عرض مشاركة واحدة
  #424  
قديم 30-04-2023, 05:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,028
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ اَلنَّحْلِ
المجلد العاشر
صـ 3781 الى صـ 3795
الحلقة (424)



تنبيه :

استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل ، قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على [ ص: 3781 ] أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها. قالوا : ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام. فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل . قالوا : ولو كان أكل الخيل جائزا ; لكان ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب ; لأنه أعظم فائدة منه . وأجاب المجوزون لأكلها ، بأنه لا حجة في التعليل بالركوب ; لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره .

ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب . وأيضا لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل ; لدلت على تحريم الحمر الأهلية ، وحينئذ لا يكون ثم حاجة لتجديد التحريم لها عام خيبر . وقد قدمنا أن هذه السورة مكية .

والحاصل : أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل . فلو سلمنا أن هذه الآية متمسكا للقائلين بالتحريم ; لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال ، ودافعة لهذا الاستدلال . وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل ، أحاديث منها ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء قالت : نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا ، فأكلناه . وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والترمذي وصححه ، والنسائي وغيرهم عن جابر قال : أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية . وأخرج أبو داود [ ص: 3782 ] نحوه . وثبت أيضا في الصحيحين من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في الخيل .

وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث خالد بن الوليد قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير. ففي إسناده صالح بن يحيى ، فيه مقال . ولو فرض صحته لم يقو على معارضة أحاديث الحل . على أنه يمكن أن يكون متقدما على يوم خيبر ، فيكون منسوخا . كذا في " فتح البيان " .

وفي (" الإكليل ") : أخذ المالكية ، من الاقتران المذكور ، ردا على الحنفية في قولهم بوجوب الزكاة فيها . أي: الخيل. وقوله تعالى :

ويخلق ما لا تعلمون أي : من المخلوقات في القفار والبحار ، وصيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار . أو لاستحضار الصورة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[9] وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين .

وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين في الآية فوائد :

الأولى : قال ابن كثير : لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية, [ ص: 3783 ] نبه على الطرق المعنوية الدينية ، وكثيرا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية الدينية ، كقوله تعالى : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى وقال تعالى : يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير

ولما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها ، التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم ، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة ; شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه ، فبين أن الحق منها موصلة إليه ، فقال : وعلى الله قصد السبيل كقوله تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقال : هذا صراط علي مستقيم انتهى . وقوله سبحانه : إن علينا للهدى

الثانية : قال أبو السعود : (القصد): مصدر بمعنى الفاعل . يقال : سبيل قصد وقاصد : أي : مستقيم . على طريقة الاستعارة أو على نهج إسناد حال سالكه إليه ، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه . أي : حق عليه سبحانه وتعالى ، بموجب رحمته ووعده المحتوم ، بيان الطريق المستقيم الموصل لمن يسلكه إلى الحق ، الذي هو التوحيد : بنصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه . أو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل . قاله أبو البقاء . أي : عليه ، عز وجل ، تقويمها وتعديلها . أي : جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق . لكن لا بعد ما كانت في نفسها منحرفة عنه ، بل إبداعها ابتداء كذلك على نهج ( سبحان من صغر البعوض ، وكبر الفيل) . وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة . وقد فعل ذلك حيث أبدع هذه البدائع التي كل واحد منها لاحب يهتدى بمناره ، وعلم يستضاء بناره ، وأرسل [ ص: 3784 ] رسلا مبشرين ومنذرين ، وأنزل عليهم كتبا من جملتها هذا الوحي الناطق بحقيقة الحق ، الفاحص عن كل ما جل من الأسرار ودق ، الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلة المفضية إلى معالم الهدى ، المنجية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى .

الثالثة : الضمير في : ومنها جائر للسبيل . فإنها تؤنث . أي : وبعض السبيل مائل عن الحق ، منحرف عنه ، لا يوصل سالكه إليه . وهو طرق الضلالة التي لا يكاد يحصى عددها ، المندرج كلها تحت الجائر ، كقوله تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله

قال أبو السعود ، بعد ما تقدم ، أي : وعلى الله تعالى بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق وتعديله ، بما ذكر من نصب الأدلة ليسلكه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصد . وهذا هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب ، لا الهداية المستلزمة للاهتداء البتة . فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى . لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته ، بل هو مخل بحكمته ، حيث يستدعي تسوية المحسن والمسيء ، والمطيع والعاصي ، بحسب الاستعداد . وإليه أشير بقوله تعالى : ولو شاء لهداكم أجمعين أي : لو شاء أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد ، هداية موصلة إليه البتة ، مستلزمة لاهتدائكم أجمعين ; لفعل ذلك ، ولكن لم يشأه ; لأن مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها . ولا حكمة في تلك المشيئة ; لما أن الذي عليه يدور فلك التكليف ، وإليه ينسحب الثواب والعقاب ، إنما هو الاختيار الذي عليه يترتب الأعمال ، التي بها نيط الجزاء.

ولما كان أشرف أجسام العلم السفلي ، بعد الحيوان ، النبات ، تأثر ما مر من الإنعام بالأنعام والدواب ، التي يستدل بها على وحدته تعالى ، بذكر عجائب أحوال النبات ، للحكمة نفسها ، فقال سبحانه :

[ ص: 3785 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[10-11] هو الذي أنـزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون .

هو الذي أنـزل من السماء أي : المزن : ماء لكم منه شراب يسكن حرارة العطش : ومنه شجر أي : ومنه يحصل شجر . والمراد به : ما ينبت من الأرض ، سواء كان له ساق أو لا فيه تسيمون أي : ترعون أنعامكم.

ينبت أي : الله عز وجل : لكم به الزرع أي : الذي فيه قوت الإنسان : والزيتون أي : الذي فيه إدامه. : والنخيل والأعناب أي : اللذين فيهما ، مع ذلك ، مزيد التلذذ : ومن كل الثمرات أي : يخرجها بهذا الماء الواحد ، على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها . ولهذا قال : إن في ذلك أي : في إنزال وإنبات ما فصل : لآية لقوم يتفكرون أي : دلالة وحجة على وحدانيته تعالى . كما قال سبحانه : أمن خلق السماوات والأرض وأنـزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون

قال أبو السعود: وأصله للرازي في شرح كون ما ذكره حجة ; فإن من تفكر في أن الحبة أو النواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض ، وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع ، ويخرج منه ساق فينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع ، وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر ، لا إلى نهاية ، [ ص: 3786 ] مع اتحاد المواد واستواء نسبة الطبائع السفلية والتأثيرات العلوية ، بالنسبة إلى الكل ; علم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال ، فضلا عن أن يشاركه أخس الأشياء في أخص صفاته ، التي هي الألوهية واستحقاق العبادة . تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وحيث افتقر سلوك هذه الطريقة إلى ترتيب المقدمات الفكرية، قطع الآية الكريمة بالتفكر. انتهى . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[12] وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون .

وسخر لكم الليل والنهار أي : لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها : والشمس والقمر لإصلاح ما نيط بهما صلاحه من المكونات : والنجوم ليهتدى بها في ظلمات البر والبحر . وقوله تعالى : مسخرات بأمره حال من الجميع ، على معنى جعلها مسخرات ; لأن في التسخير معنى (الجعل) فصحت على أنه تجريد. أو على أن التسخير لهم نفع خاص.

فمعناه : نفعكم حال كونها مسخرات لما خلقت له ، مما هو طريق لنفعكم . فـ (سخر) بمعنى (نفع ) على الاستعارة أو المجاز المرسل ; لأن النفع من لوازم التسخير. أو على أن ( مسخرات ) مصدر ميمي، منصوب على أنه مفعول مطلق . وسخرها مسخرات ، على منوال ضربته ضربات، أو يجعل قوله : مسخرات بأمره بمعنى مستمرة على التسخير بأمره الإيجادي ; لأن الإحداث لا يدل على الاستمرار . وقرئ بنصب الليل والنهار وحدهما ، ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر . وقرئ : والنجوم مسخرات بالرفع مبتدأ وخبر ، وما قبله بالنصب : إن في ذلك أي : تسخير ما ذكر : لآيات لقوم يعقلون

ولما نبه تعالى على معالم السماوات ، نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة ، [ ص: 3787 ] والأشياء المختلفة ، من الحيوانات والمعادن والنباتات والجمادات ، على اختلاف ألوانها وأشكالها ، وما فيها من المنافع والخواص ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[13] وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون .

وما ذرأ عطف على قوله تعالى : والنجوم رفعا ونصبا ، على أنه مفعول (لجعل ) أي : وما خلق : لكم في الأرض أي : من حيوان ونبات: مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون

ثم نبه تعالى ممتنا على تسخيره البحر ، وتعداد النعم به إثر امتنانه بنعم البر ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[14] وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون .

وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا هو السمك .

قال الزمخشري : ووصفه بالطراوة ; لأن الفساد يسرع إليه ، فيسارع إلى أكله ، خيفة الفساد عليه .

قال الناصر : فكأن ذلك تعليم لأكله ، وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يتناول إلا طريا . والأطباء يقولون : إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون . والله أعلم . انتهى .

[ ص: 3788 ] قال الشهاب : ففيه إدماج لحكم طبي . وهذا لا ينافي تقديده وأكله مخللا ، كما توهم . انتهى .

أقول : الأظهر في سر وصفه بالطراوة : هو التنبيه على حسنه ولطفه ، وعلى التفكير في باهر قدرته وعجيب صنعه سبحانه ، في خلقه إياه ، على كيفية تباين لحوم حيوانات البر ، مع اشتراكهما في الحيوانية .

وتستخرجوا منه حلية كاللؤلؤ والمرجان : تلبسونها أي : تلبسها نساؤكم ، والإسناد إليهم ; لأنهن من جملتهم في الخلطة والتابعية ، ولأنهن إنما يتزين بها من أجلهم ، فكأنها زينتهم ولباسهم . أو معنى ( تلبسون ) تتمتعون وتلتذون ، على طريق الاستعارة والمجاز . ولو جعل من مجاز البعض لصح . أي : تلبسها نساؤكم .

قال الناصر : ولله در مالك رضي الله عنه ، حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها . وذلك مقدر بالزائد على الثلث ; لحقه فيه بالتجمل . فانظر إلى مكانة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن ، حتى جعل حظ المرأة من مالها وزينتها حلية له . فعبر عن حظه في لبسها بلبسه ، كما يعبر عن حظها سواء .

قال الشهاب : فإن قلت : الظاهر أن يقال تحلونهن ، أو تقلدونهن كما قال :


تروع حصاه حالية العذارى فتلمس جانب العقد النظيم


وهي للنساء دون الرجال . قلت : أما الأول فسهل ; لأن المراد لازمه . أي : تحلونهن . والثاني على فرض تسليمه : هم يتمتعون بزينة النساء ، فكأنهم لابسون . وإذا لم يكن تغليبا ، فهو مجاز ، بمعنى : تجعلونها لباسا لبناتكم ونسائكم .

ونكتة العدول: أن النساء [ ص: 3789 ] مأمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم . فأخفي التصريح به ليكون اللفظ كالمعنى . انتهى .

وناقش صاحب (" فتح البيان ") ما قدروه في الآية حيث قال : وظاهر قوله تعالى : تلبسونها أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان ، أي : يجعلونهما حلية لهم كما يجوز للنساء . ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله : تلبسونها بقولهم : تلبسها نساؤهم. لأنهن من جملتهم ، أو لكونهن يلبسنها لأجلهم . وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ، ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة . فإن ذلك ممنوع ، ورد الشرع بمنعه ، من جهة كونه تشبها بهن ، لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان . انتهى .

قال السيوطي في (" الإكليل ") : في الآية دليل على إباحة لبس الرجال الجواهر ونحوها . واستدل بها من قال بحنث الحالف لا يلبس حليا بلبس اللؤلؤ ; لأنه تعالى سماه (حليا) واستدل بها بعضهم على أنه لا زكاة في حلي النساء . فأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر ، أنه سئل : هل في حلي النساء صدقة ؟ قال : لا ، هي كما قال : حلية تلبسونها انتهى .

قال في (" فتح البيان ") : وفي هذا الاستدلال نظر . والذي ينبغي التعويل عليه : أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم . وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف . ولم يرد في الجواهر ، على اختلاف أصنافها ما يدل على وجوب الزكاة فيها. وقوله تعالى: وترى الفلك أي : السفن : مواخر فيه أي : جواري جمع ( ماخرة ) بمعنى جارية . وأصل معنى (المخر) : الشق ; لأنها تشق الماء بمقدمها : ولتبتغوا من فضله عطف على محذوف ، أي : لتنتفعوا بذلك : ولتبتغوا من فضله أي : من سعة رزقه ، بركوبها للتجارة : ولعلكم تشكرون أي : فتصرفون ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله.

[ ص: 3790 ] قال أبو السعود : ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر ، من حيث إن فيها قطعا لمسافة طويلة ، مع أحمال ثقيلة ، في مدة قليلة، من غير مزاولة أسباب السفر . بل من غير حركة أصلا . مع أنها في تضاعيف المهالك . وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر ; للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معا .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[15-16] وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون .

وألقى في الأرض رواسي أي : جبالا ثوابت : أن تميد بكم أي : تضطرب : وأنهارا أي : جعل فيها أنهارا تجري من مكان إلى آخر ، رزقا للعباد : وسبلا أي : طرقا يسلك فيها من بلاد إلى غيرها ، حتى في الجبال ، كما قال تعالى : وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلكم تهتدون أي : بها إلى مآربكم .

وعلامات أي : دلائل يستدل بها المسافرون من جبل ومنهل وريح ، برا وبحرا ، إذا ضلوا الطريق : وبالنجم هم يهتدون أي : في الظلام برا وبحرا . والعدول عن سنن الخطاب إلى الغيبة ; للالتفات. وتقديم ( بالنجم ) للفاصلة، وتقديم الضمير للتقوي. وهذا أولى من دعوى الزمخشري ; أن التقديم للتخصيص بقوم هم قريش لكونهم أصحاب رحلة وسفر ، وذلك لأن الخطاب في الآيات السابقة عاما فكذا يكون في لاحقها .

تنبيه :

قال في (" الإكليل ") : هذه الآية أصل لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق .

[ ص: 3791 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[17-18] أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم .

أفمن يخلق أي : كل شيء ، لا سيما تلك المصنوعات العظيمة المذكورة ، وهو الله الواحد الأحد : كمن لا يخلق أي : شيئا ما، وهو ما يعبدون من دونه، وهذا تبكيت للمشركين وإبطال لإشراكهم بإنكار أن يساويه ويستحق مشاركته ما لا يقدر على خلق شيء من ذلك ، بل على إيجاد شيء ما .

وزعم الزمخشري ومتابعوه ; أن قضية الإلزام أن يقال : ( أفمن لا يخلق كمن يخلق ) ثم تكلموا في سره . وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى : وليس الذكر كالأنثى فجدد به عهدا : أفلا تذكرون أي : فتعرفوا فساد ذلك ، فإنه لوضوحه لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر .

ثم نبه ، سبحانه وتعالى ، على كثرة نعمه عليهم وإحسانه بما لا يحصى ; إشارة إلى أن حق عبادته غير مقدور ، بقوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها أي: لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم ، فضلا أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر : إن الله لغفور رحيم أي : حيث يتجاوز عن التقصير في أداء شكرها ، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم ، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها . قاله الزمخشري .

ولاحظ ابن جرير ; أن مغفرته تعالى ورحمته لهم ، إذا تابوا وأنابوا . أي : فيتجاوز عن تقصيرهم بشكرها الحقيقي ، ولا يعذبهم بعد توبتهم وإنابتهم إلى طاعته .

لطيفة :

قال أبو السعود : كان الظاهر إيراد هذه الآية عقيب ما تقدم من النعم المعددة ، تكملة [ ص: 3792 ] لها على طريقة قوله تعالى : ويخلق ما لا تعلمون ولعل فصل ما بينهما بقوله : أفمن يخلق للمبادرة إلى إلزام الحجة ، وإلقاء الحجر ، إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل ، التي هي أدلة الوحدانية .
القول في تأويل قوله تعالى :

[19-21] والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون .

والله يعلم ما تسرون وما تعلنون أي : من أعمالكم وسيجزيكم عليه .

والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أي : فأنى تستحق الألوهية ، وقد نفي عنها أخص صفاتها ؟ فإنها ذوات مفتقرة إلى الإيجاد . أو المعنى : أن الناس يخلقونها بالنحت والتصوير . وهم لا يقدرون على نحو ذلك ، فهم أعجز من عبدتهم . كما قال الخليل عليه السلام : أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون

ثم أكد ذلك بأن أثبت لهم ما ينافي الألوهية بقوله :

أموات غير أحياء أي : هي جمادات لا أرواح فيها ، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل . وقوله : غير أحياء تأكيد أو تأسيس ، لأن بعض الأموات مما يعتريه الحياة ، سابقا أو لاحقا ، كأجساد الحيوان ، والنطف التي ينشئها الله تعالى حيوانا . فلذا احترز عنه بقوله : غير أحياء أي : لا يعتريها الحياة أصلا . فهي أموات على الإطلاق ، حالا ومآلا : وما يشعرون أي : تلك الأصنام المعبودة : أيان يبعثون أي : متى يكون [ ص: 3793 ] بعثها . وقد روي أنها تبعث ، ويجعل فيها حياة ، فتبرأ من عابديها ، ثم يؤمر بها وبهم جميعا إلى النار .

وجوز عود الضمير إلى عابديها . أي: وما تشعر الأصنام متى يبعث عبدتهم تهكما بحالها ; لأن شعور الجماد محال . فكيف بشعور ما لا يعلمه إلا الله ؟ وفيه إشعار بأن معرفته وقت البعث من لوازم الألوهية ، وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[22-23] إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين .

إلهكم إله واحد تصريح بالمدعى ، وتمحيض للنتيجة ، غب إقامة الدليل . كما أفاده أبو السعود : فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة أي : لوحدانيته تعالى ، جاحدة لها ، كما أخبر عنهم ، متعجبين من ذلك بقوله : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وقال تعالى : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون وقوله تعالى : وهم مستكبرون أي : عن عبادته تعالى .

لا جرم أي : حقا : أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين أي : عن التوحيد ، وهم المشركون ، أو عن الحق مطلقا فيتناول هؤلاء . وهذا كما قال تعالى : إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين

[ ص: 3794 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[24-25] وإذا قيل لهم ماذا أنـزل ربكم قالوا أساطير الأولين ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون .

وإذا قيل لهم ماذا أنـزل ربكم قالوا أساطير الأولين أي : لم ينزل شيئا . إنما هذا الذي يتلى علينا أحاديث الأولين ، استمدها منها . كما قال تعالى : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا

ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم أي : قالوا ذلك ليحملوا أوزارهم الخاصة بهم ، وهي أوزار ضلالهم في أنفسهم ، وبعض أوزار من أضلوهم ، كقوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون فاللام في قوله : ليحملوا لام العاقبة ; لأن ما ذكر مترتب على فعلهم . ولا باعثا إما مجازا ، وإما حقيقة ، على معنى أنه قدر صدوره منهم ليحملوا . وقد قيل : إنها للتعليل وإنها لام أمر جازمة . والمعنى : إن ذلك متحتم عليهم . فيتم الكلام عند قوله : أساطير الأولين كذا في (" العناية ") . وقوله تعالى : بغير علم قال الزمخشري : حال من المفعول : أي : من لا يعلم أنهم ضلال. وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه ، وإن لم يعلم ; لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل . فجهله لا يعذره : ألا ساء ما يزرون أي : ألا بئس ما يحملون . ففيه وعيد وتهديد .

[ ص: 3795 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[26] قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون .

قد مكر الذين من قبلهم أي : بأنبيائهم : فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم أي : قلع بنيانهم من قواعده وأسسه فهدمه عليهم حتى أهلكهم و (الإتيان) يتجوز به عن ( الإهلاك ) كقوله تعالى : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ويقال : أتي فلان من مأمنه ، أي : جاءه الهلاك من جهة أمنه . وأتى عليه الدهر : أهلكه وأفناه . ومنه الأتو وهو الموت والبلاء . يقال أتى على فلان أتو ، أي: موت أو بلاء يصيبه. وقد جوز في الآية إرادة حقيقة هلاكهم. كالمحكي عن قوم لوط وصالح عليهما السلام ، فيما تقدم . أو مجازه على طريق التمثيل ; لإفساد ما أبرموه من هدم دينه تعالى . شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد ، للإيقاع بالرسل عليهم السلام . وفي إبطاله تعالى تلك الحيل ، وجعله إياها أسبابا لهلاكهم ، بحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين . فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت ، فسقط عليهم السقف فهلكوا . ووجه الشبه : أن ما عدوه سبب بقائهم ، عاد سبب استئصالهم وفنائهم ، كقولهم : من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا . وقوله : من فوقهم متعلق بـ ( خر ) . و (من) لابتداء الغاية ، أو متعلق بمحذوف على أنه حال من (السقف) مؤكدة . وقيل : إنه ليس بتأكيد ; لأن العرب تقول : خر علينا سقف ووقع علينا حائط ، إذا انهدم في ملكه وإن لم يقع عليه : وأتاهم العذاب أي : الهلاك والدمار : من حيث لا يشعرون أي : لا يحتسبون .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.10 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.32%)]