عرض مشاركة واحدة
  #183  
قديم 05-04-2008, 09:40 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

مَنْ عَلَّم آدم

د / حسين رضوان اللبيدي(1)
لقد دأب أعداء الإسلام على مهاجمته من خلال التشكيك في لغة الوحي، وقد ذكر ذلك في القرآن الكريم وها هم يعاودون الكرة، ولكن في هذه المرة من خلال عملاء لهم من المنتسبين إلى الإسلام، فظهرت فتنة الشعر الجاهلي وفتنة الآيات الشيطانية ومفهوم النص يريدون بها أن يوحوا لعقول البسطاء غير الراسخين في العلم بأن لغة القرآن أو منطوقهقابل للتغير في الزمان والمكان، بل قابل للنقض والإبرام كما هو في أي نص أدبي من إنتاج البشر، حتى يخرجوا النص القرآني من جانب الوحي الإلهي إلى جانب الوضع الإنساني، بمعنى أن يجعلوه كلام بشر، ولكن هيهات لهم أن ينجحوا في ذلك، لأن الحق سبحانه وتعالى جعل في كتابه آيات وفي كونه آيات، وجعل العقل دليلاً يستطيع أن يصل إلى الحق والحقيقة وهذا العلم دليلٌ على ذلك، وهذا البحث يحتاج إلى إمعان فكر لأنه بلغة علمية رصينة ونتيجة أبحاث علمية متينة.
ولأن الكمال لله والعجز من شيمة البشر، فإني أعتذر للقارئ المفكر من قصور قد يجده في سياق البحث ولكن ليكن هذا البحث بداية أعمالعلمية موسعةتشترك فيه مجموع من العقول الباحثة عن الحقيقة المجاهدة في سبيل إعلاء كلمة الحق بالفكر والعلم ومن تعصب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
خلق أعداء الوحي (القرآن) أفكاراً جديدة تتمثل في اتجاهين:
1) ـ اتجاه يشكك في الإسناد المتمثل في الشعر الجاهلي كمرجع للبيان العالي وللإعجاز البياني، ويقولون إن الشعر الموجود في بداية نزول الوحي شعر مزيف منسوب للشعر الجاهلي، وهم يريدون بذلك أن يهدموا المرجع للإعجاز البياني في اعتقادهم، وإذا هدموا المرجع هدموا إعجاز النص المرسل بالوحي في اعتقادهم.
2) ـ اتجاه آخر يقول بأن النص المرسل من جنس البشر ولغة البشر اصطلاحية بشرية أو تطورية نشأت بالصدقة ثم بالاصطلاح البشري البحت يريدون أن يقولوا أن النص المرسل قابل للتغير في الزمان والمكان، ومدلولاته قد تعطي مفاهيم في زمان غير الذي تعطيه في زمان آخر، وهذه الفرية تهدم الإعجاز والثبات والعالمية للنص المرسل بالوحي. (ملحوظة: المقصود بالنص المرسل بالوحي هنا القرآن الكريم المعجزة الخالدة)، ومع اشتراك أصحاب هذه الاتجاهات في هدف واحد وهو الإيحاء ببشرية النص ولأنه بشري فهو قابل للنقض والإبرام والتغير في الزمان والمكان. ومع ذلك فوسيلة الوصول إلى ذلك الاتجاه الأول تختلف بل تتناقض مع وسيلة الاتجاه الثاني.
فالاتجاه الأول يعتبر أن اللغة وصلت إلى قمة مجدهاوبيانها عند نقطة معينة، وبعدها حدث الانهيار والضعف، وعند هذه النقطة يكون الإسناد والقياس والمرجعية، ولأن هذه النقطة مفقودة فالإسناد ضعيف.
والاتجاه الثاني يقول العكس بأنه لا إسناد ولا قمة بل اللغة تتطور إلى الأصلح دائماً وأبداً، فهي مع الإنسان في حركته في الزمان والمكان، وما كان مبيناً معجزاً في وقت لهو غير ذلك في وقت آخر، بل قد تختلف الدلالة بالكلية من زمان إلى زمان بل ومن مكان إلى مكان.
ولأن هذه القضايا من تلبيس إبليس فإن الرد العلمي هو خير وسيلة لمنع الآثار المدمرة لهذه الفتن الشيطانية، فهيا بنا مع العقل والعلم مع الفكر الهادئ لنصل إلى الحقيقة بإذن الله.
العقل هو أداة التكليف وهو ميزة بشرية عالية، وهو لطيفة ربانية ميزت جنس الإنسان عن بقية المخلوقات، وهو موجود غير محسوس، وهو مدرك بآثاره الواضحة، والتي منها الفرق بين من له عقل ومن لا عقل له، وحتى هذا الفرق لا يدرك إلا به، وهو اللطيفة التي بها يفهم الحس ويتوصل به إلى نتائج ذات معنى من مقدمات متعددة، وهو المقباسالمخترع المبدع وهو هبة من الله للإنسان تكليفاً وفي غيابه يسقط التكليف وبه يتمايز المكلفون. ولكي تتواصل العقول كان لا بد من لغة فيها بيان من خلالهاتتلاقح الأفكار لتولد المعاني، والمعاني الجديدة ومن خلاله تتواصل المعاني الداخلية من فرد إلى فرد، ومن أمة إلى أمة وبقدر العقول تكون درجة ذلك البيان، وهذه اللغة وذلك البيان علم والعلم يحتاج إلى معلم فمن علم الإنسان؟ الإجابة أبواه وأساتذته وبتسلسل القضية حتى آدم يسأل العقل من علم آدم؟ وتسمع الإجابة من رب آدم:)وعلم آدم الأسماء كلها .. ([الآية 31 سورة البقرة].
ومن هنا بدأت قضية اللغة: أتوفيقية هي أم اصطلاحية؟ بمعنى هل هي إلهام من الله أم من تواضع البشر؟ ولهذه القضية تاريخ طويل فهيا بنا في رحلة مع القضية عبر الزمان.
نشأة اللغة:
هناك أربع نظريات في نشأة اللغة هي:
(النظرية الأولى)إلهام إلهي هبط على الإنسان فعلمه النطق وأسماء الأشياء وذهب إلى هذا الرأي:
أ ـ في العصور القديمة:الفيلسوف اليوناني هيراكليت، ب ـ في العصور الوسطى: ابن فارس، ج ـ في العصور الحديثة: الأب لامي والفيلسوف دوبونالد. قال ابن فارس(2).
أقول: إن لغة العرب توفيق ودليل ذلك قوله تعالى: )وعلم آدم الأسماء كلها (فكان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها وهي هذه التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار وأشياء ذلك من الأمم وغيرها. وعن مجاهد قال: علمه اسم كل شيء، وقال غيرهما: إنما علمه أسماء الملائكة، وقال آخرون: علمه أسماء ذريته أجمعين. فإن قال: أفتقولون في قولنا سيف وحسام إلى غير ذلك من أوصافه أنه توفيق حتى لا يكون شيء منه مصطلحاً عليه؟ قيل له: كذلك نقول، والدليل على صحة ما نذهب إليه إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثم احتجاجهم بأشعارهم، ولو كانت اللغة، واضعة واصطلاحاً لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأولى منا في الاحتجاج لو اصطلحنا على لغة اليوم ولا فرق.
ولعل ظاناً يظن أن اللغة التي دللنا على أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة وفي زمان واحد. وليس الأمر كذلك بل وفق الله جل وعز آدم عليه السلام على ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه وانتشرت من ذلك إلى ما شاء الله، ثم علم بعد أدم عليه السلام من عرب الأنبياء صلوات الله عليهم نبياً نبياً ما شاء أن يعلمه، حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فآتاه الله عز وجل من ذلك ما لم يؤت أحداً قبله، تماماً على ما أحسنه من اللغة المتقدمة، ثم قر الأمر قراه فلا نعلم لغة من بعده حدثت. فإن أخطأ أحد في اللغةوجد من نقاد العلم من ينقيه ويرده.
ونقطةأخرى أنه لم يبلغنا أن قوماً من العرب في زمان يقارب زماننا أجمعوا على تسمية شيء من الأشياء مصطلحين عليه، فكنا نستدل بذلك على اصطلاح كان قبلهم. وقد كان من الصحابة رضي الله عنهم ـ وهم البلغاء والفصحاء ـ من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاء به وما علمناه اصطلحوا على اختراع لغة أو أحداث لفظة لم تتقدمهم.
ومعلوم أن حوادث العالم لم تنقضيإلا بانقضائه ولا تزول إلا بزواله وفي ذلك دليل على صحة ما ذهبنا إليه من هذا الباب. ورد ابن جني على النظرية بتأويل الآية )وعلم آدم الأسماء .. (بأنها قد تحتمل أن الله تعالى أقدر الإنسان على وضع الألفاظ.
وفي العهد القديم، سفر التكوين: ( الله خلق من الطين حيوانات الحقول وجميع طيور السماء ثم عرضها على آدم ليري كيف يسميها وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه لها الإنسان، فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول ..). ويقول الأستاذ الدكتور / علي عبد الواحد: أن ككل هؤلاء يقررون بأن اللغة التوفيقية إلهامية ولكن أصحاب هذه النظرية لا يكادون يقدمون بين يدي مذهبهم دليلاً يعتد به. وأما أدلتهم النقلية فبعضها يحتمل التأويل وبعضها يكاد يكون دليلاً عليهم لا لهم.
النظرية الثانية:
تقول بأن اللغة اصطلاحية حدثت بالتواضع والاتفاق وارتجال ألفاظها ارتجالاً ومن أهم من تكلموا عنها ابن جني(3)يقول: (هذا موضع محرج إلى فضل تأمل، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تراضه واصطلاح لا وحي (وتوقيف) ويشرح رحمه الله ذلك بقوله: وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة قالوا: وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات، فيضعون لكل واحد منها سمة ولفظاً ثم يقول رحمه الله: (أن كل اللغات تجري على هذا المنوال ثم يتولد منها لغات كثيرة، ولكن لا بد لأولها أن يكون متواضعاً عليه بالمشاهدة والإيماء).
وقال أصحاب هذا الرأي: إن القدير سبحانه لا يجوز أن يوصف بأنه يواضع أحداً من عبادة على شيء، إذ قد ثبت أن المواضعة لا بد لها من إيماء وإشارة بالجارحة نحو المومأ إليه، والمشار نحوه، والقدير سبحانه لا جارحة له فيصح الإيماء والإشارة بها منه.
ثم قالوا: ولكن يجوز أن ينقل الله اللغة التي قد وقع التواضع بين عباده عليها، بأن يقول: الذي كنتم تعبرون عنه بكذا عبروا عنه بكذا، والذي كنتم تسمونه كذا ينبغي أن تسموه كذا، وجواز هذا منه ـ سبحانه ـ كجوازه من عباده.
ويعلق ابن جني رحمه الله قائلاً: إلا أنني سألت يوماً بعض أهله، فقلت: ما تنكر أن تصح المواضع من الله تعالى؟ وإن لم يكن ذا جارحة، بأن يحدث في جسم من الأجسام، خشية أو غيرها، إقبالاً على شخص من الأشخاص، وتحريكاً لها نحوه، ويسمح في نفس تحريك الخشية نحو ذلك الشخص صوتاً يضعه اسماًله، ويعيد حركة تلك الخشية نحو ذلك الشخص دفقات، فتقوم الخشية في هذا الإيماء، وهذه الإشارة مقام جارحة ابن آدم في الإشارة بها في الواضعة ثم يعقب قوله: وأعلم فيما بعد، أنني علم تقادم الوقت، دائم التغير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التاذب لي، مختلفة جهات التقول على فكري، وذلك بأنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة، ما يملك على جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر، وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله عز وجل فقوي في نفسي اعتقاد كونها توفيقاًمن الله سبحانه وأنها وحي، ثم أقول في ضد هذا. كما وقع لأصحابنا ولنا تنبهوا وتنبهنا، على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى خلق من قبلنا ـ وإن بعد مداه عنا ـ من كان ألطف منا أذهاناً وأسرع خواطر، وأجرأ جفاناً فأقف بين هاتينالخلتين حسيراً، وإن خطر خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتينويكفها عن صاحبتها قلنا به، وبالله التوفيق.
وهكذا انتهى بحث ابن جني عن نشأة اللغة أو الكلام البشري بالحيرة والتردد وعدم الجذم وهذا إحساس صادق لعالم كبير كما سترى في سياق البحث.
ويعلق الأستاذ الدكتور / علي عبد الواحد وافي في كتابه(4)بقوله: وليس لهذه النظرية أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي، بل إن ما تقره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية، فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالاً ولا تخلق خلقاً، بل تتكون بالتدرج من تلقاء نفسها.
هذا ولأن التواضع على التسمية يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون فما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأ للغة يتوقف هو نفسه على وجودها من قبل.
النظرية الثالثة:
تقرر أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة خاصة زود بها في الأصل جميع أفراد النوع الإنساني، وإن هذه الغريزة كانت تحمل كل فرد على التعبير عن كل مدرك حسي أو معقول بكلمة خاصة به كما أن غريزة التعبير الطبيعي عن الانفعالات تحمل الإنسان على القيام بحركات وأصوات خاصة (الضحك، البكاء تغيرات الأسارير المختلفة ..) وأن هذه التغيرات الغريزية عامل مشترك من البداية لجنس الإنسان . وأنه يعد نشأة اللغة الإنسانية الأولى لم يستخدم الإنسان هذه الغريزة فأخذت تنقرض شيئاً فشيئاً حتى تلاشت.
ولقد وجد العالم الألماني (مكس مولر) أن اللغات الهندية الأوربية وهي إحدى اللغات الثلاث التي يرجع إليها اللغات الإنسانية لها مفردات لا تتجاوز 500 خمس مئة أصل مشترك وأن هذه الأصول تمثل اللغة الأولى التي انشقت منها هذه الفصيلة، وتبين له من تحليل هذه الأصول أنها تدل على معاني كلية، وأنه لاتشابه مطلقاً بين أصواتها وما تدل عليه من فعل أو حالة ففي دلالتها على معاني كلية برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية الأولى لم تكن نتيجة تواضع واتفاق لماذا؟.
الإجابة: (1)لأن التواضع يتوقف على وسيلة يتفاهم بها المتواضعون، وهذه الوسيلة لا يعقل أن تكون اللغة الصوتية، لأن المفروض أن المتواضع عليه هو أول ما نطق به الإنسان من هذه اللغة ولا يعقل أن تكون لغة الإشارة لأننا
بصدد ألفاظ تدل على معاني كلية أي على أمور معنوية يتعذر استخدام الإشارة الحسية فيها.
(2) لأن التواضع فيه تحديد للمعاني وفي عدم وجود تشابه بين أصواتها وما تدل عليه برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية لم تنشأ من محاكاة الإنسان لأصوات الطبيعة (أصوات التغيير الطبيعي عن الانفعالات وأصوات الحيوانات والأشياء . لماذا ؟.
والجواب:لأن الأصوات الطبيعية محدودة ولو كانت هي التي تشمل أصول اللغة الأولى لوجدنا تشابها ظاهراً بين أصواتها.
ويبني نقد النظرية على ما يأتي:
إن هذه النظرية تعتمد من البداية على أساس واه لأنها جعلت بداية اللغة أصولاً مشتركة تدل على معاني كلية، ومن الواضح أن إدراك المعاني الكلية يتوقف على درجة عقلية راقية لا يتحور وجود مثلها من البداية البسيطة بل إن هناك عملية استقراء لقبائل بداية بينت أن اللغة البدائية لهم بعيدة كل البعد عن الكليات وقريبة من المعاني المحدودة (5).
النظرية الرابعة:
تقرر أن اللغة الإنسانية نشأت من الأصوات الطبيعية (أصوات مظاهر الطبيعة وأصوات الحيوانات وأصوات الأفعال، كصوت الضرب والقطع وغير ذلك، وسارت في سبيل الرقي شيئاً فشيئاً تبعاً لارتفاع العقلية الإنسانية وتقدم الحضارة وتعدد حاجات الإنسان.
وبحسب هذه النظرية، يكون الإنسان قد افتتح هذه السبل بمحاكاة أصوات الطبيعة والمؤثرات الناتجة من الأفعال كصوت الريح وخرير الماء وحفيف الشجر وصوت سقوط الصخور وكان يقصد من هذه المحاكاة التعبير عن الشيء الذي يصدد عنه الصوت المحاكى أو عما يلازمه أو يصاحبه من حالات وشؤون، واستخدام في هذه المحاكاة ما زود به من قدرة على لفظ الأصوات المركبة ذات المقاطع.
وكانت لغته في بادئ الأمر محدودة الألفاظ الطبيعية التي أخذت عنه قاصرة عن الدلالة على المقصود، ثم اتسعت وتطورت .... وبعد أن استعرض الأستاذ الدكتور / علي عبد الواحد وافي هذه النظرية في كتابه(6) استطرد قائلاً: وهذه النظرية هي أدنى نظريات هذا البحث إلى الصحة وأقربها إلى المعقول، وأكثرها اتفاقاً مع طبيعة الأمور وسنن النشوء والارتقاء الخاضعة لها الكائنات وظواهر الطبيعة والنظم الاجتماعية. ثم يقول: ولم يقم أي دليل يقيني على صحتها، ولكن لم يقم أي دليل يقيني على خطئها، وكل ما يذكر لتأبدها لا يقطع بصحتها.
ومن أهم أدلتها أن المراحل التي تقررها بصدد اللغة الإنسانية تتفق في كثير من وجودها مع مراحل الارتقاء اللغوي عند الطفل ـ فقد ثبت أن الطفل في المرحلة السابقة لمرحلة الكلام، يلجأ في تعبيره الإرادي إلى محاكاة الأصوات الطبيعية فيحاكي الصوت قاصداً التعبير عن مصدره أو ما يتصل به ومن المقرر أن المراحل التي يجتازها الطفل في نظهر ما من مظاهر حياته تمثل المراحل التي اجتازها النوع الإنساني في هذا المظهر.
ومن أدلتها كذلك أن ما تقرره بصدد خصائص اللغة الإنسانية في مراحلها الأولى يتفق مع ما نعرفه عن خصائص اللغات في الأمم البدائية، ففي هذه اللغات تكثر المفردات التي تشبه أصواتها ما تدل عليه ولنقص هذه اللغات وسذاجتها وإبهامها وعدم كفايتها للتعبير، لا يجد المتكلمون مناصاً من الاستعانة بالإشارة اليدوية والجسمية في أثناء حديثهم لتكملة ما يفتقر إلي من عناصر وما يعوذه من دلالة ومن المقرر أن هذه الأمم لبعدها عن تيارات الحضارة وعزلتها، تمثل إلى حد كبير النظم الإنسانية في عهودها الأولى.
بعد هذه الجولة مع نظريات نشأة اللغة نلاحظ أن النظرية الثانية والثالثة قد اعتمدتاعلى حجج واهية أو ملفقة أصبحت بمثابة معاول هدم لهما، وبقيت النظرية الأولى وهي التوفيقية الإلهامية والنظرية الرابعة وهي التطورية (من بداية محاكاة أصوات الطبيعة إلى اللغة الإنسانية الراقية) بقيتا بغير مرجع يقيني في رأي علماء اللغة.
فهل اللغة إلهامية (توفيقية) أم تطورية طبيعية؟ هذا السؤال عجز علماء اللغة حتى الآن عن الإجابة عليه فهل هناك بصيص أمل خطأنا إلى الوصول إلى إجابة عليه قاطعة لهذا السؤال المعلق؟.
أقول، وبالله التوفيق: نعم ... كيف؟ هناك ظواهر علمية تجلت للعلماء حديثاً يمكنها أن تجيب يقيناً على هذا السؤال الهام وهي كالآتي: لاحظ العالم (دافيد هيوبل) والعالم (وسل) وهم من علماء جامعة " هارفارد " أن الأطفال الذين يولدون لعتامة عدسة العين يصابون بمعمى دائم وإن لم تعالج العتامة مبكراً وقبل مرور زمن محدد بعده تصبح العين عمياء حتى لو تم إزالة العتامة(7).
وفتحت هذه الملاحظات الهامة الباب على مصارعه لأبحاث نمو (الممر العصبي البصري) من العين وحتى القشرة البصرية بمناطقها المختلفة، واستخدام العلماء القطط والقرود في كشفي أسرار لم تكن معروفة وذلك بخياطة عيون القطط وغيرها في فترات مبكرة ومتأخرة وملاحظة هندسة الممر البصري حتى داخل القشرة الابصارية، وكانت خلاصة هذه الأبحاث الهامة، أن الممرات الحسية كممر السمع والبصر ومراكزها داخل المخ (مراكز السمع والبصر) يتم بناؤه على العموم وفقاً لخطة جينيةمسبقة لكن الارتباطات الداخلية اللازمة لأداء وظائفها على أكمل وجه يلزمه التقاء المؤثرات الحسية الخارجية ـ كالأصوات والصور مثلاً ـ بالمستقبلات الحسية كالعين والأذن حتى يتم استكمال النظام الهندسي داخل مركز الحس في المخ واللازمة لعمل تلك المراكز ولا بد أن يتم هذا الالتقاء في فترة محددة بمعنى أنه لو لم يتم هذا التزاوج بين المؤثرات الحسية الخارجية (الكونية) وبين مراكز الحس في الفترة المحددة المبكرة فإن نمو المراكز سيكون، مشوهاً أو معوقاً مدى الحياة ويترتب على ذلك إعاقة أو ضمور أو تشويه تلك المراكز المحورية فلقد لاحظ العلماء أن خياطة أعين القطط مبكراً في الفترة الحرجة ثم فتحها بعد ذلك يؤدي إلى حدوث عمى نهائي لهذه القطط بينما خياطة أعينها ثم فتحها، بعد هذه الفترة الحرجة لا يؤدي إلى عمى دائم ويعود الإبصار إليها كما كان. (الفترة الحرجة في القطط هي الشهور القليلة بعد الولادة). وفي جامعة " كارل ماركس " قام العالم (دينماربيسولد) والعلم (فولكوبيجل) بتأكيدها ذلك. وخلاصة هذه الأبحاث الرائعة يمكن تلخيصها كما جاء في مجلة العلوم الأمريكية (8) فيما يأتي:


يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــع
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 32.82 كيلو بايت... تم توفير 0.60 كيلو بايت...بمعدل (1.79%)]