عرض مشاركة واحدة
  #15  
قديم 06-07-2021, 02:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,968
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (15)
صـ239 إلى صـ 259

فصل

المكروه إذا اعتبرته كذلك مع الممنوع ، كان كالمندوب مع الواجب ، وبعض الواجبات منه ما يكون مقصودا ، وهو أعظمها ، ومنه ما يكون وسيلة وخادما للمقصود ، كطهارة الحدث ، وستر العورة ، واستقبال القبلة ، والأذان للتعريف بالأوقات ، وإظهار شعائر الإسلام مع الصلاة ، فمن حيث كان وسيلة حكمه مع المقصود حكم المندوب مع الواجب ، يكون وجوبه بالجزء دون وجوبه بالكل ، وكذلك بعض الممنوعات ؛ منه ما يكون مقصودا ، ومنه ما يكون وسيلة له ، كالواجب حرفا بحرف ، فتأمل ذلك .
المسألة الثامنة

ما حد له الشارع وقتا محدودا من الواجبات أو المندوبات فإيقاعه في وقته لا تقصير فيه شرعا ، ولا عتب ، ولا ذم ، وإنما العتب والذم في إخراجه عن وقته ، سواء علينا أكان وقته مضيقا أو موسعا لأمرين :

أحدهما : أن حد الوقت إما أن يكون لمعنى قصده الشارع أو لغير معنى ، وباطل أن يكون لغير معنى ، فلم يبق إلا أن يكون لمعنى ، وذلك المعنى [ ص: 241 ] هو أن يوقع الفعل فيه ، فإذا وقع فيه فذلك مقصود الشارع من ذلك التوقيت ، وهو يقتضي قطعا موافقة الأمر في ذلك الفعل الواقع فيه ، فلو كان فيه عتب أو ذم ، للزم أن يكون لمخالفة قصد الشارع في إيقاعه في ذلك الوقت الذي وقع فيه العتب بسببه ، وقد فرضناه موافقا ، هذا خلف .

والثاني : أنه لو كان كذلك ; للزم أن يكون الجزء من الوقت الذي وقع فيه العتب ليس من الوقت المعين ، لأنا قد فرضنا الوقت المعين مخيرا في أجزائه إن كان موسعا ، والعتب مع التخيير متنافيان ، فلا بد أن يكون خارجا عنه ، وقد فرضناه جزءا من أجزائه ، هذا خلف محال ، وظهور هذا المعنى غير محتاج إلى دليل .

فإن قيل : قد ثبت أصل طلب المسارعة إلى الخيرات ، والمسابقة إليها ، وهو أصل قطعي ، وذلك لا يختص ببعض الأوقات دون بعض ، ولا ببعض الأحوال دون بعض ، وإذا كان السبق إلى الخيرات مطلوبا بلا بد ; فالمقصر عنه معدود في المقصرين ، والمفرطين ، ولا شك أن من كان هكذا ; فالتعب لاحق به في تفريطه وتقصيره ، فكيف يقال : لا عتب عليه ؟

ويدل على تحقيق هذا ما روي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه لما سمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله قال : [ ص: 242 ] رضوان الله أحب إلينا من عفوه ; فإن رضوانه للمحسنين ، وعفوه عن المقصرين .

وفي مذهب مالك ما يدل على هذا أيضا ; فقد قال في المسافرين يقدمون [ ص: 243 ] الرجل لسنه يصلي بهم فيسفر بصلاة الصبح ، قال : " يصلي الرجل وحده في أول الوقت أحب إلي من أن يصلي بعد الإسفار في جماعة " فقدم كما ترى حكم المسابقة ، ولم يعتبر الجماعة التي هي سنة يعد من تركها مقصرا ; فأولى أن يعد من ترك المسابقة مقصرا .

وجاء عنه أيضا فيمن أفطر في رمضان لسفر أو مرض ، ثم قدم أو صح في غير شعبان من شهور القضاء ، فلم يصمه حتى مات ; فعليه الإطعام ، وجعله مفرطا ، كمن صح أو قدم في شعبان ; فلم يصمه حتى دخل رمضان الثاني ، مع أن القضاء ليس على الفور عنده .

قال اللخمي : جعله مترقبا ليس على الفور ، ولا على التراخي ، فإن قضى في شعبان مع القدرة عليه قبل شعبان فلا إطعام لأنه غير مفرط ، وإن مات قبل شعبان فمفرط ، وعليه الإطعام ، نحو قول الشافعية في الحج : إنه على التراخي ; فإن مات قبل الأداء كان آثما فهذا أيضا - رأي الشافعية - مضاد لمقتضى الأصل المذكور .

فأنت ترى أوقاتا معينة شرعا ; إما بالنص ، وإما بالاجتهاد ، ثم صار من قصر عن المسابقة فيها ملوما معاتبا ، بل آثما في بعضها ، وذلك مضاد لما [ ص: 244 ] تقدم .

فالجواب : أن أصل المسابقة إلى الخيرات لا ينكر ; غير أن ما عين له وقت معين من الزمان هل يقال : إن إيقاعه في وقته المعين له مسابقة ; فكيف يكون الأصل المذكور شاملا له ، أم يقال : ليس شاملا له ؟

والأول هو الجاري على مقتضى الدليل فيكون قوله عليه السلام حين سئل عن أفضل الأعمال فقال : الصلاة لأول وقتها يريد به وقت الاختيار مطلقا ، ويشير إليه أنه عليه السلام حين علم الأعرابي الأوقات صلى في أوائل الأوقات وأواخرها ، وحد ذلك حدا لا يتجاوز ، ولم ينبه فيه على تقصير ، وإنما نبه على التقصير والتفريط بالنسبة إلى ما بعد ذلك من أوقات الضرورات إذا صلى فيها من لا ضرورة له ; إذ قال : تلك صلاة المنافقين الحديث ; [ ص: 245 ] فبين أن وقت التفريط هو الوقت الذي تكون الشمس فيه بين قرني الشيطان .

فإنما ينبغي أن يخرج عن وصف المسابقة والمسارعة ، من خرج عن الإيقاع في ذلك الوقت المحدد ، وعند ذلك يسمى مفرطا ومقصرا وآثما أيضا عند بعض الناس ، وكذلك الواجبات الفورية .

وأما المقيدة بوقت العمر ; فإنها لما قيد آخرها بأمر مجهول ، كان ذلك علامة على طلب المبادرة والمسابقة في أول أزمنة الإمكان ; فإن العاقبة مغيبة ، فإذا عاش المكلف ما في مثله يؤدى ذلك المطلوب ، فلم يفعل مع سقوط الأعذار - عد ولا بد مفرطا ، وأثمه الشافعي ; لأن المبادرة هي المطلوب ، لا أنه على التحقيق مخير بين أول الوقت وآخره ; فإن آخره غير معلوم ، وإنما المعلوم منه ما في اليد الآن ، فليست هذه المسألة من أصلنا المذكور ; فلا تعود عليه بنقض .

وأيضا ; فلا ينكر استحباب المسابقة بالنسبة إلى الوقت المعين ، لكن بحيث لا يعد المؤخر عن أول الوقت الموسع مقصرا ، وإلا لم يكن الوقت على حكم التوسعة ، وهذا كما في الواجب المخير في خصال الكفارة ; فإن للمكلف الاختيار في الأشياء المخير فيها ، وإن كان الأجر فيها يتفاوت فيكون بعضها أكثر أجرا من بعض ، كما يقول بذلك مالك في الإطعام في كفارة رمضان مع وجود التخيير في الحديث ، وقول مالك به ، وكذلك العتق في كفارة الظهار أو القتل أو غيرهما ; هو مخير في أي الرقاب شاء ، مع أن الأفضل أعلاها ثمنا ، [ ص: 246 ] وأنفسها عند أهلها ، ولا يخرج بذلك التخيير عن بابه ، ولا يعد مختار غير الأعلى مقصرا ، ولا مفرطا ، وكذلك مختار الكسوة أو الإطعام في كفارة اليمين ، وما أشبه ذلك من المطلقات التي ليس للشارع قصد في تعيين بعض أفرادها مع حصول الفضل في الأعلى منها ، وكما أن الحج ماشيا أفضل ، ولا يعد الحاج راكبا مفرطا ، ولا مقصرا ، وكثرة الخطا إلى المساجد أفضل من قلتها ، ولا يعد من كان جار المسجد بقلة خطاه له مقصرا ، بل المقصر هو الذي قصر عما حد له ، وخرج عن مقتضى الأمر المتوجه إليه ، وليس في مسألتنا ذلك .

وأما حديث أبي بكر - رضي الله عنه - فلم يصح ، وإن فرضنا صحته فهو معارض بالأصل القطعي ، وإن سلم فمحمول على التأخير عن جميع الوقت المختار ، وإن سلم ; فأطلق لفظ التقصير على ترك الأولى من المسارعة إلى تضعيف الأجور ، لا أن المؤخر مخالف لمقتضى الأمر .

وأما مسائل مالك ; فلعل استحبابه لتقديم الصلاة ، وترك الجماعة - مراعاة للقول بأن للصبح وقت ضرورة ، وكان الإمام قد أخر إليه ، وما ذكر في إطعام التفريط في قضاء رمضان ، بناء على القول بالفور في القضاء - فلا يتعين فيها ما ذكر في السؤال ; فلا اعتراض بذلك ، وبالله التوفيق .
المسألة التاسعة

الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين - كانت من حقوق الله ; كالصلاة ، والصيام ، والحج ، أو من حقوق الآدميين كالديون ، والنفقات ، والنصيحة ، وإصلاح ذات البين ، وما أشبه ذلك - : أحدهما : حقوق محدودة شرعا .

[ ص: 247 ] والآخر حقوق غير محدودة .

فأما المحدودة المقدرة ; فلازمة لذمة المكلف مترتبة عليه دينا ، حتى يخرج عنها ، كأثمان المشتريات ، وقيم المتلفات ، ومقادير الزكوات ، وفرائض الصلوات ، وما أشبه ذلك ; فلا إشكال في أن مثل هذا مترتب في ذمته دينا عليه .

والدليل على ذلك التحديد والتقدير ; فإنه مشعر بالقصد إلى أداء ذلك المعين ، فإذا لم يؤده فالخطاب باق عليه ، ولا يسقط عنه إلا بدليل .

وأما غير المحدودة فلازمة له ، وهو مطلوب بها ، غير أنها لا تترتب في ذمته ؛ لأمور :

أحدها : أنها لو ترتبت في ذمته لكانت محدودة معلومة ; إذ المجهول لا يترتب في الذمة ، ولا يعقل نسبته إليها ، فلا يصح أن يترتب دينا ، وبهذا استدللنا على عدم الترتب ; لأن هذه الحقوق مجهولة المقدار ، والتكليف بأداء ما لا يعرف له مقدار - تكليف بمتعذر الوقوع ، وهو ممتنع سمعا .

ومثاله : الصدقات المطلقة ، وسد الخلات ، ودفع حاجات المحتاجين ، وإغاثة الملهوفين ، وإنقاذ الغرقى ، والجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ويدخل تحته سائر فروض الكفايات .

[ ص: 248 ] فإذا قال الشارع : وأطعموا القانع والمعتر [ الحج : 36 ] أو قال : " اكسوا العاري " أو وأنفقوا في سبيل الله [ البقرة : 195 ] ; فمعنى ذلك طلب رفع الحاجة في كل واقعة بحسبها من غير تعيين مقدار ، فإذا تعينت حاجة تبين مقدار ما يحتاج إليه فيها بالنظر لا بالنص ، فإذا تعين جائع فهو مأمور بإطعامه ، وسد خلته ، بمقتضى ذلك الإطلاق ; فإن أطعمه ما لا يرفع عنه الجوع فالطلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافع للحاجة التي من أجلها أمر ابتداء ، والذي هو كاف يختلف باختلاف الساعات والحالات في ذلك المعين ; فقد يكون في الوقت غير مفرط الجوع ، فيحتاج إلى مقدار من الطعام ، فإذا تركه حتى أفرط عليه ; احتاج إلى أكثر منه ، وقد يطعمه آخر فيرتفع عنه الطلب رأسا ، [ وقد يطعمه آخر ما لا يكفيه ، فيطلب هذا بأقل مما كان مطلوبا به ] .

فإذا كان المكلف به يختلف باختلاف الأحوال والأزمان ، لم يستقر للترتيب في الذمة أمر معلوم يطلب ألبتة ، وهذا معنى كونه مجهولا ، فلا يكون معلوما إلا في الوقت الحاضر بحسب النظر لا بمقتضى النص ، فإذا زال الوقت الحاضر صار في الثاني مكلفا بشيء آخر لا بالأول ، أو سقط عنه التكليف إذا فرض ارتفاع الحاجة العارضة .

والثاني : أنه لو ترتب في ذمته أمر ; لخرج إلى ما لا يعقل لأنه في كل وقت [ ص: 249 ] من أوقات حاجة المحتاج مكلف بسدها ، فإذا مضى وقت يسع سدها بمقدار معلوم مثلا ، ثم لم يفعل فترتب في ذمته ، ثم جاء زمان ثان وهو على حاله أو أشد ، فإما أن يقال : إنه مكلف أيضا بسدها أولا ، والثاني باطل ; إذ ليس هذا الثاني بأولى بالسقوط من الأول ; لأنه إنما كلف لأجل سد الخلة فيرتفع التكليف ، والخلة باقية ، هذا محال ; فلا بد أن يترتب في الذمة ثانيا مقدار ما تسد به الحاجة ذلك الوقت ، وحينئذ يترتب في ذمته في حق واحد - قيم كثيرة بعدد الأزمان الماضية ، وهذا غير معقول في الشرع .

والثالث : أن هذا يكون عينا أو كفاية ، وعلى كل تقدير يلزم إذا لم يقم به أحد أن يترتب إما في ذمة واحد غير معين ، وهو باطل لا يعقل ، وإما في ذمم جميع الخلق مقسطا ، فكذلك للجهل بمقدار ذلك القسط لكل واحد ، أو غير مقسط ، فيلزم فيما قيمته درهم أن يترتب في ذمم مائة ألف رجل مائة ألف درهم ، وهو باطل كما تقدم .

والرابع : لو ترتب في ذمته لكان عبثا ، ولا عبث في التشريع ; فإنه إذا كان المقصود دفع الحاجة ; فعمران الذمة ينافي هذا المقصد ; إذ المقصود إزالة هذا العارض ، لا غرم قيمة العارض ، فإذا كان الحكم بشغل الذمة منافيا لسبب الوجوب ; كان عبثا غير صحيح .

لا يقال : إنه لازم في الزكاة المفروضة وأشباهها ; إذ المقصود بها سد [ ص: 250 ] الخلات ، وهي تترتب في الذمة .

لأنا نقول : نسلم أن المقصود ما ذكرت ، ولكن الحاجة التي تسد بالزكاة غير متعينة على الجملة ; ألا ترى أنها تؤدى اتفاقا وإن لم تظهر عين الحاجة ؟ فصارت كالحقوق الثابتة بمعاوضة أو هبة ، فللشرع قصد في تضمين المثل أو القيمة فيها ، بخلاف ما نحن فيه ; فإن الحاجة فيه متعينة فلا بد من إزالتها ، ولذلك لا يتعين لها مال زكاة من غيره ، بل بأي مال ارتفعت حصل المطلوب ، فالمال غير مطلوب لنفسه فيها ، فلو ارتفع العارض بغير شيء لسقط الوجوب ، والزكاة ونحوها لا بد من بذلها ، وإن كان محلها غير مضطر إليها في الوقت ، ولذلك عينت ، وعلى هذا الترتيب في بذل المال للحاجة يجري حكم سائر أنواع هذا القسم .

فإن قيل : لو كان الجهل مانعا من الترتب في الذمة ، لكان مانعا من أصل التكليف أيضا ; لأن العلم بالمكلف به شرط في التكليف ; إذ التكليف بالمجهول تكليف بما لا يطاق فلو قيل لأحد : أنفق مقدارا لا تعرفه أو صل صلوات لا تدري كم هي أو انصح من لا تدريه ولا تميزه ، وما أشبه ذلك ، لكان تكليفا بما لا يطاق ; إذ لا يمكن العلم بالمكلف به أبدا إلا بوحي ، وإذا علم بالوحي ; صار معلوما لا مجهولا ، والتكليف بالمعلوم صحيح ، هذا خلف .

فالجواب : أن الجهل المانع من أصل التكليف هو المتعلق بمعين عند الشارع ; كما لو قال : أعتق رقبة ، وهو يريد الرقبة الفلانية من غير بيان ، فهذا [ ص: 251 ] هو الممتنع ، أما ما لم يتعين عند الشارع بحسب التكليف ؛ فالتكليف به صحيح ، كما صح في التخيير بين الخصال في الكفارة ; إذ ليس للشارع قصد في إحدى الخصال دون ما بقي ، فكذلك هنا إنما مقصود الشارع سد الخلات على الجملة ، فما لم يتعين فيه خلة فلا طلب ، فإذا تعينت وقع الطلب ، هذا هو المراد هنا ، وهو ممكن للمكلف مع نفي التعيين في مقدار ولا في غيره .

وهنا ضرب ثالث آخذ بشبه من الطرفين الأولين ; فلم يتمحض لأحدهما ، هو محل اجتهاد كالنفقة على الأقارب ، والزوجات ، ولأجل ما فيه من الشبه بالضربين ، اختلف الناس فيه : هل له ترتب في الذمة أم لا ؟ فإذا ترتب فلا يسقط بالإعسار ، فالضرب الأول لاحق بضروريات الدين ، ولذلك محض بالتقدير ، والتعيين ، والثاني لاحق بقاعدة التحسين ، والتزيين ، ولذلك وكل إلى اجتهاد المكلفين ، والثالث آخذ من الطرفين بسبب متين ; فلا بد فيه من النظر في كل واقعة على التعيين ، والله أعلم .
[ ص: 252 ] فصل

وربما انضبط الضربان الأولان بطلب العين والكفاية ; فإن حاصل الأول أنه طلب مقدر على كل عين من أعيان المكلفين ، وحاصل الثاني إقامة الأود العارض في الدين وأهله ; وإلا أن هذا الثاني قد يدخل فيه ما يظن أنه طلب عين ، ولكنه لا يصير طلبا متحتما في الغالب إلا عند كونه كفاية ; كالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وأما إذا لم يتحتم فهو مندوب ، وفروض الكفايات مندوبات على الأعيان فتأمل هذا الموضع ، وأما الضرب الثالث ; فآخذ شبها من الطرفين أيضا ; فلذلك اختلفوا في تفاصيله حسبما ذكره الفقهاء ، والله أعلم .
[ ص: 253 ] المسألة العاشرة

يصح أن يقع بين الحلال والحرام مرتبة العفو ، فلا يحكم عليه بأنه واحد من الخمسة المذكورة هكذا على الجملة ، ومن الدليل على ذلك أوجه : أحدها : ما تقدم من أن الأحكام الخمسة إنما تتعلق بأفعال المكلفين مع القصد إلى الفعل ، وأما دون ذلك فلا ، وإذا لم يتعلق بها حكم منها مع وجدانه ، ممن شأنه أن تتعلق به ، فهو معنى العفو المتكلم فيه ، أي : لا مؤاخذة به .

والثاني : ما جاء من النص على هذه المرتبة على الخصوص ، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها .

[ ص: 254 ] وقال ابن عباس : " ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض - صلى الله عليه وسلم - كلها في القرآن : ويسألونك عن المحيض [ البقرة : 222 ] .

ويسألونك عن اليتامى [ البقرة : 220 ] .

يسألونك عن الشهر الحرام [ البقرة : 217 ] .

ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم " .

يعني : أن هذا كان الغالب عليهم .

[ ص: 255 ] وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : " ما لم يذكر في القرآن ; فهو مما عفا الله عنه " ، وكان يسأل عن الشيء لم يحرم ; فيقول : عفو ، وقيل له : ما تقول في أموال أهل الذمة ، فقال : العفو ، [ يعني لا تؤخذ منهم زكاة ] .

وقال عبيد بن عمير : " أحل الله حلالا ، وحرم حراما ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو " .

والثالث : ما يدل على هذا المعنى في الجملة ; [ ص: 256 ] كقوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم الآية [ التوبة : 43 ] ; فإنه موضع اجتهاد في الإذن عند عدم النص .

وقد ثبت في الشريعة العفو عن الخطأ في الاجتهاد ، حسبما بسطه الأصوليون ، ومنه قوله تعالى : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم [ الأنفال : 68 ] .

وقد كان النبي عليه السلام يكره كثرة السؤال فيما لم ينزل فيه حكم ، بناء على حكم البراءة الأصلية ; إذ هي راجعة إلى هذا المعنى ، ومعناها أن الأفعال معها معفو عنها ، وقد قال : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته .

وقال : ذروني ما تركتكم ; فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، ما نهيتكم عنه فانتهوا ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم .

[ ص: 257 ] وقرأ عليه السلام قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت الآية [ آل عمران : 97 ] ; فقال رجل : يا رسول الله أكل عام ، فأعرض ، ثم قال يا رسول الله أكل عام ، فأعرض ، ثم قال : يا رسول الله أكل عام ، فقال رسول الله : والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت ما قمتم بها ، ولو لم تقوموا بها لكفرتم ، فذروني ما تركتكم ، ثم ذكر معنى ما تقدم .

وفي مثل هذا نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم الآية [ المائدة : 101 ] .

ثم قال : عفا الله عنها [ المائدة : 101 ] .

أي : عن تلك الأشياء ; فهي إذا عفو .

وقد كره عليه السلام المسائل ، وعابها ، ونهى عن كثرة السؤال ، وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب ، فذكر الساعة ، وذكر قبلها أمورا عظاما ، ثم قال : من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا ، قال أنس : فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك ، وأكثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : سلوني ، فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال : من أبي ؟ قال : أبوك حذافة ، فلما أكثر أن يقول سلوني ، برك عمر بن الخطاب على ركبتيه ، فقال : يا رسول الله رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، قال : فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال عمر ذلك [ ص: 258 ] فنزلت الآية ، وقال أولا : والذي نفسي بيده ; لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي ، فلم أر كاليوم في الخير والشر ، وظاهر من هذا المساق أن قوله : سلوني في معرض الغضب تنكيل بهم في السؤال حتى يروا عاقبة السؤال ، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى : إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] ، وقد ظهر من هذه الجملة ما يعفى عنه ، وهو ما نهي عن السؤال عنه .

فكون الحج لله هو مقتضى الآية كما أن كونه للعام الحاضر تقتضيه أيضا ; فلما سكت عن التكرار كان الذي ينبغي الحمل على أخف محتملاته ، وإن فرض أن الاحتمال الآخر مراد ، فهو مما يعفى عنه ، ومثل هذا قصة أصحاب البقرة لما شددوا بالسؤال ، - وكانوا متمكنين من ذبح أي بقرة شاءوا - ; شدد عليهم حتى ذبحوها ، وما كادوا يفعلون [ البقرة : 71 ] .

[ ص: 259 ] فهذا كله واضح في أن من أفعال المكلفين ما لا يحسن السؤال عنه ، وعن حكمه ، ويلزم من ذلك أن يكون معفوا عنه ، فقد ثبت أن مرتبة العفو ثابتة ، وأنها ليست من الأحكام الخمسة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.09 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.46 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.96%)]