عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 21-01-2022, 10:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي نظرة تحليلية لقصيدة النثر

نظرة تحليلية لقصيدة النثر


د. إبراهيم عوض





فنون الأدبفي لغة العرب (5)




وكنت أتحدث مع أحد معارفي ممن يمسكون بالقلم ويكتبون، وكان معجبًا بقصيدة الأستاذ أحمد عبدالمعطي حجازي: "طردية"، ويثني عليها ثناءً كبيرًا كأنها فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخطب، فقلت له: إن القصيدة رديئة لا معنى لها، فهي أشبه بالأحاجي، ويصعب عليَّ أن أتذوَّقها، وليس فيها فن، وأنت تعرف أنني في مثل تلك الحالة لا أواري ولا أداري، بل أقول رأيي واضحًا صريحًا لا جَمحمة فيه، وبخاصة أنني أدرك إلى أي مدًى قد أفسد الذوقَ الأدبي كثيرٌ ممن يظنون أنفسهم نُقَّادًا هذه الأيام، ولكن علي أن أضع القصيدة أولاً بين يدي القراء قبل أن أكرَّ عليها بما يجلي رأيي فيها:

هو الربيع كان

واليوم أحد

وليست في المدينة التي خلت

وفاح عطرها سواي

قلت: أصطاد القطا

كان القطا يتبعني من بلد إلى بلد

يحط في حلمي ويشدو

فإذا قمت شرد

حملت قوسي

وتوغلت بعيدًا في النهار المبتعد

أبحث عن طير القطا

حتى تشممت احتراق الوقت في العشب

ولاح لي بريق يرتعد

كان القطا يدخل كاللؤلؤ في السماء

ثم ينعقد

مقتربًا

مسترجعًا صورته من البدد

مساقطًا

كأنما على يدي

مرفرفًا على مسارب المياه كالزبد

صوبت نحوه نهاري كله

ولم أصد

عدت بين الماء والغيمة

بين الحلم واليقظة

مسلوب الرشد

ومذ خرجت من بلادي



وأول ما أَلفت النظر إليه هو الاستغلاق الذي يسربل القصيدة، فلا يعطيك فرصةً للفهم، ومن ثم لا يمكنك تذوُّقها، علاوةً على خُلوِّها من الفن، ولسوف آتي إلى ذلك بعد قليل، لكن أبدأ بالعنوان الذي اتخذه "حجازي" لقصيدته هذه التي تدور حول محاولة صاحبها صيْدَ القطا، وهو نوع برِّي من الحمام يعيش في الصحراء، وهذا العنوان هو كلمة "طردية".



و"الطردية" أرجوزة يخصصها الشاعر لوصف مطاردته للثعالب أو الظباء، أو الأرانب البرية أو الطيور وما أشبه، وفي هذه المطاردة يحاول الصيَّاد الإيقاعَ بالحيوان أو الطائر المذكور، فإذا ما حاوَل أن يُفلت منه بالجري أو بالطيران، أرسل عليه كلبًا أو بازيًا ينقضُّ عليه ويمسكه، وهو أمر ممكن؛ لأن كلاًّ من المطارِد والمطارَد يستعمل ذات الوسيلة في الحركة: الأرجل إن تمت المطاردة في حالة الحيوان عن طريق الكلاب مثلاً، أو الجناح إن تمت المطاردة عن طريق البازي في حالة الطائر، أما صيد الطير هنا، فلا يسمى: "طردية"؛ لأنه متى أحسَّ بالخطر، هرب محلِّقًا بعيدًا في السماء، مستخدمًا وسيلةً ليست متاحةً للشاعر، وهي الجناح؛ إذ ليس معه بازٍ يمكن أن يرسله وراء الطائر، ومِن ثَمَّ لا يستطيع مطاردته، بل يتركه يمضي وهو يعَضُّ بنانَ الغيظ، فكيف إذًا يسمِّي شاعرُنا قصيدتَه في صيد القطا: "طردية"، وليس فيها مطاردة؟



كذلك ففي الطردية ينتهز الشاعر الفرصة للتفنُّن في وصف كلبه، أو فهده، أو بازيه، أو باشقه، أو شاهينه، أو صقره الذي يستخدمه في المطاردة، فيتناول مبهورًا مفتونًا أعضاءه ورشاقته، وحركاته وانقضاضه على الفريسة، وعراكه معها في شعر بديع، يصور لنا طبيعة الحياة، وكيف أنها قائمة في جانب منها في أقل تقدير، على الصراع الذي لا يعرف الرحمة، أو القسوة التي لا تترك للتفاهم موضعًا، أما هنا، فلا شيء من ذلك، بل لا شيء من غير ذلك؛ إذ الشاعر - كما قلنا - يكتب شعرًا مستغلقًا غير قابل للفَهْم، ولا للتذوُّق.



ثم نمضي مع "حجازي"، فنجد أنه يستهلك بعض السطور في إخبارنا بأن الدنيا ربيع، والجو بديع، وأن المدينة قد خلت من سكانها جميعًا؛ لأن اليوم كان هو الأحد، وأن عطرها قد فاح، ثم يقول فجأةً: إنه قرر أن يقوم بصيد القطا، وعبثًا نحاول أن نعرف الداعي لتلك السطور التي حدد فيها الفصل واليوم وخُلو المدينة من السكان، أو العلاقة بين هذا كله، وبين قراره اصطياد القطا، إن العقاد مثلاً في قصيدته الرائعة: "سلع الدكاكين في يوم البطالة"، وقد حدد اليوم بأنه يوم بطالة، وذكر أن الناس جميعًا قد تركوا المدينة، ومضوا في الخلوات، وهو قد فعَل ذلك؛ توطئةً للحديث عن السلع التي وجدت نفسها مسجونةً فوق الرفرف، قد حُرِمت من الحرية، ولم يذكره اعتباطًا كما فعل الأستاذ "أحمد عبدالمعطي حجازي"، وأنا أعتقد أن شاعرنا قد أخذ هذا من العقاد، فالشَّبَه واضح، وهو معجَب بشعر العقاد، وحُقَّ له؛ إذ العقاد شاعر كبير رغم تنطُّع بعض اليساريين إزاءه للهجوم الصاعق الذي كان يشنه - رحمه الله - على الفكر الماركسي المتهافت.



إلا أن "حجازي" لم يستفدْ من هذا الذي أخذه من العقاد، فشاعرنا الكبير - أي العقاد طبعًا - قال ما قاله؛ كي يخلص إلى أن الدكاكين قد أغلقت على البضائع فوق رفوفها، فشعرت جرَّاء هذا بالقيود، فثارت وهاجت، وماجت وصاحت مطالبةً بالحرية، تلك الحرية التي تعرف هي قبْل غيرها أنها مُفضية بها إلى التهلكة؛ إذ الحرية هنا معناها: أن يَشتريها المشترون، ويعتقوها من ذلك السجن، ومعروف أن المشترين سوف يستهلكونها، فلا يعود لها من ثم وجود، إلا أنها راضية تمام الرضا بهذا المصير ما دامت ستحصل على حرَّيتها، التي تؤثرها على البقاء رهينة الحبس فوق الرفوف، رغم أن بقاءها هناك يوفر عليها حياتها، وهو ينطلق من هذا إلى أن الحرية لدى الإنسان قيمة عظيمة لا تَعدلها قيمة، حتى لو كان في تلك الحرية حتْفه، وهذا واضح من موقف الجنين، الذي لو أخذت تحدِّثه من هنا إلى ما شاء الله عن الأذى الذي سوف يلحقه من الدنيا وآفاتها، إن هو خرج إلى الوجود وانعتَق من قيود الرحم، وتحاول أن تغريه بالبقاء؛ حيث هو في الدفء والأمان لم يُصْغِ إليك، بل ضرب عُرْض الحائط بما تقول، هذا ما قال العقاد، ومن الواضح أن ذكره لخلو المدينة من سكانها هو في موضعه الركين، أما عند "حجازي" فلا معنى له، كذلك فقد استوحى "حجازي" - فيما يغلب على ظني - موضوع طيف الخيال في الشعر العربي القديم، حين تكلَّم عن القطا الذي يطارده في المنام، فإذا ما قام من نومه، شَرَد.



ولكن لماذا حدد الشاعر الوقت بأنه الربيع بالذات؟ ولماذا حدد اليوم بأنه يوم الأحد؟ أوَلا يستطيع الإنسان الصيد - أو صيد القطا على الأقل - إلا يوم الأحد، وفي فصل الربيع؟ كذلك هل تصاد القطاة بقوس وسهام، وهي الطائر الصغير الضعيف؟ لقد كان العربي يستخدم السهام في صيد البقرة والحمار الوحشيين مثلاً، أما القطاة فلا أدري كيف يفكر أحد في اصطيادها بهذه الوسيلة، ولقد كان العرب يصطادون الطيور التي تُشبه القطا على النحو التالي - كما جاء في كتاب "عيون الأخبار"؛ لابن قتيبة في "باب مصايد الطير": "من أراد أن يحتال للطير والدجاج حتى يتحيرْنَ ويُغْشى عليهنَّ؛ حتى يصيدهن، عمَد إلى الحِلْتِيت، فدافه بالماء، ثم جعل في ذلك الماء شيئًا من عسل، ثم نَقَعَ فيه بُرًّا يومًا وليلة، ثم ألقى ذلك البُر للطير، فإنها إذا التقطته تحيَّرت وغُشِي عليها، فلم تَقدر على الطيران إلا أن تُسقى لبنًا خالطه سَمنٌ، وإن عمد إلى طحين بُرٍّ غير منخول، فعُجِن بخمر، ثم طُرِح للطير والحجل، فأكلن منه، تحيَّرن، وإن جُعِل خمرٌ في إناء وجُعِل فيه نبيذٌ فشربنَ منه، غُشِي عليهن، ومما يُصاد به الكراكي وغيرها من الطير، أن يوضع لهن في مواقعهنَّ إناءٌ فيه خمرٌ، وقد جُعِل فيه خربق أسود، والنقع فيه شعير، فإذا أكلنَ منه أخذهن الصائد كيف شاء.



ومما تُصاد به العصافير بأسهل حيلة: أن تؤخذ شبكة في صورة المحبرة اليهودية المنكوسة، ويجعل في جوفها عصفور، فتنقضَّ عليه العصافير، ويدخلن عليه.



وما دخل منهم لم يقدر على الخروج، فيصيد الرجل في اليوم الواحد مائتين، وهو وادع، ويُصاد طيرُ الماء بالقرعة، وذلك أن تؤخذ قرعة يابسة صحيحة، فيرمى بها في الماء، فإنها تتحرك، فإذا أبصرها الطير تتحرك، فزِع، فإذا كثُر ذلك عليه، أنِس حتى لربما سقط عليها، ثم تؤخذ قَرعة، فيقطع رأسها، ويخرق فيها موضع عينين، ثم يدخل الصائد رأسه فيها ويدخل الماء، فيمشي إليها مشيًا رويدًا، فكلما دنا من طائر، أدخل يده في الماء، فقبَض على رجليه، ثم غمسه في الماء، ثم دق جَناحه وخلاه، فبقِي طافيًا فوق الماء يسبح برجلين، ولا يطيق الطيران، وسائر الطير لا يمكن انغماسه، فإذا فرغ من صيد ما يريد، رمى بالقرعة، ثم يلتقطها ويحملها".



كما كانوا يصطادون القطا بالشاهين "أو السوذانق"، كما في الأبيات التالية من حائية الملك العماني سليمان بن سليمان النبهاني من أهل القرنين التاسع والعاشر الهجريين:



ولقد غدَوت مسومًا شوذانقًا

بجبال آيهة به ومراحا




شهمًا أحدَّ القلب أشهبَ صاريًا

غَرْثان يَنتشط الكُلى جِراحا




بعد المطارح أحجنا عِرْنِينه

سلب المناسر يقبض الأرواحا




يرمي الفجاج بمقلتي متفقد

ساط أضاع فلم يزَلْ ملتاحا




قد حرم اللبن الحليب، وقد غدا

أبدًا عليه دم القنيص مباحا




فترى الغطاط لدى الغطاط مخافة

ينجون منه ولم يجدن براحا




عفن الوكور لكي تنال بسدفة

رزقًا فأصبح رزقهن ذباحا






فموشق من صيده ومضهب

ومقدر نشل العبيط شياحا




ومضى كأشهم ما يكون مظفرًا

ندسًا يروقك نخوةً وطماحا








كذلك كانوا يصطادونه بالشبكة كما في قول الكميت بن زيد:



قبضْنَ بنا قبض القطا نُصِبَت له

شباكٌ فنجَّى بين مقص وقاطع








وقول قيس بن ذريح، مجنون بني عامر:



كأن القلب ليلة قيل: يغدى

بليلى العامرية أو يراح




قطاة عزها شرَكٌ فباتت

تجاذبه، وقد علِق الجَناح








ولقد أذكرني كلام الأستاذ "حجازي" بما قاله أحد الطلاب الصغار ونحن في السنة الأولى الثانوية، وكنا ندرس قصيدة النابغة البائية، التي يتحدث فيها عن اتباع عصائب الطير لجيش الملك اللخمي أينما ذهب ثقةً منها بأنها واجدة طعامها من جثث الأعداء الذين يجندلهم ذلك الجيش؛ إذ ظن الطالب الريفي الصغير الذي لم يرَ في حياته جثة آدمي مطروحةً في العراء تنتاشها مناقير الطيور أن تلك الطيور هي العصافير، فهو لم يرَ في حياته نَسرًا أو عُقابًا أو غير ذلك من الطيور الجارحة، فسخر منه أستاذ اللغة العربية سخريةً شديدةً، غير واضع في حسبانه أن الطالب المسكين معذور في جهله هذا، فماذا كان يكون تعليقه على قوس وسهم الأستاذ "حجازي"، الذي طوف في الآفاق ما طوف وتجاوز السبعين، وتنور في عاصمة النور، وأصبح بذلك واحدًا من زعماء التنوير في بلاد العرب والمسلمين أجمعين؟



ثم ماذا يقصد شاعرنا بـ"احتراق الوقت في العشب"؟ هَبْهُ يقصد أن الوقت قد مضى ولم يَعُدْ هناك نهار، فهل احتراق الوقت هو الصورة الموحية بهذا؟ ولو سلمنا بالاحتراق، فلماذا العشب بالذات؟ ترى، ما دلالته؟ أهو "رص كلام" والسلام؟ أين الحساسية الشعرية؟ إن الحساسية الشعرية شيء، والهذيان اللغوي والتصويري شيء آخر، وليس الشاعر مجرد مالئ فراغات على الورق، بل هو مبدعٌ خالق، فأين الإبداع والخَلق هنا؟ ثم ما علاقة البرق المرتعد - ولا أدري لماذا يرتعد - بالقطا عند ظهوره في اللوحة؟ وكيف ينحل القطا لؤلؤًا ثم ينعقد بعد ذلك؟ أترى الشاعر يريد أن يقول: إن القطا كان في بدء ظهوره متفرقًا، كل قطاة تطير متباعدةً عن الأخرى، ثم تقارب وأصبح سربًا، فكأنه حبات اللؤلؤ كانت متناثرةً ثم نظمت في سلك، فأصبحت عقدًا؟ لكن هل ما قاله "حجازي" هو السبيل إلى التعبير عن هذا المعنى؟ وهل هذه صورة موحية؟ إن هذا تشبيه شكليٌّ محضٌ، ليس فيه شيء آخر، ومن ثم يمكن أن يقوم مقامه أي تشبيه آخر، ما دامت المسألة تشبيه شكل بشكل ليس إلا.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.93 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.30 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.10%)]