منمشكاة واحدة.
﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾.
واختلفوا في هذا التشبيه: أهو تشبيه جملة بجملة، لا يقصَد فيها إلى تشبيه جزء بجزء، ومقابلة شيء بشيء، أو هو ممَّا قصِد به ذلك ؟ والأول هو الأحسن، وعليه يكون المعنى: مَثَلُ نورِ الله تعالى كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر.
فالمشبَّه هو مثل نور الله جل وعلا. والمشبّه به هو المصباح في زجاجة داخل المشكاة. وبين المشبَّه، والمشبَّه به وجْهُ شَبَهٍ، دلَّت عليه كاف التشبيه.
والقاعدة في التشبيه أن يشبه الأدنى بالأعلى في مقام المدح، وأن يشبه الأعلى بالأدنى في مقام الذم. وكذا في مقام السلب؛ ومنه قوله تعالى:
﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾(ص: 28)
أي: في سوء الحال. أي: لا نجعلهم كذلك.
وقد اعترض على ذلك بقوله تعالى:﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍفِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾؛ فإنه شُبِّهَ فيه الأعلى بالأدنى، لا في مقام السلب.
والله قد ضرب الأقلَّ لنوره ** مثلاً من المشكاة والمصباح
وأجيب عنه بأنه للتقريب إلى أذهان المخاطبين؛ إذ لا أعلى من نوره سبحانه وتعالى، فيشبه به. وقد قيل: يمكن أن يكون المشبه به- هنا- أقوى من المشبه؛ وذلك لكونه في الذهن أوضح؛ إذ الإحاطة به أتم.. فتأمل ذلك !
وقد دل وجود لفظ ﴿مَثَل في طرف المشبه، دون وجوده في طرف المشبه به على أن المشبه ليس هو ذات نور الله سبحانه؛ وإنما هو مَثَلُهُ المطابقُ له في تمام أوصافه، المشارِ إليها بقوله تعالى:﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وهو منتزع من مجموع هذه الصفات، وأن المشبه به هو نور المصباح داخل المشكاة. والأول موجود معلوم في الذهن، والثاني موجود معلوم خارج الذهن.
ولهذا لا حاجة بنا إلى تقدير لفظ ﴿مَثَل عقب كاف التشبيه؛ كما ذهب إليه المفسرون، فقالوا: التقدير:﴿كَمَثَلِ مِشْكَاةٍ. وكذلك لا حاجة إلى تقدير مضاف محذوف عقب الكاف؛ كأن يقال:﴿كَنُوْرِ مِشْكَاةٍ؛ لأن المشبه به ليس هو نور المشكاة وحدها؛ وإنما هو ما اجتمع من نور المشكاة، ونور المصباح، ونور الزجاجة، ونور الزيت؛ ولهذا وصفه الله تعالى بقوله:
﴿نُوْرٌ عَلَى نُوْرٍ.
ومن اللطائف البديعة أن النور، حيثما وقع في القرآن، وقع مفردًا، خلافًا للظلمة فإنها، حيثما وقعت، وقعت مجموعة. ولعل السبب- على ما قيل- هو أن النور واحد؛ كما أن الله تعالى واحد، وأن الظلمة متعددة؛ كما أن الآلهة الباطلة متعددة. تأمل ذلك في نحو قوله تعالى:
﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(البقرة: 257)
وقيل: المِشْكَاةُ هي الكُوَّةُ غير النافذة بلغة الحبشة، يوضع فيها المصباح، فتحصر نوره وتجمعه، فيبدو قويًا متألقًا، وهذا هو وجه تخصيصها بالذكر دون غيرها. ومنهم من فرق بين الكُوَّةُ والمِشْكَاةِ؛ كقول أحدهم يمدح آخر:
نورُ حَقٍّ بنفسه قامَ، مَا احْتا ** جَ إلى كُوَّةٍ، ولا مِشْكاةِ
فدلَّ ذلك على أن الكُوَّةَ أعمُّ من المِشْكَاةِ، وكلُّ مِشْكَاةٍ كُوَّةٌ، وليس كلُّ كُوَّةٍ مِشْكَاةً. وأصلُ المِشْكَاة: الوِعَاءُ يجعل فيه الشيء؛ ومنه قول الشاعر:
كأن عينيه مشكاتان في جحر
وقيل: المشكاة: صندوق زجاجي، يوضع فيه المصباح.
وقال الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه: ما وقع في القرآن من نحو المِشْكاة، والقِسْطاس، والإستبرق، والسجِّيل، لا نُسَلِّم أنها غيرُ عربية؛ بل غايتُه أنَّ وَضْعَ العرب فيها وافق لغةً أخرى كالصابون، والتنّور؛ فإن اللغات فيها متفقة .
وزعم بعض أهل المعاني: أن التشبيه في هذا التمثيل هو من التشبيه المقلوب، وأن المعنى: مَثَلُ نوره كمصباح في مشكاة؛ لأن المشبه به هو الذي يكون مَعْدِنًا للنور ومَنْبَعًا له؛ وذلك هو المصباحُ، لا المِشْكَاةُ. وما تقدم من تفسير لمعنى المِشْكَاةِ يدل على أنها هي الوِعَاءُ، الذي يجمع النور، ويجعله قويًا، وبدونها يبدو ضعيفًا عاجزًا عن كشف المرئيات؛ ولهذا كانت أحقَّ بالتقديم من المصباح. وهذا هو أحد أوجه الإعجاز البياني في هذه الآية الكريمة.
ويتضح لنا ذلك، إذا علمنا أن المرادَ بالمِشْكَاِة الذاتُ الإلهية المقدَّسة مَعْدِنُ الأنوار كلِّها، ومَنْبَعُها، الذي لا ينفد. تأمَّل ذلك في قول النجاشي، الذي تقدَّم ذكره: إن هذا، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة .. ثم تذكَّر أن ضارب المثل هو الله جل وعلا، وفي القرآن أمثلة كثيرة ضربها الله تعالى لصفاته، التي لا تشبهها صفة، فضلاً عن أن تماثلها..
﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾(الروم: 27) ، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾(الشورى: 11)
أما المصباح فهو السراج، وأصله من الضوء، ومنه الصبح.وما انعكس من شعاعه وسطوعه على الأجسام الصقيلة المعتمة هو نوره. وقد شُبِّهَ به مَثَلُ نورِ الله جل وعلا، في الوضوح، والظهور، والإنارة، والتنوير، والهداية.
وكلا النورين: مَثَلُ نور الله جل وعلا، ونورُ المصباح يوصف بأنه نار ونور. حكى الراغب الأصفهاني في ( المفردات في غريب القرآن ) عن بعضهم قوله: النار والنور من أصل واحد، وكثيرًا ما يتلازمان؛ لكن النار مَتاع للمقوين في الدنيا، والنور مَتاع لهم في الآخرة. ولأجل ذلك استعمل في النور الاقتباس؛ كقوله تعالى:
﴿انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾(الحديد: 13) “.
والمراد بالنار- هنا كما ذكرنا سابقًا- النار الصافية، التي كلَّم الله تعالى بها موسى عليه السلام. فمِثْلُ هذه النار يقال لها: نارٌ ونورٌ، بخلاف النار المظلمة؛ كنار جهنم. فتلك لا تسمى نورًا. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:
﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ*فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾(النمل: 7- 9)
جاء في التفسير عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنالمراد بقول الله تعالى﴿مَنْ فِي النَّارِ: الله جل جلاله. وأن المراد بالنار: نوره سبحانه.وأن المراد بقوله تعالى:﴿وَمَنْ حَوْلَهَا: الملائكة.
هذا قول ابن عباس، وليس قول زيد، أو عبيد حتى يعترض عليه
يتبـــــــــــــع
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.53 كيلو بايت... تم توفير 0.60 كيلو بايت...بمعدل (1.47%)]