عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 11-07-2021, 03:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,680
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المجاعات في الأندلس

ويحق للمستعرب الاسباني بدرو شالميتا Pedro Chal**** أن يرى أن معالجة المنصور للأزمة على النحو المشار إليه اقتصر على سكان قرطبة ولم يشمل سائر سكان الأندلس[71]، فهكذا يصرح النص، ولكننا نعتقد أن المساعدة الحكومية امتدت إلى سائر الأندلس حسب حاجة كل جهة، فالأهراء التي كان المنصور قد أمر بجرد مخزونها من الحبوب في سنة 374، لم تكن موجودة فقط في العاصمة، بل من الراجح أنها كانت أيضا في المدن الكبيرة وقواعد الكور.
وإلى جانب إطعام الضعفاء، اتخذ المنصور إجراءات أخرى مثل إسقاط الأعشار والتكفل بتكفين الموتى وغير ذلك من ضروب المساعدة الإنسانية.
3- سنوات الفتنة وعصر دول الطوائف
وفي نهاية القرن الرابع الهجري وبداية الخامس ابتدأ نوع أخر من المجاعات كان العامل البشري هو المسبب الأول لحدوثها وليس العامل الطبيعي كما عهدنا في المجاعات سالفة الذكر.
والعامل البشري الذي تسبب في حدوث عدد من المجاعات في الأندلس تراوح بين الفوضى والظلم وحرب الاسترداد الكاثوليكية.
وفي هذا السياق تأتي الفتنة القرطبية، فلم تكن بداية الانهيار السياسي للأندلس فحسب، ولكنها كانت أيضا بمثابة المثال الحي على ما تسببه الفوضى من أضرار بالغة للمجتمع، خاصة ما تؤدي إليه من مجاعة، وهو أكثر ما يعنينا في هذا المقام.
بدأت الفوضى، كما هو معلوم، في تاريخ الأندلس بقيام محمد بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر على الدولة العامرية والبيعة لنفسه كخليفة باسم المهدي في أواسط جمادى الآخرة سنة 399هـ (= منتصف فبراير/ شباط 1009م).
والانتزاء على الخلافة أو القيام على السلطة القائمة ليس بالأمر المستغرب، ولا يؤدي الفعل في حد ذاته بالضرورة إلى الفوضى، ولكنها تحدث عندما لا يستطيع المنتزي بحسم وسرعة السيطرة على القوى السياسية المعارضة أو تحييدها، وتوحيد البلاد سياسيا وجغرافيا، وتفعيل التنظيمات الإدارية لتسيير شؤون الحياة اليومية للناس، وإشاعة الأمن في العاصمة وخارجها. ولكن المهدي لم ينجح في شيء من ذلك.
فالبربر كقوة سياسية فاعلة خرجت عن سيطرته، وهو نفسه كان من أشد أعدائهم، وشجع حزبه الجديد المشكل من عامة قرطبة على التحرش بالبربر، فقتلوا بالفعل عددا كبيرا منهم، وهؤلاء سرعان ما بايعوا قريبه سليمان بالخلافة.
وبدأت الحرب بين الطرفين، وحدثت واقعة قـَنـْتيش التي فيها هزم جيش قرطبة في 13 ربيع الأول 400هـ (= 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1009م)، وبعد ثلاثة أيام دخل البربر قرطبة وبويع سليمان بالخلافة وسمي بالمستعين، وعند ذلك رد البربر الصاع صاعين إلى أهل قرطبة، فأذاقوهم الكثير من القتل والنهب، وأصبح هؤلاء، وحسب نص ابن عذاري، "في نقص من الأموال والأنفس، وإلى ذلك انضم الوباء والمرض"[72].
ولم تكن هذه الحالة سوى مقدمة عامة للتفاصيل المؤلمة الواقعة في العامين التاليين.
ولم يستطع المستعين بدوره الإمساك بزمام الأمور، فما كان قادرا على وقف جماح البربر في الثأر من أهل قرطبة، فشاعت الفوضى في حاضرة الأندلس، وكذلك عجز عن لمّ شمل البلاد ومواجهة معارضيه، فمـُني بهزيمة في عقبة البقر El Vacar شمالي قرطبة، وهرب على إثرها إلى شاطبةJ?tiva، واضطر البربر إلى الجلاء عن قرطبة والتراجع إلى الجزيرة الخضراء Algeciras، وعاد المهدي إلى الحاضرة مرة أخرى. وأراد أن يستغل زخم انتصاره في القضاء على المعارضة البربرية، فقاد جيشه وحلفاءه النصارى للقاء البربر فلقي هزيمة قاصمة في وادي آره Guadiaro بالقرب من رندة Ronda في 6 ذي القعدة سنة 400هـ (= 21 يونيو / حزيران 1010م)، ورجع إلى قرطبة حسيرا ليلقى حتفه اغتيالا بعد شهر في 8 ذي الحجة.
بدأت معاناة قرطبة الحقيقية بعد هزيمة وادى آره، إذ دخل البربر الزهراء في 23 ربيع الأول سنة 401هـ (= 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1010م)، وضربوا الحصار على قرطبة وقطعوا الميرة عنها، وأخذوا يغيرون على أحوازها وعلى نهب وحرق ما في طريقهم، فكان أهالي البوادي يتركون قراهم وضياعهم من الخوف وينضمون إلى قرطبة، فمات "أكثرهم جوعا بها"، إذ نزعت الأسعار وارتفع الغلاء[73]، وبلغ مُدّ القمح، وهو قفيزان ونصف قفيز، ثلاثمائة دينار مصروفة دراهم ومقدارها مائة مثقال عينا[74]، "فاشتد بها الجوع وعدمت المأكل"[75].
ونقل لنا ابن عذاري نصا كاشفا عن المجاعة في قرطبة إبان الفتنة جاء فيه "واشتد حال أهل قرطبة حتى أكل الناس الدمَ من مذابح البقر والغنم، وأكلوا الميتة […]، وكان قوم في السجن فمات منهم رجل فأكلوه"[76].
واستمر الحال على هذا النحو حتى دخل المستعين قصر قرطبة في 27 شوال سنة 403 هـ، فأخذت تخف المعـانـاة قليـلا.
وفي بداية حكم على بن حمود، سنة 407 هـ (= 1016م)، انتعش أهل قرطبة لأخذه البربر بالشدة فرخت الأسعار كما يذكر ابن حيان، بيد أن في نفس العام، على ما ينفرد بذكره ابن أبي زرع، كان بالمغرب والأندلس وإفريقية "قحط شديد ومسغبة عامة ووباء كثير"[77]، ولا تذكر المصادر الأندلسية شيئا عن ذلك، وبالتالي لا نستطيع أن نحدد مدى تأثير ذلك على الأندلس.
لم تنقطع تماما الفوضى من عاصمة الخلافة حتى قيام أبي حزم ابن جهور بأمر قرطبة وحسن تدبيره لشؤونها (422-435هـ = 1031-1043م)، فانتعشت أحوالها، وبحسب نص ابن حيان، "واستمر في تدبيره بقرطبة، فأنجح سعيه بصلاحها ولمِّ شعثها في المدة القريبة، وأثمر الثمرة الزكية، ودبّ دبيب الشفاء في السقام فنعش منها الرُّفاة وألحفها داء الأمن ومانع عنها من كان يطلبها من البرابر […] حتى ألانها بضروب احتياله فرخت الأسعار وصاح الرخاء بالناس أن يعلموا فـَلبـُّوه من كل صقع فظهر تزيُّد الناس بقرطبة من أول تدبيره لها وغلت الدور وتحركت الأسواق وتعجب ذو التحصيل للذي أرأى الله في صلاح الناس"[78].
وفي خبر مقتضب ساقه ابن حيان في إطار حديثه عن الصراع الأخوي الدائر بين أبناء المستعين سليمان ابن هود في الثغر الأعلى يذكر أن "غلاء شديدا" حلّ بتطيلة Tudela وما حولها، كان على الأرجح فيما بين 441 و442هـ (1050-1051م)، فاستغاث أهلها بالمظفر يوسف ابن هود صاحب لاردة Lérida، الذي استجاب للإغاثة وجهز "طعاما كثيرا" وأراد إرساله إلى تطيلة، وكان الطريق لذلك أحد السبيلين، إما عن طريق سرقسطة، بلاد أخيه وعدوه المقتدر أحمد ابن هود، أو عن طريق وسط بلاد رميرو الأول Ramiro I ملك أراغون، فاختار الطريق الثاني وطلب من الملك النصراني السماح بعبور القافلة عبر أراضيه مقابـل قدر من المال، وعندما علم أخوه وغريمه المقتدر بالأمر أرسل أضعاف المال إلى رميرو الأول على أن يسمح له بعبور أراضيه والتعرض لقافلة الميرة، وبالفعل نال الموافقة، فقطع الطريق على القافلة وقتل حاميتها وفاز النصارى بالأسلاب فضلا عن الأموال، أما هو فقد نال مراده، إذ دخل أهل تطيلة في طاعته وخرجوا على المظفر[79].
لا ينتاب الباحث في تاريخ الأندلس الاجتماعي فقط الإحساس بالخيبة من قلة الأخبار والمادة التاريخية الخاصة بموضوعنا، بل أيضا يتملكه الغيظ الشديد من اقتضاب أو صمت المصادر بشأن ما قد يراه خبرا هاما، ولدينا مثال كاشف على ما نقول. فيشير مؤرخون كبار مثل ابن بشكوال وابن عبد الملك المراكشي وابن الزبير إلى مجاعة كبيرة بالأندلس عام 448 هـ (= 1056-1057م) دون تفاصيل تشفي الغليل، وإذا كان عذر هؤلاء أنهم مؤرخو تراجم، فما عذر مؤرخ كبير مثل ابن حيان الذي كان معاصرا للحدث، اللهم إذا كان هذا الخبر متضمنا فيما ضاع من كتابات هذا المؤرخ الفذ.
وتأتي أول إشارة لخبر هذا المجاعة من ابن بشكوال فيذكر أن ابن المكوي عبد الله بن أحمد بن عبد الملك بن هاشم توفي بقرطبة في جمادى الأولى عام 448هـ (= يوليو/ تموز 1056م) "بالصيلم المشهورة بالأندلس"[80]، والصيلم: الداهية على الإجمال، ولكن في نص آخر لابن بشكوال نقلا عن ابن حيان يرجح لدينا أن المقصود بها المجاعة، إذ يقول المؤرخ القرطبي أن ابن الصناع محمد بن عبد الله المقرئ توفي بقرطبة صبيحة يوم الجمعة التاسع من المحرم سنة 448هـ (= أواخر مارس / آذار 1056م) "أيام اشتد القحط"[81]، وبمقارنة تاريخيْ الوفاتين نستنج أن القحط حدث على الأرجح في سنة 447هـ، وباشتداده أخذت المجاعة في الحدوث لتصل في العام التالي إلى عنفوانها حتى يصل ابن بشكوال إلى وصفها بالصيلم.
ويسميها معاصر لها "عام الجوع الكبير"، فيقول الإشبيلي أبو مروان عبد الملك ابن المليلة (ت 535هـ = 1140-1141م) "كنت عام الجوع الكبير ابن اثنتي عشر عاما، وكان الناس يدفنون الثلاثة والأربعة في قبر واحد، والمساجد مربوطة أبوابها بالخزم (الحِبال) لا يوجد لها من يؤم بها ولا من يصلي فيها"[82]، ويحدد ابن عبد الملك المراكشي العام بقوله: "وكان الجوع الكبير سنة ثمان وأربعين وأربعمائة"[83]، ويتفق معه ابن الزبير[84]، أي كان ذلك في عهد المعتضد بالله ابن عباد (433-461هـ = 1042-1069م).
ويتفق تاريخ المجاعة المذكورة مع ما وقع من غلاء ووباء في بلدان كثيرة مثل العراق وخراسان والشام والحجاز وديار بكر ومصر واليمن و"الدنيا كلها" كما يقول ابن الجوزي[85].
ومما يجدر ذكره أن القحط المشار إليه والذي وقع في قرطبة واشبيلية في سنة 447هـ، ثم ما تلاه من مجاعة في العام التالي، لا نجد له ذكرا في باقي مناطق الأندلس حسب المصادر التي بأيدينا، بل إن علي بن مجاهد العامري صاحب دانية وجـّه مركبا كبيرا مملؤا طعاما إلى مصر سنة الجوع العظيم الذي كان بها في عام 447هـ، فرجع إليه المركب مملؤا ياقوتا وجوهرا وذهبا وذخائر[86]، وهذا الفعل وإن يحمل إلى الظن بأن شرق الأندلس قد نجـا من شـر المجاعة المذكورة، فإنه من المحتمل أيضا أن صاحب دانية قد أرسله من مذخور الطعام في بلده.
وفي ترجمة الإشبيلي أبي عبد الله محمد ابن منظور القيسي (ت شوال 469هـ = فبراير / شباط مارس / آذار 1077م) يشير ابن بشكوال إلى قحط أصاب أهل إشبيلية، ونجهل إن كان هو نفس القحط الحادث سنة 447هـ، فـ"بلغ قفيزهم أحد عشر مثقالا، وزيتهم ثمانية مثاقيل القسط"[87].
ولدينا خبر عن حدوث جـَدْب في بطليوس Badajos في عهد أميرها عمر المتوكل على الله ابن الأفطس (حكم على الأرجح من عام 464 إلى 487هـ = 1072-1095م) دون تحديد سنة حدوثه، ويبدو أن القحط كان شديدا، "فأقلع المتوكل عن الشرب واللهو، ونزع ملابس الخيلاء والزهو" حسب نص الفتح بن خاقان[88].
وفي إشارة مقتضبة يشير ابن القصيرة على لسان المعتمد بن عباد في رسالة مؤرخة في 478هـ (= 1085-1086م)، في الغالب، موجهة إلى أقرانه ملوك الطوائف إلى سوء الأحوال في مملكته، فإلى جانب تهديدات ألفونسو السادس Alfonso VI ملك قشتالة فإن البلاد كانت تعاني من "جائحة القحط والجراد"[89]، ولا توجد لدينا معلومات عن هذا القحط وتأثيره.
ومن المناسب أن نشير في هذا المقام إلى شكل آخر من أشكال الجوع كان سبب وقوعه الظلم الفادح الواقع على الرعية، ولدينا بهذا الشأن نص فريد للمؤرخ ابن حيان عن أحوال الرعية في بلنسية تحت حكم الصقلبيـّيـْن العامريين مبارك ومظفـَّر (نحو 402-409هـ = 1011-1018م) [90]؛ فيذكر المؤرخ القرطبي أن تحت وطأة الضرائب العالية التي فرضها الحاكمين المذكورين ساءت حال أهل القرى وهرب عدد كبير منهم وخربت أراضيهم وأصبح "كثير منهم يلبسون الجلود والحصر ويأكلون البقل والحشيش".
وبطبيعة الحال عانى المسلمون من جراء حرب الاسترداد النصرانية بداية من النصف الثاني من القرن الخامس الهجري (= الحادي عشر الميلادي) معاناة شديدة ومتنوعة من قتل وحرق وفقد للممتلكات، وغير ذلك، ومع ذلك، فإن الجوع الذي عاناه أهل بلنسية كان من أشد ما عرفه مسلمو الأندلس خلال تلك الحرب.
ويعزو ابن عذاري ذلك لطول مدة الحصار[91]؛ وهذا صحيح على الإجمال إذ دام حصار السِّيِد الكمبيادور Cid Campeador للمدينة قرابة عشرين شهرا، وبالتحديد 19 شهرا شمسيا ونصف الشهر، من نوفمبر / تشرين الثاني 1092 إلى 15 يونيو / حزيران 1094.
ولكن الحقيقة أن هذه الفترة تضمنت حوالي خمسة أشهر، من أبريل / نيسان 1093 إلى أواخر أغسطس / آب 1094، رفع فيها السـِّيد الحصار عن بلنسية، ولكنه لم يبتعد عن المدينة، إذا كان مقيما في أحد أحيائها الخارجية، وجيشه معسكرا على مشارفها، كما أن أهلها وغالبية توابعها كانوا يدفعون له إتاوة باهظة. على أية حال، خلال الحصار الثاني الذي امتد حوالي تسعة أشهر عانى البلنسيون الكثير حيث "هلك أكثر الناس جوعا، وأكلت الجلود والدواب وغير ذلك"[92]، وفي موضع آخر يقول ابن عذاري نقلا عن المؤرخ محمد بن علقمة (ت شوال من عام 509هـ = مارس / آذار 1116م): "وعدم الناس الطعام وأكلوا الفيران والكلاب والجياف إلى أن أكل الناسُ الناسَ، ومن مات منهم أكلوه فبلغ الناس من الجهد ما لا يطيقون، وقد ألف ابن علقمة كتابا في أمرها وحصارها يبكي القارئ ويذهل العاقل"[93].
وابن علقمة المذكور مؤرخ بلنسي شهد الحصار وعاناه وكتب في ذلك كتابا سماه "المصاب الفادح"، وللأسف فقد الكتاب ولم تبق منه إلا قطعة حفظها لنا ابن عذاري في كتابه البيان المغرب.
وتتضمن هذه القطعة تفاصيل دقيقة عن الحصار في الشهور الثلاثة الأخيرة السابقة على استسلام المدينة، ونحن بدورنا نسوق هذه التفاصيل لأهميتها البالغة[94]؛ فحسب هذا المصدر ارتفعت الأسعار واشتد الغلاء، وهذه هي قائمة الأسعار في شهر ربيع الأول 487هـ (= 21 مارس / آذار19 أبريل / نيسان 1094):
رطل القمح = مثقال ونصف
رطل الشعير= مثقال
رطل زريعة الكتان = ستة أثمان مثقال
أوقية الجبن = ثلاثة دراهم
أوقية البصل = درهم
رطل البقل = خمسة دراهم
بيضة دجاجة = 3 دراهم
رطل اللحم البغلي = 6 دنانير
رطل الجلد البقري = 5 دراهم
وفي شهر ربيع الثاني (= 20 أبريل / نيسان - 18 مايو / أيار 1094)، "عظم البلاء، وتضاعف الغلاء، واستوى في عُدم القوت الفقراء والأغنياء"، فأمر حاكم المدينة القاضي ابن جحـّاف باقتحام الدور فحصا عن الطعام محاولة منه للتخفيف من الأزمة. وانتهى هذا الشهر وقد بلغ سعر رطل القمح ثلاثة مثاقيل إلا ربعا، "وما سواه تابع له"، أي أن الزيادة في سعره كانت مؤشر الزيادة في أسعار باقي السلع، وبالتالي فإذا كانت الزيادة في سعر رطل القمح قد بلغت حوالي 83%، يمكننا حساب نسبة الزيادة في أسعار باقي السلع، فمثلا وصل سعر أوقية الجبن إلى خمسة دراهم ونصف الدرهم تقريبا، وهكذا. وحسب ابن علقمة، لم يكن يقدر على الحصول على الطعام "إلا أهل الجاه"، بينما ترمّـق عامّـة الناس بالجلود والأصماغ (اللدائـن) وعروق السوس"، أما المعدمون فـ"بالفئرة والقطط وجيف بني آدم"؛ وقيل أن الفأر وصل سعره إلى دينار[95]؛ وقيل أيضا أن نصرانيا وقع في خندق المدينة، فأخذت جثته ووزعت لحما.
ومن الصور المأساوية المثيرة في هذه الفترة ما يذكره أيضا ابن علقمة من أن الكمبيادور كان يحرق من يحاول الهروب من المدينة لئلا يخرج ضِعاف الناس فيتوفر الطعام للقادرين، ومع ذلك فضّـل عددٌ من الناس الإحراق بالنار على الموت جوعا. ودخل شهر جمادى الأولى، وعدمت الأقوات كلية وانتشر الوباء وهلك كثير من الناس، "وبينما الرجل يمشي سقط ميتا"، ويذكر أيضا أنه لم يبق في المدينة من الدواب إلا أربع، اثنان لحاكم المدينة وولده، واثنان لأحد الوجهاء، وهذا الأخير باع فرسه للجزارين بمائتي مثقال، واستثنى منه عشرة أرطال، "فبيع الرطل منه أوله بعشرة دنانير، وآخره باثني عشر دينارا، ورأسه بخمسة عشرة مثقالا". وفي هذا الشهر حتى منتصف جمادى الأولى، وهو اليوم الذي دخل فيه السيد الكمبيادور المدينة، كانت الأسعار على النحو التالي:
رطل القمح = ثلاثة مثاقيل
رطل الشعير = مثقالان ونصف المثقال
أوقية الجبن = عشرة دراهم
بيضة دجاجة = ثمانية دراهم
ولا غرو أن يساهم الجوع الشديد، الذي كان يعاني منه أهل بلنسية من جراء الحصار الخانق، في سقوط المدينة.
4- عصر المرابطين والموحدين
كان قيام يوسف بن تاشفين بالقضاء على دول الطوائف الأندلسية منعطفا مهما في تاريخ الأندلس، فقد أصبحت البلاد منذ ذلك التاريخ تابعة سياسيا لمراكش، واستمر هكذا الحال في عصر الموحدين باستثناء السنوات القليلة الواقعة بين أواخر الدولة المرابطية والسنوات الأولي من الدولة الموحدية وكذلك السنوات الأخيرة من عصر سيادة الموحدين في الأندلس. وكنتيجة لهذه التبعية السياسية أصبح الاقتصاد الأندلسي مرتبطا بالمغربي، أو أكثر ارتباطا من ذي قبل، وبالتالي من المفترض أن الأزمات الاقتصادية، خاصة المجاعات، الواقعة في الجانب المغربي كانت تؤثر على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الأندلس.
في العصر المرابطي وقع قحط شديد في بلاد الأندلس والعدوة في سنة 498هـ (= 1104-1105م) "حتى أيقن الناس بالهلاك"[96] على ما يذكر ابن عذاري.
كما حدث قحط بغرناطة في سنة 524هـ (= 1130م)، فصلى قاضيها حينئذ أبو محمد عبد المنعم بن مروان الهلالي بالناس صلاة الاستسقاء فسقوا وذلك في يوم الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى من السنة المذكورة (= أواخر أبريل / نيسان 1130م)[97].
غير أنه في ترجمة أبي عمران موسى بن عبد الرحمن بن حماد الصنهاجي (ت 535هـ = 1140-1141م) من تراجم الغرباء لنفس المؤلف المنشورة في كتاب "الذيل والتكملة" يأتي ذكر حدوث قحط في غرناطة سنة 525هـ (= 1130-1131م)[98].
ورغم أنه لا يوجد فيما بين أيدينا ما يقطع بأنه هو نفس القحط المشار إليه في عام 524هـ، أو أنه قد تجدّد في العام التالي، أو استمر إلى ذلك العام، فإن حديث ابن القطـّان عن اشتداد المجاعة والوباء بالناس بقرطبة، وكثرة عدد الموتى[99]، يرجح لدينا أن القحط، العامل الأساس في حدوث المجاعة، قد عمّ أغلب مناطق جنوب الأندلس وأنه توالى حتى سنة 526هـ، وهو عام اشتداد المجاعة كما يقول ابن القطان. ويبدو أن المجاعة المذكورة كانت شديدة، إذ بلغ مد القمح خمسة عشر دينارا[100]، ومن المرجح أن إلى هذه الشدة ترجع إشارات الشاعر الزجال ابن قزمان (ت 555هـ = 1160-1161م)، فيتحدث عن ضيق المعاش ودوام الغلاء في عام القحط الذي لا علاج له، وارتفاع ثمن الدقيق حتى أصبح أغلى من الدواء، وأن الشعير عند الناس بات يُعدّ بالحبـّة، وأن الجو صحو لا أثر فيه لغمام وأن الشمس حارقة، ويتمنى نزول الغيث، ويشتاق إلى الرخاء[101]، وكذلك يلوح لنا أن إلى هذه الشدة كان يشير الكاتـب الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال (ت 540هـ = 1146م) في رسائـله[102].
ولا ندري متى انتهت المجاعة بالضبط، وهى وإن خفت حدتها بنزول الغيث على الأرجح في أواخر سنة 526هـ، فإن الأزمة ظلت مستمرة بقدر ما وذلك بسبب توالي هجوم الجراد على زرع الأندلس حتى سنة 531هـ (= 1136-1137م).
وفي ترجمة أبي بكر أحمد بن محمد بن جعفر بن سفيان المخزومي إشارة إلى "الغلاء المفرط" ببلنسية في سنة 540هـ (= 1145-1146م)، والذي فرَّق فيه الصوفي أبو العباس الإقليشي (ت 550 أو 551هـ = 1155 أو 1156م) نفقة الحج التي أعدها وهي 60 دينارا على طعام للضعفاء والمساكين، وكذلك أنفق صاحب الترجمة، أي أبو بكر أحمد المخزومي (توفي في حدود عام 580هـ = 1184-1185م)، لنفس الغرض ألفي دينار[103].
وليس لدينا خبر عن أسباب الغلاء، وإن كنا نرجح أن الإضرابات السياسية الحادثة في بلنسية وشرق الأندلس في أواخر الدولة المرابطية كانت السبب في حدوث الغلاء المذكور أو كانت عاملا أساسيا في استفحال الأزمة.
ورغم دخول إشبيلية في طاعة الموحدين في شعبان سنة 541هـ (= يناير/ كانون الثاني 1147م)، فإنها لم تنعم بالأمان سوى عدة أشهر من جراء الفتن التي أثارها الجند الموحدي بداخلها من جهة، ومن جهة أخرى بسبب تعرضها للإغارة المتصلة من قبل الجهات المجاورة لها مثل لـَبلة Niebla وقرطبة اللتان كانتا حينئذ خارج سيطرة الموحدين، فضلا عن اشتعال الفتنة في أغلب سائر غرب الأندلس، فاضطرب أمر أهل اشبيلية وظلّ على هذا الحال قرابة سنتين خلال عامي 542 و543هـ (= حتى منتصف عام 1149م) على ما يذكر صاحب "البيان المغرب"[104]، فارتفعت الأسعار خلال ذلك، وزاد من الأزمة تعرض المدينة لحصار بحري وتوقف التجار من تسيير بضاعتهم خوفا على أرواحهم وأموالهم، فأسفرت المجاعة عن وجهها، ويشير ابن عذاري إلى اشتدادها "حتى بيعت خبزة بدرهم ونصف، وبيع قدح القمح بستة وثلاثين درهما، وباع الناس أموالهم بإشبيلية بالأيسر اليسير، واستوى الغني بها والفقير"[105].
وفي عام 543هـ حاصر النصارى قرطبة، فحدثت بها مجاعة حتى تم رفع الحصار عنها[106]، ولكن يذكر ابن الأثير أن الأذفونش (ألفونسو) ملك طليطلة حصر قرطبة سنة 545 وهي في ضعف وغلاء لمدة ثلاثة أشهر[107]، ولا نعلم هل هو نفس الحصار المشار إليه أم هو حصار آخر ومن ثم مجاعة أخرى عاشتها المدينة. بيد أن الحاضرة العتيقة قد عانت كثيرا فيما بعد من هجوم ابراهيم بن هَمـُشـْك، حليف وصهر محمد بن مـَرْدَنيش سيد شرق الأندلس، وإلحاحه يوميا عليها بالغارات وقطعه زروعها كل صيف على مدى السنوات الثلاث التي كان فيها الموحدون مشغولون بفتح إفريقية (553-555هـ = 1158-1160م)، ولهذا يـُذكر أن الموحدين عندما دخلوا قرطبة يوم الأحد 12 من شوال من سنة 557هـ (= أواخر يوليو/ تموز 1162م) وجدوا بها عددا قليلا من سكانها في حالة يـُرْثى لها بسبب الفتنة والمجاعة[108].
وبعد قرابة عشر سنوات تطالعنا صورة مشابهة لذلك ولكنها لأهل قونكة Cuenca، فيحدثنا ابن صاحب الصلاة الذي كان شاهدا على وضعهم المزري عندما استقبلوا الخليفة الموحدي أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن على رأس جيشه يوم الثلاثاء غرة ذي الحجة سنة 567هـ (= 24 أكتوبر / تشرين الأول 1172)، وكانوا قد تعرضوا لحصار النصارى قرابة خمسة أشهر، وعندما علم النصارى بحركة الجيش الموحدى، أقلعوا عنهم وتركوهم "كأنهم قد نشروا من كفن وخرجوا من جدث"، فأمر الخليفة بأن يكتب أسماءهم، فأحصوا وكان عددهم سبعمائة نسمة بين مقاتل وامرأة وصبي وطفل، فأمر لهم بمال وُزِّع عليهم وأمدهم بأسلحة وطعام[109].
والمثير في الأمر أن نفس هذا الجيش الموحدي بقيادة الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، الذي أنقذ أهل قونكة من الهلاك كما ذكرنا، تعرض في حملته العسكرية تلك التي عرفت بغزاة وَبْـذة Huete (استمرت نحو خمسة أشهر من الاثنين 11 من شوال عام 567هـ إلى الخميس 8 من ربيع الأول سنة 568هـ = أوائل يونيو / حزيران إلى أواخر أكتوبر / تشرين الأول 1172م) لشدائد عدة منها قلة الزاد حتى وصل الحال إلى وصفها بالمجاعة طبقا لابن صاحب الصلاة الذي كان مصاحبا للجيش الموحدي[110].
وعود إلى السياق الزمني، ففي خبر مضطرب السياق يذكر ابن الأثير أن الموحدين حاصروا ألمرية Almer?a عدة شهور في سنة 546 (= 1151-1152م)، وكانت المدينة قد وقعت قبل ذلك في سنة 542هـ (= 1147م) في أيدي النصـارى، ولكن حدث أن اشتد الغلاء في العسكر الموحــدي وعدمت الأقوات، فرفع الموحدون الحصار ورحلوا عن المدينة، وعادوا إلى إشبيليـة[111].
ورغم أن ابن أبي زرع يجعل حصار ألمرية وفتحها في السنة المذكورة[112]، أي أنه يتفق مع ابن الأثير على حدوث عمل عسكري بألمرية في ذلك العام، فإنه من المعلوم أن استيلاء الموحدين على ألمرية تمَّ في أواخر سنة 551 أو أوائل 552هـ (= 1157م)[113]؛ ومع ذلك، فليس من المستبعد أن الموحدين قاموا بمحاولة أولى لاستخلاص المدينة من أيدي النصارى في سنة 546هـ.
ولكن ما يهمنا في هذا السياق إشارة ابن الأثير إلى الغلاء وقلة الأقوات في الجيش الموحدي، ولعل هذا، فضلا عن تزعزع سلطة الموحدين في غرناطة على إثر استيلاء ابن همشك على قصبتها ثم هزيمة الموحدين في السواقي عام 557هـ (= أوائل 1162م)، ما جعل الخليفة عبد المؤمن، في إطار استعداده لدخول الأندلس وتدعيم سلطته هنالك، يقوم بإعداد كميات هائلة من القمح والشعير في مرسى المعمورة، المهدية فيما بعد، على وادي سبو، وكان ابن صاحب الصلاة شاهدا عيانا على الكميات المذكورة قائلا إن "ما عاينته مكدسـا كأمثـال الجبال، بما لم يتقدم لملك قبله ولا سمعنا به في جيل من الأجيال"[114].
ثم يذكر أن الميرة بقيت في موضعها المذكور قرابة خمس سنوات، من سنة 557 إلى 562هـ (= 1162-1166م)، حتى فسد وفني وأصبح ترابا[115].
وبعد استعادة قصبة غرناطة على إثر انتصار الموحدين في موقعة السبيكة في يوم الجمعة 28 رجب من عام 557هـ (= 13 يوليو / تموز 1162م) ملئت مخازن المدينة بكميات كبيرة من القمح والشعير والملح وآلات الحرب نـُقـِلت إليها من العدوة المغربية في المراكب إلى حصن المنكب Almu?écar ومنه إلى غرناطة[116].
وقد يتبادر إلى الذهن أن الكميات الأخيرة المذكورة هي نفسها الأولى قد نـُقـِلت إلى غرناطة، أو قد تم نقل جزء كبير منها، لكن لا يمكننا الجزم بذلك، وعلى كل الأحوال، وحسب كلمات ابن صاحب الصلاة نفسه، فإنها كانت أيضا كميات هائلة عمرت بها المدينة وأمن بها الجيش الموحدين على نفسه. وما من شك أن نقل الميرة بمثل هذه الكميات الضخمة من المغرب إنما يدل على عدم استقرار سلطة الموحدين بالأندلس حتى أواخر عهد الخليفة عبد المؤمن، وأنهم ما كانوا بعدُ قادرين على توفير الميرة لجيشهم اعتمادا على مصادر تموين أندلسية، فجلبوها من العدوة المغربية.
وحسبما يذكر ابن عذاري فإنه في رجب عام 565هـ (= مارس / آذار أبريل / نيسان 1170م) ضعف حال مدينة بطليوس وعدم أهلها القوت، ولم يذكر سبب ذلك، ولكن في الأغلب كان بسبب تعرضها لمضايقة صاحب قلمرية Coimbra النصراني ابن الرنك (Alfonos Enr?quez)، فاهتبل الفرصة ونزلها بجنوده، فامتلكوها وحاصروا الموحدين الذين في قصبتها، فجمع لهم الموحدون بإشبيلية مؤنا عظيمة وأرسلوها مع جمع من العسكر، فخرج لهم جرنده Giraldo الجليقي، قائد ابن الرنك، على رأس عسكره من النصارى فهزموا المسلمين وقتلوا قائدهم ونهبوا الميرة في 26 من شعبان (= 15 مايو / أيار) في العام المذكور[117].
وفي إشارة مقتضبة لابن صاحب الصلاة يذكر أنه في نفس العام، عام 565هـ، حدث انحباس المطر في الأندلس وقت الاحتراث، أي خلال شهري أكتوبر / تشرين الأول ونوفمبر / تشرين الثاني من عام 1169م، واستمر حتى شهر ديسمبر / كانون الأول، ثم نزل المطر وحرث الناس[118]، والظاهر أن تأخر المطر لم يؤد إلى مجاعة.
الجزء الاول انتهى


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.58 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 35.95 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.72%)]