عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 28-09-2022, 03:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش

قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش


فتيحة حسون


المغرب الأقصى - أو كما كان يُطلق عليه قديمًا مراكش - وصَلَ إليه الشاعِر قادمًا من قرطبة ليضيف فارسًا مغربيًّا إلى كتيبة النَّصر التي يَجمعها، إنَّه يوسي مراكش، عالِم بزغ في ربوع المَغرب إبَّان القرن الثاني عشر الهجري، شاعِر وفقيه صاحب "المحاضرات في الأدب واللغة"، شخصيَّة تعتبر بصمة عصر بأسره.. "قال عنه الشيخ أبو سالم العياشي:



مَن فاته الحسَن البصري يَصحبه = فليصحبِ الحسَنَ اليوسيَّ يكفيه"[10]، أصدَر الفرنسي جاك بيرك سنة 1958 كتابًا حوله سمَّاه "الحسن اليوسي - مشكلات الثقافة المغربية في القرن السابع عشر".. كانت في هذه الفترة - أي: القرن السابع عشر الميلادي - أوروبا في طور الحَبو نحو مائدة العِلم والمعرفة، في حين كانت الأمَّة العربيَّة والإسلاميَّة أكلَت وشبعَت وبسطت موائد كثيرة علمية ومعرفية لمن يريد الاستفادة والاستزادَة.. ما يميِّز يوسي مراكش - إضافة إلى علوِّ كعبه في التأليف العلمي - انضمامُه إلى الصوفيَّة.. هنا نَقف وقفةَ تأمُّل في الشخصيَّات التي أَوردها الشاعِر؛ بداية بحاتم الطائي إلى يوسي مراكش، لقد جمعَ باقةً علميَّة ومعرفيَّة من مختلف العصور وشكَّلها لتأتلفَ رغم أنَّها تَختلف في توجُّهاتها وجذورها.. جمعَت الأنا الشاعِرة فرسانَها من كلِّ فجٍّ عميق؛ لتحج إلى النَّصر تحت رايةٍ واحدة مزركَشَة بألوان جذور مختلفة؛ منها العربي، والكردي، والأمازيغي، كلٌّ منها يمثِّل قيمةً من القِيَم التي يَحتاجها الشاعِر؛ ليَستجمع شتات العزيمة ويَقف ندًّا لندٍّ أمام "الآخر" الذي جلَب فرسانه إلى سوحه فأعادها خرابًا بعد إعمار.



والشاعِر في نفثاته هذه أَطلق جيشَ المباني، تاركًا وراءه غبارَ المعاني، التي لا تَنقشع إلَّا حين نَسوقها على نسق السِّياق التاريخي لأمَّةٍ تَفتقد إلى الشعور بكينونتها، وتتغافَل عن استشعار شموخ ماضيها، مع أنَّها في حاجة إلى الإقبال على تَحريك عجلَة التفكير؛ للتدبُّر والتعلُّم من عثرات زمنٍ اختلفَت فيه القلوب والرُّؤى؛ فأصبحَت أُكْلةً يتقاسمها كلُّ مَن هبَّ ودبَّ، جاعلًا القصعةَ مَنجمًا للنهب والسَّلب!



واستحضار التراث أغنى القصيدةَ، وهذه فنيَّة جدُّ مؤثِّرة، ساهمَت في إيصال الرسائل والمقاصد للمتلقِّي.. وقد بنى الشاعرُ جسرًا تواصليًّا ما بين الماضي - التراث - وما بين الحاضر؛ لاستشراف المستقبَل.. وإن دلَّ هذا على شيءٍ، فإنما يدلُّ على مدى الأثر والتأثير للتراث على وجدان الشاعِر؛ فقد ترك هذا التراث العظيم بَصمتَه في شِعره.. وإنَّ فنية استحضاره خدمَت دلالات ومقاصِد القصيدة بشكلٍ متميز.. والتراث يَختزل إمكانات الإبداع والنُّهوض في حياة الأمَم، وهو الجسر التواصلي بين الأجيال، ولا يمكن لأيِّ أمَّةٍ أن تَنهض دون أن تستمدَّ القوةَ من جذورها، وتَنهل من موروثها.



ونجد "الأنا" الشاعِرة مرتبطة بالزَّمن إلى أبعد حدٍّ، نرى ذلك جليًّا في توظيف مختلف الحِقَب التاريخيَّة التي مرَّت بها أمَّة الشاعر:

حاتم الطائي = الجود؛ العصر الجاهلي.

صلاح الدين = الجهاد والانتصار واسترداد القدس؛ عصر المماليك.

أحمد شوقي = أخوة الشعر؛ العصر الحديث.

كسرى = الغنائم والانتصار والعزَّة؛ زمن الفتوحات الإسلامية.

الحسن رضي الله عنه = الروح الدينية وتفضيل المصلحة العامَّة؛ صدر الإسلام.

ابن رشد = الجمع بين الفقه والفلسفة - الحكمة - الانفتاح الفكري؛ الأندلس.

يوسي مراكش = العلم والتصوف؛ القرون الوسطى.

زمن الشاعر = فقر وجهل، وبؤسٌ وهوان، وانتكاسات وهزائم!



بدأ بالعصر الجاهليِّ وصولًا إلى القرن السَّابع عشر الميلادي، تاريخٌ طويل من الشُّموخ والعطاء، والعزَّة والإباء والكرامة! والشاعِر لم يوظِّف هذه الرموز التاريخيَّة من أجل تأريخ المواقف، بل وظَّفها ليعيد الحياةَ إلى زمانه؛ من أجل العِبرَة والاهتداء.. يحيك بخيوط ذاكرتِه التراثيَّة الماضي بالحاضر من أجلِ أن يَنسج المستقبَل، والرؤية والرؤى عند الشاعِر تتخطَّى المكان والزَّمان، وهذه الشخصيَّات مناسِبة للسِّياق الداخلي لهذه القصيدة.

تُـعَذبُـــني الـذاتُ

تَسْــتعْذِبُ العَلْــقمَ الــمُرَّ

تَصْـــفِدُ خَطْـــوي

الصِّراع بين الأنا والذات!



المشاهد الجماليَّة في القصيدة تتوالى، ها هو الشاعِر يصوِّر لنا مشهدًا آخر من الصِّدام والصراع الذي يتكرَّر الآن مع "الذَّات"، بعدما كان صراعه الأول مع قائد الفرسان المداهمين لسوحه، "الذات" هي الأخرى سبَب معاناته؛ إنَّها تَقف في وجه رَغبته وعزمه للتصدِّي والدِّفاع عن قلب داره.. إنَّها تعذِّبه و"تَستعذب العلقمَ المرَّ"، لم يَكتفِ الشاعر بكلمة عَلقم - وهو الحنظل الشَّديد المرارة بطبيعته - بل أضاف كلمة "المر"؛ إليه ليزيد من جرعات مرارته؛ إنَّه يَستنكر ويتعجَّب، جاعلًا المتلقِّيَ يَستغرب أكثر.. كيف لهذه الذَّات أن تَستعذب كلَّ هذه المرارة؟! كيف لها أن تتحمَّل كلَّ هذا الهوان؟! إنَّها تعذِّب الشاعِر بتصرُّفها هذا، وبموقفها هذا، حيال الحالة التي يعانيان منها، وهي مُداهمة واغتيال أولئك الفرسان لآمالهما وكينونتهما، إنها تصفد خطوات الشاعر! من هذه "الذَّات"؟! هل هي ذاته، أو لِنَقُل: صوت عَقل الشاعر، أم هي ذات أخرى، أم هي ذوات متعددة؟!



إنَّها هذا وذاك؛ يمكن أن تفسَّر "الذات" على أنَّها صوت عقلِ الشاعِر، مقابل صوت عواطفه الجيَّاشة والثائرة.. صوتُ العقل الذي يرى أنْ لا فائدة من مواجهة أولئك الفرسان؛ فلا قِبَل له بهم؛ فهم أشد مكرًا وأكثر قوَّة منه، وهذه الذَّات أرادَت أن تجنِّبه تَبِعات محاولة الثَّورة والتصدِّي للمداهمين؛ فلا نَتيجة تُرجى ما دامت الذَّات الجماعيَّة قد استسلمَت للأمر الواقِع، وثملَت بكؤوس الانشغال بنفسِها.. ويمكن كذلك أن تفسَّر على أنَّها الذَّات الجماعيَّة، يعود الضمير على "هم" الجماعة المحيطة بالشاعِر، أو "نحن" أمَّة الشاعر!



إنَّ هذه "الذَّات" تتفرَّج دون حراك، غير مبالِية بما يَحدث، بل إنَّها تقيِّد خطواته وتصفدها، لا تترك له مجالًا للفِعل، ولا تَسمح له أن يكمل مسيرةَ رفضه أفعالًا بعدما كانت كلامًا.. إنَّ الشاعر يتأرجَح بين الإقدام والإحجام، والذَّات هي العَقَبة الكؤود في الوصول إلى ما تريده الأنا الشاعِرة، هل يُطيع الذَّات التي تصفد خطوه أم يَكسر القيدَ ويخطو إلى ما يريد.. إلى مقاومة هؤلاء المداهمين القَتَلَة والمغيرين الذين يريدون اقتلاعَه من جذوره، وجَعْل ساحاتِه وواحاته صحراء جدباء، وروحه مقفرة من كلِّ المعاني الإنسانيَّة والكينونة الذاتيَّة.. مجرد تمثال؛ يَرى ويَسمع، لكن لا يتكلَّم ولا يستطيع فعل شيء.



لكنَّ الشاعر لا يَستطيع أن يصمتَ حيال ما يراه من ظلمٍ وخنوع، إنَّه يحاول البحث عن الحلِّ للأزمة، عن نورٍ ينير الظُّلْمةَ، وفرَجٍ يزيح ستائرَ الكربة، عن سلَّم القِيَم يَصعد عليه للوصول إلى العزَّة الضَّائعة، والكينونة المفقودة.. الشاعِر يَبكي الهزيمة الذاتية لأمَّته قَبل هزيمته أمام المداهمين، والموقف المجتمعي هو الآخر يقيِّد رغبتَه، وموقف الأمة يقيِّد عزيمتَه؛ أمَّة لا تَعرف معنى التلاحم والتعاوُن من أجل النُّهوض من جديد.. هذه الأمَّة التي استولَت على خبز كسرى - الغنائم - وكان خبزه للناس جميعًا، لا يجد الآن أفرادُها خبزًا يسدُّ رمقهم.. أمَّة بنَتْ صرحَ حضارتها العلميَّة والمعرفيَّة، وكان يَخشاها القاصي والدَّاني، الآن تَقبع في قاع الذلِّ والهوان والاستسلام للأمر الواقع.. وحال الأمَّة هي الإشكاليَّة المطروحة في القصيدة، فهل يستطيع الكلام - الشِّعر - المساهمة في تحريك عجلَة الإصلاح، ومحاولة النُّهوض وإعادة التَّفكير في واقع الهزيمة الحضاريَّة، والعودة إلى الجذور التي تغذِّي الهويَّة وبناء الذات بناءً محكمًا ومتراصًّا؟!



لكن الشاعر يشعر أنه يُجَعجِع فقط.

أجَـعْـجِـعْ

ولا أطْــ...!

أنا في كِياني غَريـــبٌ!

غريــبٌ!

غَريــب



ها هو الشَّاعر قال وشعر أنَّه أكثر من المقول، لكن دون جدوى؛ النَّفثات ما زالَت تَستعر في جوفه ولا شيء تغيَّر مما يحيط به، آلام الأمَّة ما زالَت هي هي، الذَّات اتخذَت موقفَ الحياد والاستسلام للأمر الواقع، وما من متنفَّس إلَّا الجَعْجَعة.. وقد استعارَ الشاعر لمقام المقال مثالًا دارجًا تردِّده الألسنة، وهذا إيجاز في قمَّة الرَّوعة، وفنية بلاغية جد متميزة، أغنَت الشاعِر عن قول مقولٍ تكثر فيه الأصوات، واكتفى بالصَّمت؛ ليتحدَّث الصمتُ بكثير ممَّا لا تَستطيع تلك الحروف المحذوفة قوله، والحذف مساحات من الجمال الأدبي يغري بتعدُّد التأويلات، وهذه الفنية تَكثر في الشِّعر الحديث.. "أُجَعْجِع ولا أطـ..." العبارة جاءت مبتورة الأصوات - الحروف - انقطع خيط فونيمات اللَّفظ، لكن رغم تَقطيع أوصال السَّبك، وقطع خَيط الحبك، لم تَنقطع الدلالات، إنَّها واضحة وجليَّة؛ فالبُعد الاجتماعي والتراكم الدلالي للعبارة عبر الزمن جعلَ المتلقِّيَ يدرِك معناها، ويستوعب دلالتها؛ مثلًا لو كَتَب كاتبٌ ما: "اختلط الحابل..." سيدرِك المتلقِّي أنَّ الكلمة المحذوفة هي "بالنَّابل"؛ لأنَّه مثَل سائر، وقد جاءت العبارة في سياق أدَّت فيه وظيفتها الدلاليَّة بامتياز.. إنَّ كلَّ ما قاله ما هو إلَّا كلام، مجرَّد كلام بلا فائدة ولا نتيجة.. جَعجعة بلا طحين!



لقد أصبحَت الأنا الشاعرة مجهَدَة، فلا جهد لمزيد من الحديث؛ لا أحد تحرَّك ولا فردًا نطَق.. إنَّها تَعتبر الإفصاح عن العبارة أمرًا مفروغًا منه، وهذه فنيَّة تضفي على المشهد مزيدًا من التيه، ومزيدًا من التفرقة، ومزيدًا من الغربة والضَّياع.. ولهذه الجعجعة دلالات أخرى، نجد شكسبير يطلُّ من بين ثنايا التناص.


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.17 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.55 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.69%)]