عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 21-08-2021, 10:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس مستفادة من صلح الحديبية

دروس مستفادة من صلح الحديبية (9)
- الصحابة هم الأساس الذي قام عليه صرح الإسلام


أحمد الشحات




سطَّر القرآن الكريم الدروس والفوائد التي تضمنها صلح الحديبية في ثنايا سورة الفتح، وقد جعل -الله -تعالى- ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روي عن ابن مسعود، -رضي الله عنه-، وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية، واليوم مع الدرس التاسع وهو الصحابة هم الأساس الذي قام عليه صرح الإسلام.

يكافئ القرآن الصحابة الذين بايعوا على الموت فيقول: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (الفتح: ١٨ - ١٩)، فالله -عز وجل- قد رضي عن المؤمنين من أجل مبايعتهم على الموت، فلما بايعوا وتحفزوا لقتال المشركين ووقع الصلح حصل لهم حزن في نفوسهم؛ فأعلمهم الله أنه اطلع على ما في قلوبهم من الحزن، وأثنى على حبهم نصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقول والفعل؛ ولذلك رتب على هذه الرغبة نزول الطمأنينة والثقة بتحقيق ما وعدهم الله من الفتح القريب.

فتح خيبر

وهذا الفتح هو فتح خيبر فإنه كان خاصا بأهل الحديبية وكان قريبا من يوم البيعة بنحو شهر ونصف، والمغانم الكثيرة المذكورة هنا هي: مغانم أرض خيبر، وفائدة وصف المغانم بجملة (يأخذونها) هو تحقيق حصول فائدة هذا الوعد لجميع أهل البيعة قبل أن يقع بالفعل، ففيه زيادة تحقيق لكون الفتح قريبا وبشارة لهم بأنهم لا يهلك منهم أحد قبل رؤية هذا الفتح.

ثناء الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته

وقد أثنى الوحى على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صحابته ثناءً راقياً في قرآن يُتلى إلى يوم الدين، فقال -تعالى-: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(الفتح: ٢٩).

أحوال عجيبة

إنها أحوال عجيبة يسطرها القرآن الكريم بأسلوبه البديع، لجماعة المسلمين، فحال مع أنفسهم ومع الكفار: «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» وحال يبين هيئتهم في عبادتهم: «تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً»، وحال يخبر عما يشغل قلوبهم ويجيش بها: «يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً»، وحال يوضح أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم: «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ»، «ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ».. وهذه صفتهم فيها، وأحوال متتابعة لهم كما هم في الإنجيل.. «كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ» «فَآزَرَهُ».. «فَاسْتَغْلَظَ» «فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ». «يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ»..: «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ»..

مشاهد شتى للمؤمنين

وقد وصفت الآية مشاهد شتى للمؤمنين، تلك اللقطات التي تتناول الحالات الثابتة في حياتهم، ونقط الارتكاز الأصيلة في هذه الحياة. وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة، وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها. التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة.

أشداء على الكفار

إرادة التكريم واضحة، وهو يسجل لهم في المشهد الأول أنهم: «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ».. أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا. رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين. فهي الشدة لله والرحمة لله. وهي الحمية للعقيدة، والسماحة للعقيدة، فليس لهم في أنفسهم شيء، ولا لأنفسهم فيهم شيء. وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم، كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها، يشتدون على أعدائهم فيها، ويلينون لإخوتهم فيها، قد تجردوا من الأنانية ومن الهوى، ومن الانفعال لغير الله، والوشيجة التي تربطهم بالله.

هيئاتهم وحالاتهم

وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم، هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة: «تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً»، والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم. ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة، وهي الحالة الأصلية لهم في حقيقة نفوسهم فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا.

بواطن نفوسهم

والمشهد الثالث مثله، ولكنه مشهد لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم: «يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً».. فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة. كل ما يشغل بالهم، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم، هو فضل الله ورضوانه. ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به.

أثر العبادة الظاهرة

والمشهد الرابع يثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم، ونضحها على سماتهم: «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ»، سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف، وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله: «مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ».. فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة، واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها. فهو أثر هذا الخشوع. أثره في ملامح الوجه، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة. ويحل مكانها التواضع النبيل، والشفافية الصافية، والوضاءة الهادئة، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا.

مشاهد ثابتة

وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه المشاهد ليست مستحدثة، إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة: «ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ».. وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى، وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها. «وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ».. وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه، أنهم: «كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ».. فهو زرع نام قوي، يخرج فرخه من قوته وخصوبته. ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده. «فَآزَرَهُ». أو أن العود آزر فرخه فشده. «فَاسْتَغْلَظَ» الزرع وضخمت ساقة وامتلأت. «فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ» لا معوجا ومحنيا. ولكن مستقيما قويا سويا.

هذه صورته في ذاته. فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة في الزرع، العارفين بالنامي منه والذابل، المثمر منه والبائر. فهو وقع البهجة والإعجاب: «يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ». وفي قراءة يعجب «الزارع».. وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحب هذا الزرع النامي القوي المخصب البهيج.. وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس. فهو وقع الغيظ والكمد: «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ».. وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزرعة هي زرعة الله، أو زرعة رسوله، وأنهم ستار للقدرة وأداة لإغاظة أعداء الله! وهذا المثل كذلك ليس مستحدثا، فهو ثابت في صفحة القدر، ومن ثم ورد ذكره قبل أن يجيء محمد ومن معه إلى هذه الأرض، ثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيئون.

صفة هذه الجماعة المختارة

وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة، صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. فتثبت في صلب الوجود كله، وتتجاوب بها أرجاؤه، وهو يتسمع إليها من بارئ الوجود، وتبقى نموذجا للأجيال، تحاول أن تحققها، لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات، وفوق هذا التكريم كله، وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً».. وهو وعد يجيء في هذه الصيغة العامة بعد ما تقدم من صفتهم، التي تجعلهم أول الداخلين في هذه الصيغة العامة. مغفرة وأجر عظيم.. وذلك التكريم وحده حسبهم، وذلك الرضى وحده أجر عظيم، ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود، والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ».


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.60 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.82%)]